رغم أن نكسة 1967 شكَّلت علامة فارقة فى التاريخ المصرى وفى تاريخ المصريين أيضا، إن لم يكن العرب عموما، فإن قلة الروايات التى استدعت الحدث تمثل علامة لافتة للانتباه، خصوصا فى الرواية المصرية، باعتبار أن مصر كانت المعنية بالحدث، فباستثناء مجموعتَى نجيب محفوظ «تحت المظلة» و«خمارة القط الأسود» وروايته «الكرنك» (الأخيرة نُشرت فى عام 1974) فضلا عن روايتَى الغيطانى «أوراق شاب عاش ألف عام» التى نُشرت أواخر عام 1969 والقعيد «الحداد» التى نُشرت بعدها بشهور، لن يمكننا معرفة لماذا صمت الجميع عن النكسة. وإن كان هذا الصمت السردى وازاه هدير لما سمى فى ما بعد شِعْر المقاومة. وفى ظنى أن سبب الصمت يمكن قراءته فى ضوء الصدمة التى خلقها حادث 67، وهى صدمة كان شِقَّى رحاها المتخيَّل والواقع، ذلك أن الصدمة لم تكن بفعل هزيمة الجيش وإنما بفعل الفارق الكبير بين ما كان جيل الثورة يتخيله عن نفسه وعن ثورته وعن قيادته الثورية وبين ما اكتشفه كواقع حقيقى حين وضعه يوم 5 يونيو فى مواجهته. ولأن السرد يلزمه موقف من العالم يأتى بعد طول جهد لم تكن اللحظة شديدة الاضطراب مواتية للسرد بسبب الإحساس العام بأنه ليس ثمة من أرض تحت الأقدام. ورغم اضطراب اللحظة فإن صوتين قادمين من قلب ساحة المعركة (حتى وإن لم تكن هناك معركة بالمعنى الحقيقى) تمكَّنا من صنع سردية، تفصح رغم إرادة الإخفاء، وتُخفى رغم إرادة الكلام. ذلك أن الروايتين اللتين أرادتا أن تَسردا الهزيمة كشفتا على نحو رائع عن سرد الانتصار لا عن سرد الهزيمة. ففى الروايتين اللتين تفضَّلت دار الشروق بنشرهما ضمن مشروعها المهم «نصوص متميزة» وهما «الأسرى يقيمون المتاريس» لفؤاد حجازى، و«خطوات على الأرض المحبوسة» لمحمد حسين يونس، سرد يحكى عن نكسة يونيه ولكنه يحكى أيضا عن النصر الذى انطوت عليه اللحظة/ النكسة رغم اضطرابها.
الروايتان تتحدثان عن حادث واحد وهو وقوع عدد من الجنود المصريين أسرى فى يد الجيش الصهيونى، حيث تم ترحيلهم إلى معتقل «عتليت»، فى قرية بجوار حيفا على البحر المتوسط، وبقاؤهم لعدة شهور فى الأَسْر. والروايتان تعدان شهادتين لاثنين ممن تم أسرهم بالفعل، أى أن الكاتبين لم يكتبا روايتيهما كتخييل ولكن كسيرة ذاتية، وإن كانت رواية حجازى تكاد تكون تخييلا رغم أنها لا تحيد عن الواقع أبدا، ذلك أن فؤاد حجازى روائى فى المبتدأ وفى المنتهَى، وفى رأيى أن روايته «الأسرى يقيمون المتاريس» كانت حَريَّة بأن تجعل منه واحدا من أهم روائيينا.
وبينما تنشغل رواية حجازى -ربما لأنه روائى بالأساس- بما تفعله النكسة بالجنود كآدميين، تنشغل رواية يونس بالسؤال: لماذا؟ كما لو أن حجازى يجيب عن سؤال الكيفية، بينما يسأل يونس عن تفسير لما حدث، رغم أن سؤالَى ال«كيف» وال«لماذا» حاضران بلا شك فى اللحظة نفسها.
رواية حجازى تنشغل أكثر بالتفاصيل، هنا يمكننا معرفة الأغنيات التى كان الجنود المصريين يَحتَمُون بها من الانكسار، يمكننا معرفة أن ثمة شخصا ضخما يُدعى إبراهيم يفضّل شعره مهوشا ويجد انبساطا كبيرا فى تدخين الشيشة، خصوصا البورى البورسعيدى، وأن آخَر يُدعى أحمد، معجبانى ويدفع الحساب بأريحية. بينما فى رواية يونس لن يمكننا ذلك، لا لأنه كان زاهدا فى ذلك، ولكن لأن انشغال الرواية كان بالأساس بالعلاقة الأيديولوجية بين الجنود الأسرى وبين آسريهم الصهاينة، وعمليات غسل المخ التى كان الصهاينة يقومون بها ليل نهار وفق استراتيجية مدروسة يفطن إليها يونس نفسه كشخص مثقف. كذلك لأن يونس ينشغل بالكشف عن أسباب النكسة، بداية من الأخطاء المربكة على خط النار فى سيناء، وتخبُّط التعليمات، مرورا بالخطة المحكمة التى باغت بها العدو جيشنا، وانتهاء بالعودة مرة أخرى لمصر والتلويح بأن ثمة تداركا للأخطاء فى طريقه للتحقق، بما يؤهل للنصر الذى جاء به عام 1973. ولذلك فإن رواية حجازى لن يكون بها هذا القدر المبالَغ فيه من المناقشات، سواء تلك التى تدور فى عقل الراوى الأسير، أو تلك التى تدور بينه وبين آسريه. فإن رواية حجازى تنشغل بالمتخيَّل فى رأيى بقدر ما تنشغل رواية يونس بالأيديولوجى.
