الخميس 31 يوليو 2025.. الدولار يرتفع 15 قرشا خلال تعاملات اليوم ويسجل 48.80 جنيه للبيع    12 شهيدا وعشرات المصابين في مجزرة إسرائيلية بحق طالبي المساعدات وسط غزة    يديعوت أحرونوت: نتنياهو يوجه الموساد للتفاهم مع خمس دول لاستيعاب أهالي غزة    مانشستر يونايتد يفوز على بورنموث برباعية    رد مثير من إمام عاشور بشأن أزمته مع الأهلي.. شوبير يكشف    أساطير ألعاب الماء يحتفلون بدخول حسين المسلم قائمة العظماء    تقارير تكشف موقف ريال مدريد من تجديد عقد فينيسيوس جونيور    إصابة شخص صدمته سيارة مسرعة بمنطقة المنيب    السكة الحديد تنهي خدمة سائق قطار ومساعده بعد حادث محطة مصر    حملات الدائري الإقليمي تضبط 16 سائقا متعاطيا للمخدرات و1157 مخالفة مرورية    منير مكرم أول الحضور في وداع لطفي لبيب من كنيسة مارمرقس    ب2 مليون و516 ألف جنيه.. روكي الغلابة يخطف صدارة شباك التذاكر في أول أيام عرضه    حرام أم حلال؟.. ما حكم شراء شقة ب التمويل العقاري؟    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدّمت 23 مليونا و504 آلاف خدمة طبية مجانية خلال 15 يوما    محافظ الدقهلية يواصل جولاته المفاجئة ويتفقد المركز التكنولوجي بحي غرب المنصورة    لطلاب الثانوية 2025.. كل ما تريد معرفته عن تنسيق ذوي الاحتياجات الخاصة    لافروف: نأمل أن يحضر الرئيس السوري أحمد الشرع القمة الروسية العربية في موسكو في أكتوبر    مواعيد مباريات الخميس 31 يوليو 2025.. برشلونة ودربي لندني والسوبر البرتغالي    الشيخ أحمد خليل: من اتُّهم زورا فليبشر فالله يدافع عنه    اليوم.. انتهاء امتحانات الدور الثاني للثانوية العامة بالغربية وسط إجراءات مشددة    طريقة عمل الشاورما بالفراخ، أحلى من الجاهزة    الزمالك يواجه غزل المحلة وديًا اليوم    اعتماد المخطط التفصيلي لمنطقة شمال طريق الواحات بمدينة أكتوبر الجديدة    اليوم.. بدء الصمت الانتخابي بماراثون الشيوخ وغرامة 100 ألف جنيه للمخالفين    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    تصل ل150 ألف جنيه.. زيادة تعويضات مخاطر المهن الطبية (تفاصيل)    ذبحه وحزن عليه.. وفاة قاتل والده بالمنوفية بعد أيام من الجريمة    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 8 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    أيادينا بيضاء على الجميع.. أسامة كمال يشيد بتصريحات وزير الخارجية: يسلم بُقك    الخميس 31 يوليو 2025.. أسعار الأسماك في سوق العبور للجملة اليوم    خالد جلال ينعى شقيقه الراحل بكلمات مؤثرة: «الأب الذي لا يعوض»    لافروف يلتقى نظيره السورى فى موسكو تمهيدا لزيارة الشرع    1.6 مليار دولار صادرات الملابس المصرية في النصف الأول من 2025 بنمو 25%    وزير الإسكان يتابع مشروعات الإسكان والبنية الأساسية بعدد من مدن الصعيد    النتيجة ليست نهاية المطاف.. 5 نصائح للطلاب من وزارة الأوقاف    البورصة تفتتح جلسة آخر الأسبوع على صعود جماعي لمؤشراتها    رئيس قطاع المبيعات ب SN Automotive: نخطط لإنشاء 25 نقطة بيع ومراكز خدمة ما بعد البيع    استعدادا لإطلاق «التأمين الشامل».. رئيس الرعاية الصحية يوجه باستكمال أعمال «البنية التحتية» بمطروح    مجلس مستشفيات جامعة القاهرة: استحداث عيادات متخصصة للأمراض الجلدية والكبد    الكشف على 889 مواطنًا خلال قافلة طبية مجانية بقرية الأمل بالبحيرة    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر ويؤكد: المهم هو التحصن لا معرفة من قام به    حسين الجسمي يطرح "الحنين" و"في وقت قياسي"    الكنيسة القبطية تحتفل بذكرى رهبنة البابا تواضروس اليوم    روسيا تعلن السيطرة على بلدة شازوف يار شرقي أوكرانيا    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    "بحوث أمراض النباتات" يعلن تجديد الاعتماد لمعمل تشخيص الفيروسات للعام السادس    عقب زلزال روسيا | تسونامي يضرب السواحل وتحذيرات تجتاح المحيط الهادئ.. خبير روسي: زلزال كامتشاتكا الأقوى على الإطلاق..