أظن أن أحداً في هذه الدنيا لن يلتفت إلي أن القاهرة كانت يوم الخميس الماضي مسرحاً لواحد من مشهدين يلخصان ببلاغة مفارقات القدر الصارخة وملامح حال الاختلال والتناقض المريع الذي تعيشه الجماعات البشرية المختلفة والمحشورة معاً فوق سطح كوكب الأرض. المشهد الأول (مشهدنا) كان بطله كالعادة التليدة الرئيس حسني مبارك الذي دشن عودته إلي عاصمة البلاد بعد غياب مرضي جاوز الشهرين بخطاب (خطاب عيد العمال المؤجل) بدا نموذجاً خرافياً لأثر الجمود وإلغاء معني الزمن نفسه، إذ لم يستطع أغلب من سمعوه أن يتخلصوا من شعور خانق بالملل، ليس فقط لأنهم سمعوا بهذا الكلام وشاهدوا المنظر عينه مليون مرة من قبل، بل ربما داهم كثير منهم وهم يستمعون ويتفرجون علي مشهد الخطاب إحساس مبهم وقوي بأنهم غالباً عاشوا هذه الحياة نفسها بكل صورها وتفاصيلها في عصور وأزمان سحيقة سابقة. لقد أكمل الرئيس (أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية) قبل أيام قليلة، عيده الثاني والثمانين ويتأهب للاحتفال في العام المقبل بالعيد الثلاثين لحكمه، ومع ذلك (أو بسبب ذلك) لست بقادر علي إنكار إعجابي بقدرة سيادته غير المحدودة علي مقاومة الملل وسأم التكرار.. تكرار كلام إنشائي يخاصم أي معني، وتكرار التذكير ب «إنجازات» تعجز الأغلبية الساحقة من الناس عن رؤيتها، ثم إعادة واستعادة «عهود» و«وعود» لاتتحقق أبداً ويحدث عكسها تماماً، كالتعهد مثلاً بنزاهة ونظافة الانتخابات فإذا بها تنظف فعلاً ولكن من الناخبين والمرشحين علي السواء، وكالغناء الدائم للعمال والفلاحين والفقراء عموماً وتكرار الإعلان بمناسبة ودون أي مناسبة «الانحياز» لهم والدفاع عن حقوقهم، بينما الواقع الكئيب ينطق بحالة مجتمعية فريدة، خلاصتها أن ثلاثة عقود من تطبيق سياسات الانحياز الفاجر للأغنياء والمتخمين والنهابين والمكنزين للثروة الحرام انتهت إلي أن صارت حفنة محدودة من المليارديرات وأصحاب الكروش الواسعة تحكم بنفسها وتُشرع لنفسها وتتحكم بالقوة في مصائر شعب نصفه ينتظر حالياً راحة الموت جوعاً علي أحر من الجمر !! غير أن إعجابي بقدرة الرئيس الفذة علي مغالبة الملل والسأم وقهرهما انقلبت أعترف إلي انبهار حقيقي واستلاب عقلي كامل عندما انتقل خطاب سيادته من حديث «الوعود» و«العهود» و«الإنجازات» إلي توجيه «الإنذارات» و«التحذيرات» والتهديدات المبطنة والصريحة لكل القوي الحية في المجتمع التي تتململ الآن وتجتمع علي تنوعها واختلاف مشاربها علي مطلب التغيير الديمقراطي الشامل والإفراج الفوري عن حق الشعب المصري في التمتع بحريته كاملة غير منقوصة، وإنهاء جميع مظاهر ونتائج عملية السطو المسلح الطويلة علي السلطة والثروة. والحال أن الرئيس كان بإمكانه أن يواجه هذا «التململ» المسمي «حراكاً» إما بالصمت والتجاهل أو بسلاح كلام «الإنشاء» المعفي من الجمارك والخالي من أي معني و..خلاص، لكنه بهرني باختياره الهجوم بالتهديدات والإنذارات ضارباً الصفح عن كل شيء وأي اعتبار، بما في ذلك معطيات وحقائق الزمن شخصياً!! هنا بالضبط مكان المشهد الثاني البعيد الذي نوهت عنه في مطلع هذه السطور، مشهد الانتخابات البريطانية التي بدأت وانتهت يوم الخميس أيضاً، لكنها حملت ملامح مفارقة مذهلة وعلامات تباين وتناقض فاحش ومريع بين عالمين أحدهما يتردي سابحاً خارج التاريخ والثاني مستقر في قلبه تماماً، مع أنهما يسكنان في كوكب واحد وتجمعهما الإنسانية. ضاق المجال وانتهت المساحة.. غير أنني قبل أن أترككم علي وعد بالعودة غداً، أكتفي من المشهد البريطاني بلمحة واحدة مختصرها أن زعماء الأحزاب الثلاثة التي تنافست في الانتخابات «الخميس» لم يبلغ عمر أكبرهم (رئيس الوزراء الحالي جوردون براون) 60 عاماً بعد، أما خصماه دافيد كاميرون (المحافظ الفائز) ونيك كليج، زعيم حزب الأحرارالديمقراطيين، فعمر الأول أقل من44 عاماً والثاني أكمل بالكاد عامه الثالث والأربعين!!