ما كل هذا الدفء الذي نضحت به الشاشة في آخر حلقات مسلسل «الحارة"؟! ما كل هذه العذوبة والحنان الذي «طبطب» بهما المؤلف أحمد عبدالله والمخرج سامح عبد العزيز علي رؤوس أبطالهما؟! ما هذا النور الذي انعكس علي وجوه الأبطال جميعا؟! من أين جاء؟! ما مصدره؟! هل يمكن أن يملك من قست الحياة عليهم وحطمت أحلامهم، سماحة وبراءة تهز قلوبنا إلي هذا الحد؟! أم هي براعة المؤلف أحمد عبدالله وعيون المخرج سامح عبد العزيز هما ما نقلا لنا حياة هؤلاء البشر بهذه الصورة العذبة؟! كلا السؤالين يمكن الإجابة عنهما بالإيجاب، ففي داخل النفوس المحطمة التي عبثت بها الدنيا وخربتها، تقبع نقطة بيضاء لم يلوثها «كيد الدنيا» فتش عنها عبدالله والتقطها سامح عبدالعزيز، فأخرجا لنا أجمل ما فيهم وفينا في أهل الحارة - أهلنا القساة الطيبون الأشرار المغلوبون المجرمون الضحايا فنحن كل هؤلاء نحن هذا المزيج المربك شديد التعقيد دون سذاجة وبوعي يحسد عليه قدم لنا الثنائي عبدالله وعبدالعزيز أهل الحارة، دون أن ينجرفا وراء جدعنة الناس الغلابة الطيبين الذين ستجدهم دائماً وقت الشدة، ففي المسلسل كثير من الأنذال وكثير من السفلة ودون أن يتغنيا بالفقراء الأشراف الذين ينقلهم لنا السذج من كتَّاب الأفلام والمسلسلات علي أنهم أبطال، وكأن الفقر إنجاز، وكأن الفقراء سعداء بفقرهم ففي «الحارة» فقراء تعساء كما قال الكتاب وكما يقول الواقع يسرقون وينهبون ويغدرون، وفي «الحارة» أيضاً ودون ضجيج وصراخ مسلمون ومسيحيون يعانون نفس الفقر ونفس العوز ونفس الحاجة لا يستمتعون بفقرهم ولا يضحكون بسعادة كالبلهاء لأنهم أشراف ومرتاحو البال والضمير في «الحارة» أناس طبيعيون نصف أشرار وربع طيبين وربع مرضي معتلين يلعنون الفقر صباحاً ويقضون الليل في إجراء معادلات شديدة التعقيد لتجهيز وجبة إفطار الصباح التالي يتمنون الموت بدلاً من الحياة كالأموات يعانون الفشل الكلوي ويهلكون في القطارات المهملة التي استوردتها حكومتنا الرشيدة لبشر تهملهم وتستكثر عليهم حياة آدمية بسيطة في «الحارة» بشر يستمعون إلي خطبة في الجامع ولا يصدقون الشيخ المنفعل دوماً والذي يصدق نفسه تماماً، ثم يديرون وجوههم شطر «الغرزة" للهروب من عذاب حسابات رزق شحيح في الحارة عوانس وأرامل ومطلقات وفتيات بعن أجسادهن بلا مقابل وبمقابل، والفارق بينهن ضئيل جداً يكاد لا يري في «الحارة» أمين شرطة أصبح شرطياً يعاني كل عقد النقص يتجبر علي الغلابة ويتعاون مع الدنيا علي قهرهم في «الحارة» بيوت ضيقة كئيبة وأروح مطفئة ومتع مفقودة وقلوب تحمل كثيراً من الحزن كثيراً من القهر كثيراً من الإحباط، وبعضاً من دفء يظهر ويستدعي ببخل يعادل موضوعياً بخل الحياة التي تضن عليهم بالبهجة في «الحارة» هناك كل شيء في مصر وعن مصر حالة كشف مؤسفة واختراق واع للبيوت المغلقة علي أحزانها لكن أجمل ما في «الحارة» أن أحداً من صناع العمل لم يدع أن المسلسل يتناول قضية الوحدة الوطنية أو إهمال الحكومة أو الفساد أو المخدرات أو العنوسة أو وهم البحث عن الآثار أو مرضي الفشل الكلوي أو العمالة المصرية في الخليج أو الدعاة الجدد أو صحة المصريين التي انهارت لم يدعوا شيئاً فخرج عملهم كأصدق ما يكون، وفتح المسلسل معه الباب لنوع جديد من الدراما لم تعهده الشاشة الصغيرة التي كثيراً ما كذبت علينا ونقلت لنا حياة الفقراء الذين يعيشون في نعيم راحة البال، وأغلق معه - وهذا هو الأهم- باب البطل الأوحد في المسلسل، فكل من كانوا في «الحارة» نجوم مشرقون متألقون واعون لطبيعة وأهمية ما يقدمونه لم يتعاركوا علي زيادة مشهد أو حذف مشهد لم ينفعلوا علي طريقة وضع أسمائهم علي تيتر المسلسل مدركين أن الدور هو النجم والمخرج والمؤلف هما ربا العمل احترموا أنفسهم واحترموا ما يقدمونه، فاستحقوا احترامنا في نهاية المسلسل تشرق وجوه الأبطال المنهكين أخيراً يستدعون الفرحة ويعافرون معها كي تخرج تلقائية صادقة وللصدفة تخرج فعلاً طبيعية ومثيرة للبهجة والشجن في آن واحد، فنصدق أنهم سعداء فعلا يقف محمود عبد المغني أمام شاشة التليفزيون ليتحدث إلي برنامج استضافه بعد اختيار أمه للحج «بالشحاتة» ليقول بفرحة طفولية بريئة: شكراً يا مصر ثم خلفية لنجوم العمل جميعاً وهم فرحون ببلاهة لا يمثلونها، فهكذا يفرح من سرقتهم سكين الحياة وفرمهم قطار الدنيا، فبعد هذه الحالة من السعادة يدركون جميعاً أنهم سيعودون إلي صراعهم مع الحياة إنهم واقعيون جداً حتي إن كريمة مختار تصارح الأعمي عندما يطلب منها أن تدعو له أن يسترد بصره بأن هذا مستحيل هكذا دون مواربة فقط هم يختلسون لحظة بهجة عابرة بالتأكيد ستشحن أرواحهم للنصف ساعة القادمة، ليعيدوا الكرة مرة أخري حقا إنها نهاية تقشعر لها الأبدان البليدة قبل الشغوفة بالبشر شكراً يا مصر علي الفقر وقلة الحيلة وشحاتة الحنان والعطف والاهتمام شكراً يا مصر علي أكباد الفقراء التي أكلها الفقر والفساد شكرا علي كسرة نفوسنا وهوان أهلك عليك وعلي من يحكمونك من أهل «الحارة» إلي مصر: شكراً يا مصر وألف شكر لمن شعروا بنا وقدمونا وقدموا أهل «حارتنا» بمنتهي الأمانة والضمير بلا زيف أو ادعاء شكراً لأنهم أعادوا الصدق إلي الشاشة الصغيرة ونجحوا في إثبات أنها من الممكن أن تنقل لنا صدقاً ينفذ إلي قلوبنا وجرأة لا تخدش مشاعرنا وشجناً يطهر كل نفس راقية!