إجلاءات وإنذارات في أمريكا وآسيا.. وترامب يحث الأمريكيين على توخي الحذر بعد الزلزال    المهرجان القومي للمسرح يكرم روح الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    بدء تقديم كلية الشرطة 2025 اليوم «أون لاين» (تفاصيل)    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    بسبب خلافات أسرية.. أب يُنهي حياة ابنته ضربًا في الشرقية    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    الانقسام العربي لن يفيد إلا إسرائيل    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكري عيد ميلاده المئوي
محفوظ..عبقرية الابداع
نشر في أخبار اليوم يوم 10 - 12 - 2010

مهما مرت السنوات ووضعت فوق أيامها مؤلفات وكتب وروايات مملوءة بالأفكار والآراء والفلسفات يظل الكاتب الكبير نجيب محفوظ علي قمة الإبداع العربي ليس لأنه حصل علي جائزة نوبل في الآداب فحسب ولكن لأنه حقق بالفعل وجودا مغايرا للأدب ورسم بقلمه خريطة لمصر لم تعد موجودة في الواقع الجغرافي والإنساني رواياته أصبحت مرجعا قبل أن تكون متعة إبداعية فلسفية تحمل بين صفحاتها تاريخا مسجلا لمصر لم يكتبه المؤرخون إن أعماله الإبداعية أشبه بكتب الحكمة والمعرفة التي لن تنضب مهما مرت عليها السنيين . تظل أعمال محفوظ محفوظة .. في العقول والقلوب التي تريد أن تعرف وتتعلم وتفهم معني حق المعرفة.
وإذا كانت وزارة الثقافة قد خصصت عام 2011 للاحتفاء بمئوية ميلاد كاتبنا الكبير، فانه سيظل لسنوات وسنوات محتفي به من عشاق الفكر كمرجع تاريخي للكتابة والمعرفة .
في كل أعمال كاتبنا الكبير تشعر وأنت تقرأها كأنك تستمع إلي ضجيج الشارع وليس همسة هكذا يصف الأديب النيجيري وول سوينكا أول أفريقي حصل علي نوبل في الأدب عام 1986كتابات نجيب محفوظ.
عندما قررت صفحة " كلام في الكتب الاحتفاء بكاتبنا الكبير بمناسبة مئوية ميلاده لم يسعني إلا أن أقدم بعضا من خلاصة فكره من خلال سطور رواياته كمنارة يستنير فيها عشاق الفكر والمعرفة وبعضا من سطور كتابه أصداء السيرة الذاتية لما يحتوي من عبر وحكم فلسفية من خلال سطور هي أشبه بالسيرة الذاتية لتبقي دائما نبراسا يضئ بأفكاره طريق كل من يقع في هوي الفكر والأدب.
كتب يقول : في رواية ثرثرة فوق النيل :
إنك إذا استعملت الحب يوماً كمبتدأ في جملة مفيدة فستنسي حتماً الخبر إلي الأبد
إن الثورات يدبّرها الدهاه وينفذها الشجعان ثم يكسبها الجبناء
لم يعد هناك من نكات منذ أصبحت حياتنا نكتة سمجة
"لم يكن عجيبا أن يعبد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن حقاً بأنه إله
من رواية كفاح طيبة كتب يقول:
لا أحذركم إلا من عدو واحد هو اليأس
"القاعدة المتبعة في مصر أن يسرق الأغنياء الفقراء و لكن لا يجوز أن يسرق الفقراء الأغنياء"
ويقول في رواية أولاد حارتنا :
الخوف لا يمنع من الموت و لكنه يمنع من الحياة
"و من عجب أهل حارتنا يضحكون علام يضحكون ؟ أنهم يهتفون للمنتصر أيا كان المنتصر ويهللون للقوي أيا كان القوي و يسجدون أمام النبابيت يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم.
