طرأت لذهني منذ أن بدأت أزمة المحامين والقضاة أن ثمة حاجة ماسة لمؤتمر وطني لإصلاح النيابة العامة، فاستقلال القضاء أجندة لها من يحمل همها - حتي لو لم تكن النتائج حتي الآن أقل من المأمول - والشرطة أصبح أداؤها موضع رقابة حقوقية أكبر وأكثر تأثيرا، أما النيابة العامة فلم يحمل هم تطويرها وإصلاحها أحد. وفي لقاء مع منتصر الزيات -المحامي- بمكتبه طرحت الفكرة بحضور الصديق عصام عامر -رئيس تحرير جريدة الديار الأسبوعية- وفي نهاية اللقاء انتقلنا لمكتب أحد رجال القضاء السابقين لأشهد محاولة لحل الأزمة بحضور الأستاذ «عصام الإسلامبولي» المحامي المعروف. فتح منتصر الزيات موضوع المؤتمر فتحمس لها الأستاذ عصام الإسلامبولي جدا وخرجنا من اللقاء متفقين علي ترتيبها في أقرب وقت من خلال مركز المستقبل للدراسات الذي شاركت منتصر الزيات في تأسيسه قبل سنوات. وما أتصوره أن ينعقد مؤتمر تشارك فيه وزارة العدل والنقابة العامة للمحامين ونادي القضاة والمجلس القومي لحقوق الإنسان وجمع من الشخصيات العامة ذات الصلة. ومع تصاعد دعوات الإصلاح - وحركات الاحتجاج - من القوي السياسية والفئات المختلفة يبدو ملحا فتح ملف وضع النيابة عموما: استقلالها - حدود دورها بين التوسيع والتقسيم والتقليص. ومناقشة ما إذا كانت هناك مشكلة في الموارد البشرية أو في تضخم المهام. وهل هناك حاجة إلي التوسع في النيابات المتخصصة؟ والسؤال الأهم هو ما إذا كانت هناك حاجة إلي عودة نظام «قاضي التحقيق» أم لا؟ وقد أصبح ملف العلاقة بين النيابة والشرطة من ناحية وبين النيابة والمحامين من جهة أخري مليئا بالعديد مما يجب مناقشته، وقد رأيت بنفسي في تجربة شخصية كيف يتم إفساد تحقيق رسمي في النيابة العامة وكيف يصدر قرار حفظ في قضية بالمخالفة للقانون ويصبح إلغاؤه بالطريق القانوني أقرب إلي المستحيل بسبب التحصين المبالغ فيه لقرارات النائب العام ونوابه ضد الطعن عليها فضلا عن المشقة الشديدة التي يتطلبها الطعن علي هذه القرارات. ومن ناحية أخري، من الملاحظ أن رجال القضاء ليسوا فوق المساءلة ويعلن من آن لآخر عن معاقبة قاضٍ أو حتي سجنه لمخالفة القانون، والأمر نفسه يحدث لرجال الشرطة - حتي لو كانت العقوبات التي توقع عليهم أقل مما يحقق العدالة - أما رجال النيابة فلا أذكر أنني قرأت ما يشير إلي محاسبة أحدهم وكأنهم ملائكة، وهذا الواقع الغريب يطرح تساؤلا مشروعا عن «تفتيش النيابات» ودوره ومدي إتاحة المعلومات عن عمله. والنظر في أمر صلة النيابة العامة بالسلطة التنفيذية من أهم قضايا إصلاح النيابة العامة، فدورها - الذي يري قانونيون كثيرون أنه أوسع مما ينبغي- يتطلب تقييد عملها بنوعين من القيود: من أعلي بوضع ضمانات صارمة لتحصين رجالها من ضغوط السلطة التنفيذية، ومن أسفل بتسهيل إجراءات مخاصمة النائب العام ووكلائه، ومنح أطراف عملية العدالة مساحة أوسع. وبطبيعة الحال سيطرح المؤتمر قضية العلاقة بين النيابة العامة وشركائها: القضاة والمحامين ورجال الشرطة، ومن المؤكد أن الاستعانة بتجارب الأمم الأخري لا يقل أهمية عن الاستماع لشكاوي الأطراف المختلفة ومطالبها، مع طرح المشروعات التي أطلقتها منظمات حقوقية لإصلاح النيابة العامة. وقد شهدت السنوات الماضية بمعدل ملحوظ انتقال رجال شرطة إلي صفوف النيابة العامة، وهو ما يقلق كثيرين!! وهمسا عن عملية «توريث» لوظائف النيابة العامة، وعليه فإن الأهمية الكبيرة للنيابة العامة ودورها في نظامنا القانوني تفرض إعادة النظر في معايير اختيار رجال النيابة العامة لمنع السلطة التنفيذية من السيطرة عليها - حتي لو تمت السيطرة بقفاز حريري - ولمنع ظاهرة التوريث من أن تتوسع لتصبح المؤسسة شبكة من العلاقات العائلية. وإذا كنت أدعو إلي مؤتمر وطني لإصلاح النيابة العامة - وآمل أن تري الفكرة النور قريبا - فإنني آمل أن تكون مناسبة للدعوة لانعقاد «مؤتمر العدالة الثاني»، وفاء لذكري رجل اسمه المستشار «يحيي الرفاعي» رحمه الله رحمة واسعة.