أول أمس كانت الذكري الرابعة لرحيله، فهل رحل أصلاً، أليس هو القائل: «الموت لا يجهز علي الحياة، وإلا أجهز علي نفسه» (ملحمة الحرافيش ص 66). أليس هو الذي كتب الفقرة التالية في أصداء السيرة (فقرة 58) همسة عند الفجر «تسير وأنا في مقدمتها أسيراً حاملاً كأساً كبيرة مترعة برحيق الحياة . في مرحلة حاسمة من العمر. عندما تنسم بي الحب ذروة الحيرة والشوق، همس في أذني صوت عند الفجر. «هنيئا لك فقد حم الوداع» و«أغمضت عيني من التأثر فرأيت جنازتي». يا تري هل التقيت شيخي طاغور هناك؟ وهل كرر طاغور عليك شعره هذا؟ «قالت لي الغمامة: سأمحي وقال الليل: سأغيب في الفجر المضطرم وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه وأجابت حياتي: سأموت وأنا في منتهي الكمال وقالت الأرض: إن أنواري تلثم أفكارك في كل لحظة وقال الحب: وتمضي الأيام ولكنني أنتظرك وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر» لا أشك في أن شيخنا قد اختار الموت راضيا حين شاء الحق تعالي أن يختاره، كما أنني لم أشك أن محفوظا قد اختار الحياة طول الوقت، حتي لحظة اختياره الموت، اختار الحياة كائنا بشريا جسديا متحركا حاضرا .. وأيضا اختارها أكثر: كيانا فاعلا جميلا مضيفا بما تيسر له، فأبدع فيه. وحين تيقن أن الله تعالي قد أراد أن يجعل الأدوات أضعف فأضعف، والمجال أضيق فأضيق، اختار شيخنا أن يقولها بملء وعيه أنْ «كفي». لم يكن اختيار الحياة بديلا عن اختيار الموت، كان اختياراً متداخلا، متكاملا مكمِّلاً. حين آن الأوان: قالها شيخنا بملء وعيه أنْ: «كفي»، ومضي إليه راضيا مرضيا، ومع يقيني أن هذا حقه بلا منازع، فقد رحت أعاتبه وأنا أرثيه بقصيدتي: «لم قُلْتَها شيخي: كفي»؟ من ذا الذي يرغب في فراق من يحب؟ (أعيد) في أوائل معرفتي به شخصيا، كان الرئيس فرانسوا متران قد تأكد من قرب النهاية بعد تمادي غول السرطان، سأله أحد الصحفيين بعشم (أو وقاحة) عن توقعاته بعد الموت، وعن مدي إيمانه أو رغبته في الخلود في الجنة، فأجاب بجدية وبكل شجاعة، أنه يري أن الخلود في الجنة بلا نهاية هو أمر يدعو للملل، نقلت للأستاذ هذا التصريح متعجباً، وربما مُعْجباً بشجاعة متران ومساحة الحرية التي تسمح بمثل هذا التصريح، أطرق الأستاذ رأسه مليَّا، صمتُّ منتظرا، وطال الانتظار حتي نبهته بكل العشم أني أحتاج إلي تعليقه، قال: «أنا لا أوافقه»، قلت له «ألم تلاحظ شجاعته حتي لو اختلفنا معه؟ ألسنا نفتقد هذه المساحة من الحرية التي يتحركون في إطارها بلا سقف يُقَزِّمهم؟، قال: «ليكن، لكنك تسأل عن رأيي فيما قال، لا عن ما أتاح له إبداء رأيه». فأردفت أنني ما زلت أنتظر تعليقه والسلام، قال بعد قليل: أنا لا أوافقه. اسمع يا سيدي: أنت حين تحب شخصا أَلاَ تكون حريصا علي البقاء معه أطول مدة ممكنة؟ قلت نعم. قال: هل يمكن أن يخطر ببالك ما هو ملل وأنت تحبه فعلا ؟ قلت: لا، قال، فإذا كنت تحب الله سبحانه، فهل تشبع من قربه مهما امتد الزمن بلا نهاية، أم أنك تزداد فرحة وتَجدُّدًا طول الوقت؟». علّمني الدهر قبل الحادث النذل بعام إلا قليلا نشر محفوظ في الأهرام قصة قصيرة بعد أن غير الأهرام عنوانها دون استئذانه - كما أخبرني شيخي شخصيا!!- حتي أصبح عنوانا ضحلا هو «علّمني الدهر»، وصلني من تلك القصة الباكرة أنه يعد نفسه «بهدوء» للرحيل، وإن استغرق ذلك أكثر من اثنتي عشر عاماً. تبدأ القصة القصيرة هكذا: «آن لنا أن نرحل» إلي أن قال: «.... نصح الطبيب بذلك وإذا نصح الطبيب وجبت الطاعة، كانت إقامة طيبة، وشقة أنيقة». ثم تمضي القصة في اتجاه أن الساكن الجديد الذي سيحل محل الراحل هو أولي بالمسكن، إلي آخر ما يشير إلي أن البقاء هو للأكثر فتوة، وأوفر شبابا وأصغر سنا. ثم تنتهي القصة وهو يصعد إلي القطار، ليعلن رضاه : - من الإنصاف أن أذكر «أنها (كانت) إقامة جميلة وأنها تستحق الشكر» كتب محفوظ كل ذلك قبل الحادث النذل، ثم رحل بعد أكثر من عقد، فهل رحل أم انتقل، أم عاد، أم أنه باق بيننا، لكننا فقط لا نراه مجسدا. وبعد يا شيخي الجليل، هل تريد مني أن أمرّ عليك الليلة في الثامنة أم الثامنة والربع؟ نعم؟!!! نعم؟! ليس بعد؟!! إذن متي؟ في انتظار ردك والله العظيم.