ومن رواية المرايا كتب يقول :
بت اعتقد أن الناس أوغاد لا خلاق لهم و أنه من الخير لهم أن يعترفوا بذلك وأن يقيموا
كيف نكفل الصالح العام و السعادة البشرية في مجتمع من الأوغاد؟
لا دائم إلا الحركة هي الألم و السرور عندما تخضر من جديد الورقة ، عندما تنبت الزهرة ، عندما تنضج الثمرة تمحي من الذاكرة سقعة البرد وجلجلة الشتاء
ومن رواية الشحاذ كتب يقول :
"يعتاد الإنسان الجحيم كما يعتاد التضحية بالغير، ومهما يكن من قذارة الفأر فإن منظره في المصيدة يثير الرثاء."
الحقيقة بحث... وليست وصولا
من رواية الحرافيش كتب يقول :
"عاشر الزمان وجها لوجه بلا شريك. بلا ملهاة ولا مخدر. واجهه في جموده وتوقفه وثقله. إنه شيء عنيد ثابت كثيف وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس. إنه جدار غليظ مرهق متجهم. غير محتمل إذا انفرد بمعزل عن الناس والعمل. كأننا لا نعمل ولا نصادق ولا نحب ولا نلهو إلا فرارا من الزمن. الشكوي من قصره ومروره أرحم من الشكوي من توقفه." من يحمل الماضي تتعثر خطاه.
" من رواية الفجر الكاذب"
"الوحدة في رفقة الكبرياء ليست وحدة"
أصداء السيرة الذاتية
ويأتي كتاب أصداء السيرة الذاتية ليضع فلسفة كاتبنا الكبير وخلاصة تجربته الفكرية بين سطور هذا العمل الإبداعي الذي أطلق عليه عنوان " أصداء من السيرة الذاتية:
دعاء
دعوت للثورة وأنا دون السابعة
ذهبت ذات صباح إلي مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلي سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة. وفي قلبي حنين للفوضي، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير :
بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا.
غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلي شاطئ السعادة ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلي الأبد.
رثاء
كانت أول زيارة للموت عندنا لدي وفاة جدتي.. كان الموت ما زال جديدا، لا عهد لي به عابر في الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعوري الحقيقي فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض. هكذا انتزعني النحيب من طمأنينتي، فأدركت أنه تسلل في غفلة منا إلي تلك الحجرة التي حكت لي أجمل الحكايات.
ورأيتني صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه في جميع الحجرات، فكل شخص تذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم.
وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتي لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء. وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء وهمست بحنان : لا تبق وحدك.
واندلعت في باطني ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون. وقبضت علي يدها وجذبتها إلي صدري بكل ما يموج فيه من حزن وخوف
دين قديم
في صباي مرضت مرضاً لازمني بضعة أشهر. تغير الجو من حولي بصورة مذهلة وتغيرت المعاملة ولت دنيا الإرهاب، وتلقتني أحضان الرعاية والحنان. أمي لا تفارقني وأبي يمر عليّ في الذهاب والإياب. وأخوتي يقبلون بالهدايا لا زجر ولا تعيير بالسقوط في الامتحانات.
ولما تماثلت للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلي الجحيم. عند ذاك خلق بين جوانحي شخص جديد، صممت علي الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة، إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء ، وجعلت أثب من نجاح إلي نجاح، وأصبح الجميع أصدقائي وأحبائي. هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي.
الحركة القادمة
قال برجاء حار:
جئتك لأنك ملاذي الأول والأخير.
