منذ سنوات بعيدة لاحظت أن الصمت هو غالبًا إجابتي المفضلة عن سؤال: إلي أين مصر ذاهبة إذا ما بقي واستمر نظام الحكم الحالي الذي طال عمره بالفعل (هو الأطول منذ حكم محمد علي) أكثر كثيرًا مما ينبغي أو نحتمل، واستفحل فساده وتفاقمت كوارثه وارتكاباته حتي شاعت مظاهر البؤس واليأس والخراب وعمت أرجاء الوطن كل صعيد.. في الاقتصاد والاجتماع، كما في عقول البشر وأرواحهم وأخلاقهم وضمائرهم. وأعترف بأن تفضيلي الهروب إلي الصمت والخرس سببه ومرجعه الوحيد كان الخجل والكسوف من أن أبدو قاسيًا وقليل اللياقة لو أفصحت ونطقت بالعبارة الوحيدة التي تقف متأهبة علي طرف لساني كلما سمعت أو قرأت سؤال «البلد رايح فين ؟!».. لقد كنت أستثقل أن أقول: البلد رايح في ستين داهية، لكني الآن أنطقها وأكتبها بعدما فاض الكيل وطفح واتسع كما قال القدماء «الخرقُ علي الراتقِ» حتي لم يعد هناك مجال ولا معني لخداع النفس والتذرع بالكسوف والخجل للإفلات من واجب الإفصاح والبوح بالحقيقة المرة وهي أن المجرمين وأذنابهم وأبواقهم المتوحشة الجاهلة التي تركب عقول خلق الله ليلاً ونهارًا نجحوا في صباغة وجه وطننا ومجتمعنا بملامح فاضحة مخزية ومخجلة ومثيرة للعار.. وانظر حولك وصارح نفسك من فضلك. انظر حولك وتأمل كيف أن أغلبنا جاع وتعري وأهين وضاع وانسحق وتشوه ماديًا وعقليًا حتي فقد الحدود الدنيا من وسائل الدفاع الطبيعي عن تحضره الموروث بل الشمائل اللصيقة بوجوده الإنساني ذاته كالكرامة، والكبرياء، ورهافة الحس الخلقي والروحي التي ظلت تعصم أبسط الناس وأشدهم فقرًا في بلادنا من الغوص والغرق في ضيق الأفق وانعدام التسامح، ومتعتهم علي مدي الدهر بميزة النفور شبه الفطري من القسوة والعنف المجاني. أكتب هذه السطور بمناسبتين فقط من فيض المناسبات والظواهر التي نكابدها كل يوم.. أولاهما حادث الاعتداء الوحشي الذي تعرض له شاب رائع يدعي لو يهمك اسمه «محمد طلال»، عندما كان يجلس ليلة رأس السنة في أحد مقاهي القاهرة وعلم بعض رواده الملتاسين في عقولهم وضمائرهم أن الشاب ليس إسرائيليًا ولا صهيونيًا بل عربي من الجزائر الشقيق عندها انفجر ركام السفالة والجهالة التي حقنهم بها إعلام الصياعة الإجرامية مؤخرًا فانطلقوا «يناضلون» في واحد من بني جلدتهم وأوسعوه ضربًا وإهانة حتي وقف علي حافة الموت لولا تدخل عدد من أصدقائه المصريين الذين حاولوا إنقاذه ونقلوه بسرعة إلي المستشفي حيث أجريت له عدة عمليات جراحية خرج بعدها بعاهة مستديمة في الوجه!! ولست أعرف بماذا سيشعر هؤلاء الذين تخربت أرواحهم وانحطت أخلاقهم فارتكبوا جريمة الاعتداء علي «طلال» بغير سبب ولا جريرة عندما يعرفون أنه رفض رفضًا قاطعًا أن يتخذ من هذا الحادث البشع ذريعة لمغادرة مصر أو التشهير بشعبها لدرجة أنه لم يبلغ أهله بالحادث حتي الساعة، وقال للعبد لله شخصيًا علي الهاتف «لا يمكن أن أسمح لنفسي مهما حدث أن أشارك في جريمة الإساءة لعلاقات الأخوة بين مصر والجزائر. المصريون أهلي وأخوتي ومن صفوفهم خرج أجمل وأنبل أصدقائي وسأحتقر نفسي إلي الأبد لو أخذت هذا الشعب الطيب العظيم بفعلة حفنة قليلة من الشباب الذي زيف الإعلام وعيه وحرضه..»!! فأما المناسبة الثانية فهي فجيعة المجزرة الشنيعة التي وقعت ليلة عيد الميلاد المجيد (أمس الأول) وكان حصيلتها سبعة شهداء (من بينهم جندي شرطة) إضافة إلي تسعة جرحي سقطوا جميعًا عندما فتح مجرمون جبناء النار علي حشد من المواطنين العزل الأبرياء كانوا قد فرغوا للتو من أداء صلاة العيد في إحدي كنائس مدينة نجع حمادي!! بالله عليك عزيزي القارئ ماذا أكتب وبماذا أعلق ؟!.. يبدو أنه لم يعد عندي ولا عندك سوي المزيد من الإمعان في الخجل والمزيد من الاعتذار.. نعتذر لأنفسنا وأهلنا وأحبتنا الذين يصابون ويسقطون شهداء عجزنا وجبننا وصمتنا علي العار.. أنا شخصيًا في أشد الحاجة لكي أعتذر ل «محمد طلال»، ولأصدقائي وأخوتي: أمين إسكندر، وإيمان فرج، وجورج إسحق، ونبيل حكيم، وسمير، وجورج، ورضا وغيرهم.. كل عيد ميلاد وأنتم بخير وسلام.