لا شيء ربما يوجز مغزى هدف الكاتب والاعلامي العراقي صلاح النصراوي بعد اكثر من اربعة عقود قضاها في العمل في الصحافة العراقية والعربية والدولية بكتابة سيرته الشخصية والمهنية والتي صدرت مؤخرا عن دار نشر بدائل في القاهرة اكثر من عنوانها "حياة من ورق".عنوان يغري القارئ بالاستنتاج بانه لابد ان يرتبط بمهنة المؤلف كصحفي وكاتب والعلاقة الاكيدة التي ارتبط بها مع الورق، الا ان القراءة المتأنية ستجد في النهاية انها اكثر من ذلك وانها كناية عن الزمن العراقي والعربي الذي عاشه وشاهد وقائع الكثير من احداثه الكبرى وهو يصنع امام ناظريه، ولكنها لا تنتهي الا الى تاريخ من الخيبات مكانها الوحيد ورق بين دفتي كتاب. في خاتمة الكتاب وبعد ان يقدم جردا بخساراته ومكاسبه الشخصية تتضح هذه بشكل اكثر وضوحا حيث يكتب "في رحلة حياتي رأيت العراق وطني يحتل ويهان ويدمر ثم يتلاشى كدخان حرائق.شاهدت كيف يتسيد عليه الافاقون وعديمو الرحمة وناقصو الذمة ومنزوعو الولاء وكيف يسرق ثرواته اللصوص والفاسدون.كما شاهدت العالم العربي وهو ينهار في لجج الحرمان والفساد والتخلف والظلام ورأيته يثور دون ان يتمكن من اطفاء شهوته للحرية." وهكذا ينضح ان ما سطره في النهاية كان نسيجا من سيرة ذاتية مهنية حافلة وسيرة زمن اسثنائي عاشه لم تجد مكانها الطبيعي لديه الا على الورق الذي يراه انه اكثر الاماكن التي تليق بان تحتفي بتجربته من اي مكان أخر.
يشكل الفصل الاول في الكتاب المعنون "الوهلة" نقطة انطلاق في تلك السيرة التي ستسطر على مدار 355 صفحة وستة فصول حيث يكتب عن بغداد التي ولد وترعر فيها في العقد السابق لسقوط النظام الملكي عام 1958 وبدء تاريخ جديد للعراق بسلسة من الانقلابات العسكرية التي يراها بانها وضعت العراق على سكة الدم والدمار الذي وصلت نهايته الان.يرسم النصراوي في هذا الفصل صورة بانورامية مكثفة للمدينة عبر احيائها وازقتها وشوارعها واناسها بتنوعهم حيث يدل كل شيء على انها مدينة تخرج من ظلامات الاحتلالات الاجنبية التي مرت عليها عبر قرون لكي تصبح عاصمة كوزموبولتينية لدولة حديثة ناهظة.
في "السبيل"، وهو عنوان الفصل الثاني يستمر النصراوي بنسج خيوط السيرة الذاتية مع سيرة المدينةوالعراق كله بطريقة تكشف كيف ان وحشية السياسة التي توجت بالانقلاب البعثي عام 1968، كما يكتب، قد انعكست على الحياة فيها وسلبتها روحها ونالت من حيويتها التي ظلت تشع في ارجائها حتى في احلك ساعاتها ظلاما في العقود السابقة.ولان "السبيل" يغطي سنين التكوين فانه حافل بالكلام عن صورة العيش في تلك المرحلة التأسيسية لنظام البعث بالنسبة للمعارضين العراقيين الذين كانوا يرونه نظاما قمعيا شموليا سرعان ما تحول بعد ذلك الى نظام يقوم على حكم الفرد وعبادته.ورغم التكثيف الذي ربما استدعته الحاجة في هذا الفصل من اجل الانتقال الى مراحل اخرى اكثر فاعلية في حياة المؤلف الا ان هذا الفصل يكشف عن وقائع مثيرة عن حياة المثقفين العراقيين وعلاقتهم بسلطة البعث ويستعرض شيئا من تجربته الذاتية في الصمود في مواجهة التهديدات والضغوط والاغراءات.