فقال العجوز باسما:
هذا يعني أنك تحمل رجاء جديدا
تقرر نقلي من المحافظة في الحركة القادمة
ألم تقض مدتك القانونية بها ؟ هذه هي تقاليد وظيفتك فقال بضراعة:
النقل الآن ضار بي وبأسرتي
أخبرتك بطبيعة عملك منذ أول يوم
الحق إن المحافظة أصبحت وطنا لنا ولا غني عنه هذا قول زملائك السابقين واللاحقين، وأنت تعلم أن ميعاد النقل لا يتقدم ولا يتأخر
فقال بحسرة:
يا لها من تجربة قاسية !
لم لم تهيئ نفسك لها وأنت تعلم أنها مصير لا مفر منه
مفترق الطرق
عرفت في بيتنا بأم البيه - حتي اليوم لم أعرف اسمها الحقيقي فهي عمتي أم البيه. تجلس في حجرتها فوق الكنبة متحجبة مسبحة، كلما طمعت في مصروف إضافي تسللت إلي مجلسها. وعلي فترات متباعدة تقف سيارة أمام بيتنا الصغير فيغادرها البيه، قصيرا وقورا مهيبا ، يلثم يد أمه ويتلقي دعاءها
زيارة تنفخ في البيت روحا من السرور والزهور، وقد تحمل إلي علبة من الحلوي، رجل آخر يتردد علي أم البيه كل يوم جمعة. صورة طبق الأصل من البيه غير أنه يرتدي عادة جلبابا ومركوبا وطاقية وتلوح في وجهه أمارات المسكنة. وتستقبله عمتي بترحاب وتجلسه إلي جانبها في أعز مكان
حيرني أمره ، وحذرتني أمي من اللعب في الحجرة في أثناء وجوده
ولكنها لم تجد بدا في النهاية من أن تهمس لي:
إنه ابن عمتك!
تساءلت في ذهول : أخو البيه؟
أجابت بوضوح:
نعم .. واحترمه كما تحترم البيه نفسه؟
وأصبح يثير حب استطلاعي أكثر من البيه نفسه
الأيام الحلوة
كنا أبناء شارع واحد تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة وكان يتميز بقوة بدنية تفوق سنه، ويواظب علي تقوية عضلاته برفع الأثقال، وكان فظا غليظا شرسا مستعدا للعراك لأتفه الأسباب . لا يفوت يوم بسلام ودون معركة، ولم يسلم من ضرباته أحد منا حتي بات شبح الكرب والعناء في حياتنا. فلا تسأل عن فرحتنا الكبري حين علمنا بأن أسرته قررت مغادرة الحي كله، شعرنا حقيقة بأننا نبدأ حياة جديدة من المودة والصفاء والسلام. ولم تغب عنا أخباره تماما. فقد احترف الرياضة وتفوق فيها وأحرز بطولات عديدة حتي اضطر إلي الاعتزال لمرض قلبه، فكدنا ننساه في غمار الشيخوخة والبعد.
وكنت جالسا بمقهي الحسين عندما فوجئت به مقبلا يحمل عمره الطويل وعجزه البادي .
ورآني فعرفني فابتسم، وجلس دون دعوة . وبدا عليه التأثر فراح يحسب السنين العديدة التي فرقت بيننا . ومضي يسأل عمن تذكر من الأهل والأصحاب.
ثم تنهد وسأل في حنان : هل تذكر أيامنا الحلوة؟
النسيان
من هذا العجوز الذي يغادر بيته كل صباح ليمارس رياضة المشي ما استطاع إليها سبيلا؟
إنه الشيخ مدرس اللغة العربية الذي أحيل علي المعاش منذ أكثر من عشرين عاما
كلما أدركه التعب جلس علي الطوار أو السور الحجري لحديقة أي بيت، مرتكزا علي عصاه مجففا عرقه بطرف جلبابه الفضفاض
الحي يعرفه والناس يحبونه ، ولكن نادرا ما يحييه أحد لضعف ذاكرته وحواسه
أما هو فقد نسي الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو
السعادة
رجعت إلي الشارع القديم بعد انقطاع طويل لتشييع جنازة
لم يبن من صورته الذهبية أي أثر يذكر
علي جانبيه قامت عمارات شاهقة في موضع الفيلات، واكتظ بالسيارات والغبار وأمواج البشر المتلاطمة
تذكرت بكل إكبار طلعته البهية وروائح الياسمين
وتذكرت الجميلة تلوح في النافذة باعثة بشعاعها علي السائرين
تري أين يقع قبرها السعيد في مدينة الراحلين؟
ويوافيني الآن قول الصديق الحكيم : " ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين"
رسالة
وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتي.
ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.
وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس.
وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.
وتذكرت قول الصديق الحكيم . " قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان".
عتاب
همت علي وجهي حاملا طعنة الغدر بين أضلعي.
وقال الصديق الحكيم، لست أول من كابد الهجران.
فسألته أليس للشيخوخة مقام؟
فقال : غر من يعشق قصة قديمة.
ووقفت تحت شجرة الكافور أرنو من بعيد إلي الملهي.
وهي تجلس وسط الشرفة يشع منها نور الإغراء المبين.
لا يدركها كبر ولا يمسها انحلال.
وتخطاني بنظرة لا مبالية فليس لقرارها تبديل، بل وسوف أرجع وحيدا كما بدأت.
التلقين
جلست في السرادق أنتظر تشييع الجنازة.
خيمت فوقنا ذكريات ذلك العهد القديم
وجاء رجال ذلك العهد يسيرون رجلا وراء رجل
كانت الأرض تزلزل لأي منهم إذا خطا.
اليوم هم شيوخ ضائعون لا يذكرهم أحد
وجاء خلفاؤهم تنحني الأرض تحت وطأة أقدامهم
تقول نظراتهم الثابتة إنهم ملكوا الأرض والزمن
أخيرا، هل النعش فوق الأعناق فتخطي الجميع وذهب
الأشباح
عقب الفراغ من صلاة الفجر، رحت أجول في الشوارع الخالية، جميل المشي في الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف، ولما بلغت مشارف الصحراء جلست فوق الصخرة المعروفة بأم الغلام.
وسرح بصري في متاهة الصحراء المسربلة بالظلمة الرقيقة، وسرعان ما خيل إلي أن أشباحا تتحرك نحو المدينة. قلت : لعلهم من رجال الأمن . ولكن مر أمامي أولهم فتبينت فيه هيكلا عظميا يتطاير شرر من محجريه.
واجتاحني الرعب فوق الصخرة ، وتسلسلت الأشباح واحدا في إثر آخر تساءلت وأنا أرتجف عما يخبئه النهار لمدينتي النائمة
قطار المفاجآت
في عيد الربيع يحلو اللهو ويطيب، وقفنا جماعة من التلاميذ في بهو المحطة بالبنطلونات القصيرة، وبيد كل سلة من القش الملون مملوءة بما قسم من طعام. وكان علينا أن نختار بين رحلتين وقطارين. قطار يذهب إلي القناطر الخيرية ، وآخر يمضي إلي جهة مجهولة يسمي بقطار المفاجآت قال أحدنا:
القناطر جميلة ومضمونة.
فقال الآخر:
المغامرة مع مجهول أمتع، ولم نتفق علي رأي واحد
- ذهبت كثرة إلي قطار القناطر، وقلة جرت وراء المجهول حمام السلطان
حلمت مرة أنني خارج من حمام السلطان تعرضت لي جارية ودعتني إلي حجرتها لتهيئني للقاء كما يملي عليها واجبها . وألهاني التدريب عن غايتي حتي كدت أنساها. ولما وجب الذهاب ، ذهبت إلي السيدة الجميلة وأنا من الخجل في نهاية ، ووقفت بين يديها منهزما وقد علاني الصدأ هكذا تحول الحلم إلي كابوس.
وكان لابد من معجزة لتشرق الشمس من جديد.
فرصة العمر
صادفتها تجلس تحت الشمسية، وتراقب حفيدها وهو يبني من الرمال قصورا علي شاطئ البحر الأبيض
سلمنا بحرارة ، جلست إلي جانبها عجوزين هادئين تحت مظلة الشيب
وضحكت فجأة وقالت:
لا معني للحياة في مثل عمرنا، فدعني أقص عليك قصة قديمة .
