البيوت المتلاصقة لدرجة لا تتخيلها في شارع «درب البحيري».. وعلي الجانب الآخر «حارة البقلي».. هناك كافيه «جوجول».. مخزن «النوري».. كوافير «نيو ستايل» لأحدث القصات العالمية.. زاوية جامع بجانبها أفيش فيلمي «ناجي العلي» ل«نور الشريف» وSudden Death ل«فان دام».. يتوسط المشهد عربة جميز، وعربة داندورمة «جيلاتي»، وكذلك عربة ثالثة عليها الكثير من «الشباشب»، وعلي الجدران كتابات من نوعية «صبري البرنس» و«محمود الجِن». إنها الحارة في مسلسل «الحارة»، والذي تكلفت ديكوراته باستديو النيل «نحاس» بالهرم 980 ألف جنيه- الذي يبدأ عرضه بعد أيام من الآن. مسلسل «الحارة» هو العمل الثالث الذي يجمع بين المخرج «سامح عبد العزيز» وبين السيناريست «أحمد عبد الله» ومعهم مهندس الديكور «إسلام يوسف» بعد فيلمي «الفرح» و«كباريه» اللذين اقتحما عالم العشوائيات ليكشفا حالات وأشكالا مختلفة من الفساد والتناقض الاجتماعي الذي تعيشه الطبقات الفقيرة في مصر، وهو الأمر الذي يعطي مسلسل «الحارة» أهمية خاصة نظرا لأنه يحاول اقتحام عالم مختلف نوعا ما، جديد بالنسبة للدراما التليفزيونية، إلا أنه لا يوجد مقارنة بين «الفرح» وبين «الحارة»- والكلام للمخرج «سامح عبدالعزيز»- بالرغم من أن العملين تدور أحداثهما داخل حارة شعبية، وهذا ما سيظهر في المسلسل لأن اشتراكنا كمخرج ومؤلف ومهندس ديكور في عمل ثالث لا يعني علي الإطلاق أننا سنلعب علي نفس وتر «الفرح». الحارة وسط شوارع رئيسية،و10 شوارع فرعية، تدور أحداث المُسلسل، ولزيادة المصداقية تم التصوير في منطقة «الأباجية» بمصر القديمة لأن طبيعة المشاهد التي تعتمد علي Long Shot أو المشاهد المُطولة تتطلب إظهار حارة حقيقية بشكل كامل.. والسبب الثاني هو أن هناك شخصيات في المسلسل تعيش خارج «الحارة» مثل شخصية شاب من حارة شعبية مجاورة ويلعب دوره «باسم سمرة»، أو الزوجين الثريين نوعاً ما، ويلعب دورهما «حمدي أحمد» و«علا غانم».. يلاحظ أيضا أنه تم تصوير مشاهد «الشيخ تمام»- والذي يلعب دوره «صلاح عبدالله»- في شقة بمنطقة «الأباجية»، بالرغم من أنه فعلياً يسكن بالحارة، وهي الشخصية المتوقع أن تُثير الجدل، خاصة أنها تشير بشكل غير مباشر إلي عديد من النماذج المماثلة التي تحولت إلي نجوم للدعوة الدينية علي شاشات الفضائيات حيث يناقش المسلسل من خلال شخصية الشيخ تمام قضية انتشار التيار الديني داخل الحارة المصرية. «الشيخ تمام» هو إمام مسجد كان يلقي محاضرات دينية في مسجد الحارة قبل أن يتحول إلي داعية علي شاشة التليفزيون، بعد أن قابله المعد «فوزي إبراهيم» أحمد عبدالله محمود بإحدي القنوات الدينية الفضائية حيث استمع إليه بالصُدفة أثناء الصلاة بمسجد الحارة. فتاة ليل «الحارة» تجمع بين «فتاة ليل» وبين «المحجبة» التي تلعب دورها «نيللي كريم» بما يعكسه ذلك من تناقض اجتماعي صارخ.. في الحارة تجد السيدة المسيحية- والتي تلعب دورها «سلوي محمد علي»- تجمعها صداقة بسيدة أخري ترتدي الخِمار- تلعب دورها «سوسن بدر»- وهذه السيدة التي تقوم بتربية ابنة واحدة- تلعب دورها «راندا البحيري»- ليست من النوع المتشدد، فقط هي كأي أم مصرية تدافع عن سمعة- شرف البيت- فحينما تري ابنتها في شقتها مع سائق التاكسي- يلعب دوره «محمود عبدالمغني»- تنهال علي الاثنين بالضرب، وهو رد فعل طبيعي لأي أم مصرية، سواء كانت غير محجبة أو ترتدي الحِجاب أو الخِمار أو النقاب، وهناك شخصية سيدة محجبة- تلعب دورها «عفاف شعيب» لديها عباءتان فقط إحداهما سوداء قاتمة والأخري زرقاء أسود، وأخري ثالثة حمراء داكنة ترتديها في المناسبات، وهي لا تتحدث بقناعات دينية متشددة، بل هو فقط العرف بأنها سيدة محترمة ترتدي «الحجاب» لا أكثر، فالحارة التي بها المصريون «اللي بجد»- علي حد قول «سامح عبدالعزيز»- لا ينجرفون وراء أفكار سياسية أو دينية تبعدهم عن بعضهم البعض، ولهم أصول ومبادئ يعيشون علي أساسها، ولديهم أفكار سلبية تنزح بهم بعيداً عن هذه الأصول، وهو ما تجده في أي إنسان. وحتي فكرة