اما في "الخضم" وهو عنوان الفصل الثالث فيمضي الكاتب ليتفحص مرحلة خطيرة من تاريخ العراق وهي مرحلة الحرب مع ايران ثم غزو الكويت وحرب الخليج الثانية التي عاشها اما كجندي خدم في بعض ابرز المؤسسات الدراسية العسكرية العليا او كصحفي او كمراسل صحفي لاجهزة اعلام دولية حيث يتناولها من مواقعه المختلفة تلك ومن خلال التزام المواطن وبصيرة المثقف فيقدم تجربة تكاد تكون فريدة في السعي للتوازن بين متطلبات كل موقع في ظروف في غاية الصعوبة والتوتر والقلق.ولا يبدو شيئا غريبا ان ينتهي الفصل باسدال الستار على تجربة النصراوي المهنية في العراق وخروجه الى المنفى بعد معركة عاصفة مع النظام ظاهرها تغطيته لحرب عام 1991 وللانتفاضة الشعبية التي تلتها وحقيقتها تصفية حساب لصراع دام نحو عقدين من الزمن مع نظام البعث. الفصل الرابع المعنون (السُرى) يضم بين صفحاته تفاصبل تجربة جديدة للنصراوي كأول عراقي يعمل مراسلا لوكالة الانباء الامريكية الاسوشيتدبريس في الشرق الاوسط وهي مهمة يروي الكثير من تفاصيل الاحداث والدول التي عمل فيها خلال فترة عصيبة في تاريخ المنطقة شهدت تطورات بارزة ساهم بتغطيتها وعلى رأسها عملية السلام في الشرق الاوسط وتنامي ظاهرة الارهاب الدولي وغزو العراق واحتلاله واخرها مقدمات وارهاصات الثورات العربية والحراك الذي ادى الى اندلاعها.ما يرويه النصراوي في هذا الفصل وخاصة بالنسبة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي عمل على تغطية اخبارها كمراسل مقيم في تونس اثناء مفاوضات السلام مع اسرائيل وبعد ذلك جهود المعارضة العراقية في العمل مع الولاياتالمتحدة في غزو العراق وتطورات لا حصر لها على مدى عشرين عاما من عمله في المنطقة يضفي الكثير من الخلفيات على ما حصل لاحقا وهو ما يدعوه النصراوي ب"تاريخ الضفاف" اي حياة الصحفي التي عاشها مستبصرا حركة الاحداث الدائبة في المركز والهامش.
في الفصلين الخامس (الحضور) والسادس (المسائل) يستعرض الكاتب تجاربه الشخصية والمهنية ازاء موضوعات عاشها او تناولها في اعماله او قضايا تتعلق بطبيعة العمل الصحفي كمراسل في وكالة انباء امريكية كبرى في الشرق الاوسط.وسواء اكانت الموضوعات التي يكتب عنها بشأن قضايا حقوق الانسان او اللاجئين او الفساد او الدور الامريكي في المنطقة او التطبيع او العلاقة بين العمل الصحفي والجاسوسية، او تلك التي تتناول الجوانب المهنية في الصحافة كالعمل كفريق متنوع الخلفيات الدينية والعرقية في غرفة الاخبار في وكالة عالمية او الاستقلالية التحريرية للمراسل او تغطية المؤتمرات الصحفية او سرقة الافكار فانها جميعها تكشف عن زوايا من النادر ان تم تناولها سابقا من قبل صحفيين عملوا في هذا المجال.
لا يبدو ان "حياة من ورق" هو من الجنس الببلوغرافي او كتب السيرة التي وضعت لمجرد البوح او رغبة لمشاركة القراء لحياة وتجربة مليئة بالاحداث والوقائع بل هي شهادات حية عن زمن عراقي وعربي عاشه المؤلف من خلال مهنة لم تكن مهنة للبحث عن المتاعب فقط، ولكنها كانت عملا انتحاريا ومغامرة في قلب البراكين والاعاصير المدوية التي كان عليه ان يخوض غمارها واحدة تلو الاخرى.ما يمنحه جدارة الاستمتاع بالقراءة هو مقارنة ما دونه النصراوي عن زمن عابر عاشه مع احداث عصرنا حيث سنجد البينات على الانكسارات التي تلت كل الامال التي بنيت على دولنا ومجتمعاتنا العربية وما الحقته بنا كبشر من انيهار مواز.
ولم يكن غريبا، كما يكتب في الخاتمة، ان ينهي مسيرته الصحفية كمراسل بطريقة بدت له جديرة بكل تلك الحياة التي عاشها حين قدم استقالته من عمله في وكالة انباء الاسوشيتدبريس في خطوة احتجاجية على تغطية الوكالة لثورات الربيع العربي وبعد ان وجد نفسه كما ذكر حائرا بين تناقضات مؤلمة، بين كونه صحفيا عربيا في وكالة انباء عالمية، وبين عدم قدرته على العمل وفق قناعاته الفكرية والسياسية، واضطراره ان يكون اسيرا لتوجهات الآخرين.