ورغم اختلاف الروايتين فإنهما سوف يسربان إلى قارئهما إحساسا بأن المصريين لم يُهزموا فى 67، لأن كفة الصراع وإن كانت تميل عسكريا إلى صالح الآسِر فإنها كانت تميل حضاريا إلى صالح الأسير. لقد كانت شهور الاعتقال حربًا أخرى بين طرف يحاول إقناع الآخر بأنه قد هُزم فى المعركة وبين طرف يحاول أن يُفهِم الآخر أن المعركة لم تنتهِ بعد، وأن شعبا لديه كل هذا الموروث الحضارى لا يمكن هزيمته من أمة تشبه الأمم ومن دولة تشبه الدول فحسب، كدولة إسرائيل.
يشهد حجازى ويونس فى روايتيهما بأن الجنود المصريين حين رفض الإسرائيليون مطالبهم فإنهم سرعان ما نظموا أنفسهم فى ما يشبه المظاهرة وعَلَت الهتافات «ناصر.. ناصر»، حتى بعد أن أذاعت الإذاعة الداخلية من «عتليت» بيان التنحى فإن المصريين شددوا على تمسكهم بعبد الناصر كرمز لمصر لا كقائد مهزوم، مما أغاظ الإسرائيليين، حيث مثَّل هذا الهتاف، الذى كان له مثيل فى مصر وبعض الدول العربية، رغبة فى الإبقاء، لا على عبد الناصر، وإنما على مسار المعركة، لأن موافقة الأسرى والعرب على تنحى عبد الناصر كان سيؤوَّل على أنه اعتراف بالهزيمة، أما الإبقاء عليه فى هذه اللحظة فكان معناه أن المعركة لم تنتهِ بعد، هذا إذا كانت قد بدأت أصلا.
يقول راوى حجازى فى مقطع مهم «الإسرائيليون كانوا يطلقون النار، لسبب، وبغير سبب، كأنما يريدون التأكد من أن ما يفعلونه بالمصريين، حقيقة، وواقع، وليس تخيُّلا» وهو ما يشى بأن الجيش الصهيونى كان لديه وعى حقيقى باستحالة هزيمة المصريين لا كجيش وإنما كشعب، وذلك لأن المصريين يمكنهم فى أى لحظة إقامة متاريسهم الحضارية لمواجهة العدو. «كنا نعيد تلحين الأغانى بما يتفق ورغبتنا فى التهريج وإدخال السرور إلى نفوسنا»، هذا فى الوقت الذى لم يكن بمقدور الآسرين الصهاينة غناء الأغنية ذاتها، لأنهم أشتات بشر فمن المغرب لروسيا لبولندا لألمانيا وغيرها جاؤوا ليعيشوا فى ما يشبه الوطن دون أن يكون لهذا الوطن من معنى، فمدينة «عتليت» نفسها ذات الاسم الرومانى تبعد خطوات عن حيفا الفلسطينية ذات الإرث الحضارى الذى يمتد لأبعد من تاريخ اليهود واليهودية نفسها.
هذه المتاريس يفهمها أيضا راوى يونس الذى يمكنه مجادلة أوهام الصهاينة عن الديمقراطية المزعومة، حتى حين يسأله المحقق عما إذا كان والداه قد أوحشاه فإنه يقول ببساطة «متعودان على ذلك.. وأنا معتاد على أن أعيش بعيدا عنهما مُددًا طويلة» فى الوقت الذى يقول فيه راوى حجازى «كنا نقرأ رسائل بعضنا بعضا ونشعر بأن أى رسالة موجهة إلينا جميعا»، كانت هذه الجملة تحديدا تعبير حقيقى عن المتاريس التى يصنعها الأسرى وهى متاريس مؤسَّسة على المشترك بين المصريين، وهى المتاريس التى لم يكن فى مقدور الإسرائيليين صنعها.
وإذا كان من الصحيح أن يونس ينتهى فى روايته إلى أن أسباب النكسة يمكن تلخيصها فى أمر واحد وهو أن مصر لم تبنِ دولة عصرية فى عالم كان قد تم عصرنته تماما إن جاز الوصف، وأن ذلك يتضمن فشل الدولة الاشتراكية الحديثة التى صنعها عبد الناصر لعدم تخلصها من برجوازية الطبقة الوسطى التى قامت بالثورة، وهو ما كشفت عنه شهادة يونس فى الطريقة التى كان القادة أو أصحاب الرتب الكبيرة يتمايزون بها عن الجنود، سواء فى ما قبل الحرب، أو حتى داخل معتقل «عتليت»، حين حاولوا تمييز أنفسهم فى الأكل والشرب، على الأقل فى الأيام الأولى للأَسْر، فإن يونس يشارك حجازى فى الاقتناع بأن احتمال عصرنة مصر يظل قائما ما دام لها هذا التاريخ الذى صنع وطنًا يمكنه فى أى لحظة إقامة متاريسه الحضارية، بينما تظل عصرنة العدو الصهيونى عصرنة غير مؤسَّس لها، لأنها عصرنة غير ذات وطن، إن جاز القول، ولذا فقد أفصحت الروايتان عن أن حادث 1967 كان حادثا طارئا، وأن الهزيمة التى كانت لم تكن هزيمة حقيقية، وأنه إذا كان الجيش قد خرج مهزوما فإن الشعب لم يكن فى المعركة أصلا ولذا فإنه لم يُهزم، وإنه إذا كان من الصحيح أن الهزيمة لا تكون بهزيمة الجيوش وإنما بكسر الإرادة فإن الإرادة التى استطاعت الإبقاء على هذا العدد الكبير من الأسرى داخل سجن «عتليت» بلا أى إحساس بالهزيمة هى وحدها القادرة على صنع المتاريس حتى وإن كانت على الأرض المحبوسة.