سيطرة التيار الديني داخل الحارة الشعبية تجدها فقط لأننا شعب شرقي لديه أعراف وتقاليد لا أكثر- والكلام للمخرج «سامح عبدالعزيز»- فنحن لسنا مثل الغرب الذين يسيطر عليهم الفكر التحرري، فالواعز الديني هنا فقط يمنعك من أن تكون «فاجراً» لا أكثر، لكنه لا يجعلك متشدداً، فما يسيطر علي أفكار أهالي الحارة فكرة «إذا بليتم فاستتروا»، وهذا تحديداً ما يحركهم في أفعالهم، لكل هذه الأسباب يصبح الواعز الديني ببساطة قوياً، فحتي الحجاب يتم مناقشته في المسلسل بجملة من الحوار تقول «هو الحجاب مجرد طرحه». فتنة طائفية ومثلما ينفي المسلسل المزاعم السابقة عن انتشار التيار الديني، ينفي مزاعم الكثيرين من أن عوامل الفتنة الطائفية تنبع من المناطق الشعبية والحواري.. ويضيف «سامح عبدالعزيز»: «من يدعون للفتنة الطائفية قلة، وهذا لا يوجد في الحارة، فالحارة ليس بها جهل كما يري البعض، بل إن الكثيرين منهم واعون تماماً بما يحدث حولهم». وبالرغم من أن الحارة تميل إلي العشوائية في المُسلسل- وهو ما نفاه «سامح عبدالعزيز» - إلا أن مهندس الديكور «إسلام يوسف» أكد العكس!، ولهذا تم اختيار منطقة «الأباجية»- والتي تم تصوير بعض المشاهد الخارجية بها - لاستلهام الروح منها لصناعة الديكور، إلا أن الصعوبة في صناعة الديكور ليس في استلهام الروح فقط من منطقة مثل «الأباجية»، بل هو محاولة عمل صُنع فروق بين ديكورات منازل أبطال العمل، للتعبير عن شكل الحارة المصري الآن، خاصة أن شخصيات الحارة تتشابه في كونها تعيش بنفس المنطقة ولها نفس الطِباع، فما يميز سكان الحارة- كما سنراهم في المسلسل- أنهم من طبقة متواضعة اقتصادياً، لهذا لا يرمون أي شيء اشتروه، بل يُحولوه لشيء آخر مُفيد، فدولاب المطبخ أو «النملية»- كمثال- إن تقادم، يتم إخراجه من المطبخ لكي يصنع منه رفوف لوضع الكتب الدراسية للأطفال، ومن يذبح الخروف يضع الفرو الخاص به فوق السجادة الوحيدة الموجودة بالمنزل حتي يطول عُمر السجادة وهكذا.. وهذه تراكمات وتفاصيل الحياة الشعبية المبنية دائماً علي منطق خاص بهذه الطبقة، فلا يحركها الرفاهية، بل الضرورات. بلا قضايا لا توجد قضايا محددة تشغل المسلسل حيث يركز أكثر علي يوميات الحارة منذ الصباح وحتي المساء، أي تستطيع القول إنك تري 30 يوما في حياة «الحارة» بما في هذه الأيام من مشاعر غضب وخوف وألم وخيانة وضعف، لنتابع حياة هولاء وسط هذه المشاعر المُختلفة، إلا أن هذه المشاعر المُتلاطمة تعرض أهل الحارة لقضايا ليس هم طرف فيها، بل الظروف هي التي أجبرتهم علي أن يكونوا متورطين فيها، ف«لقمة العيش» هي أحد أهم القضايا التي يركز عليها المُسلسل، والكل يجري وراءها، فسائق التاكسي- والذي يلعب دوره «محمود عبدالمغني»- مثله مثل «مني»- التي تلعب دورها «نيللي كريم»- والتي تحاول تربية إخوتها بعد وفاة والدهم، والشاب الذي لا يجد عملاً محدداً له- يلعب دوره «سليمان عيد»- فهو تارةً يبيع أنابيب أو دقيقا أو حتي ماء لسُكان الحارة مثله مثل عامل «الفِراشة» الذي يعمل مع والده- والذي يلعب دوره «محمد أحمد ماهر»- فالظروف الاقتصادية الطاحنة تجعل هولاء لا يختلفون كثيراً عن بعضهم، وهي التي تؤدي إلي تحول العديد من الشخصيات من التمسك بمبادئ معينة إلي التخلي عنها تماماً لضمان لقمة العيش، والبحث عن «لقمة العيش» أدي إلي البحث عن «التقاليد» التي اختفت، بل و«العائلة» التي أصبحت شكلاً فقط لا روحاً وغيرها من الأشياء.. ويري «سامح عبدالعزيز» أنه بالرغم من هذا، إلا أن الحارة كشكل وروح لم تتغير كما يدعي البعض. وبالرغم من أن المسلسل يمر علي قضايا اجتماعية مثل العنوسة من خلال شخصية المرأة التي تخطت سن الزواج- التي تلعب دورها «سلوي خطاب»- وتعيش بالحارة فقيرة، إلا أنها مثقفة وصاحبة مبادئ وشاركت في الحركة السياسية بالجامعة وخرجت في مظاهرات، إلا أنه لا يُريد طرح قضايا اجتماعية أكثر من كونه يريد أن يطرح أسئلة، ف«العانس» تطرح سؤالين: ما فائدة النضال الجامعي والإيمان بالشعارات؟.. وما تأثيره الآن؟