وقصت قصتها وأنا أتابعها بذهول حتي انتهت.
وعند ذلك قلت:
فرصة العمر أفلتت، يا للخسارة.
رسالة لم تكتب
في عام واحد علمت بتعيين همام رئيسا لمحكمة استئناف الإسكندرية ، كما قرأت خبر تنفيذ حكم الإعدام في سيد الغضبان لقتله راقصة. كنا - أنا وهمام والغضبان - أصدقاء طفولة ، وكان الغضبان بؤرة الإثارة لجمال صوته ونوادره البذيئة ، وافترقنا قبل أن نبلغ التاسعة فمضي كل إلي سبيله ، عرفت من بعض الأقارب بانخراط همام في سلك الهيئة القضائية، وتابعت أنباء الغضبان في الصحف الفنية كبلطجي من بلطجية الملاهي الليلية.
والحق أن خبر الإعدام هزني ، وطار بي علي جناح التأمل إلي العهد القديم . وفكرت أن أكتب رسالة إلي همام أضمنها تأثري وتأملاتي. وشرعت في الكتابة، ولكنني توقفت وفتر حماسي أن يكون قد نسي ذلك العهد وأهله أو أنه لم يعد يبالي بهذه العواطف.
الزيارة الأخيرة
لولا المعلم عبد الدائم لضاع كل وافد علي المدينة القديمة، يستقبل الوافدين في مقهي المعز يفتح لكل مغلق الأبواب، وكان عبد الله أحد أولئك الوافدين، ما لبث أن ألحقه بوظيفة مساعد بواب فحمد الرجل ربه علي الرزق والمأوي وما حثه علي الرشد والتدبير حتي زوجه من بنت الحلال، وجعل عبد الله يزوره في المقهي من حين لآخر اعترافاً بفضله وإحسان ، غير أنه لما استغرقه العمل وتربية الأولاد ندرت زياراته حتي انقطعت، وبلا الرجل الحياة بحلوها ومرها ، وتصبر حتي وقف الأولاد علي أقدامهم وانطلق كل في سبيل، ومع تقدم السن شعر عبد الله بأنه أن له أن يستريح وينفض عن رأسه الهموم، وفي فراغه تذكر المعلم عبد الدائم فشعر بالخجل والندم. وصمم علي زياراته داعيا الله أن يجده متمتعا بالصحة والعافية، وقصد مقهي المعز وهو يعد نفسه للاعتذار وطلب العفو، لاحظ من أول نظرة ما حل بالمقهي من تجديد وفرنجة في الأثات والخدمة والزبائن ولم يعثر لصاحبه علي أثر، ووضح له أن أحدا لم يسمع به الذي يعرف منزله بالإمام، ولا يعرف عنه أكثر من ذلك، ولم تحل تلك الصعوبات بين الرجل ورغبته فمضي من فوره إلي الإمام ، كان يقوده شعور قوي بالوفاء ، وبأنه ذاهب إلي غير رجعة.
التحدي
في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيرا:
هل تستطيع أن تدلني علي شخص طاهر لم يلوث؟
فأجاب الوزير متحديا:
إليك - علي سبيل المثال لا الحصر - الأطفال والمعتوهين والمجانين
فالدنيا ما زالت بخير
المليم
وجدت نفسي طفلا حائرا في الطريق. في يدي مليم، ولكن نسيت تماما ما كلفتني أمي بشرائه، حاولت ان أتذكر ففشلت، ولكن كان من المؤكد أن ما خرجت لشرائه لا يساوي أكثر من مليم.
دموع الضحك
قلت له الحمد الله ، لقد أديت رسالتك كاملة، وبلغت بأسرتك بر الأمان، وانتزعت من وحش الأيام أنيابه الضارية، فآن لك أن تخلد إلي الراحة والسكينة في الأيام القليلة الباقية
حدجني بارتياب وسألني :
هل تذكر أيامنا الطاهرة في الزمان الأول؟
قرأت هواجسه فقلت :
- ذاك زمان قد مضي وانقضي
فقال بنبرة اعتراف :
يا صديقي الوحيد، في عز النصر والرخاء، كثيرا ما بكيت الكرامة الضائعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.