كتب الدكتور خالد عزب في مقاله في «الدستور» يوم 13 أبريل الجاري عن ثلاث شخصيات؛ السلطان عبدالحميد الثاني، والسلطان سليمان القانوني، ورئيس وزراء مصر أوائل القرن العشرين بطرس باشا غالي، هؤلاء الثلاثة كان لكل منهم موقفه؛ في رأي الدكتور خالد؛ في توطين اليهود في فلسطين، وطالب سيادته بإعادة كتابة تاريخ مصر من جديد في ضوء الوثائق (البطرسية) المكتشفة حديثًا، لإحقاق الحق، الذي - من وجهة نظره - هو كشف تآمر السلطان عبدالحميد علي فلسطين، وإعادة الاعتبار للمظلوم بطرس غالي، فيقول بالحرف الواحد: (استغل عدد من المؤرخين موقف السلطان عبدالحميد برفضه منح فلسطين «بالكامل» لليهود لكي يروجوا له كشخصية إسلامية ضحت بعرشها في سبيل فلسطين، لكن في حقيقة الأمر ظلم التاريخ شخصية أخري كان لها موقف مماثل ولكنه كان قاطعًا بشدة، هو بطرس غالي). بطرس باشا غالي الذي ذكر الدكتور خالد في مقاله عنه: ( هل حان الوقت لإعادة قراءة سيرة أول رئيس وزراء قبطي لمصر حظي بموافقة جميع التيارات الوطنية، وعارض الإنجليز توليه هذا المنصب لإدراكهم حنكته وقدراته علي المفاوضات والمناورة )، قام بالأعمال الآتية: (1) وقع اتفاقية السودان مع إنجلترا في يناير 1899، وبها إجحاف بحقوق مصر في السيادة علي السودان، وتسليم حكم السودان للاحتلال البريطاني، وحرمان مصر من ممتلكاتها التاريخية في أوغندا وبلاد أعالي النيل، مما أدي إلي احتجاج الشعب المصري وعلي رأسه الزعيم الوطني محمد فريد. (2) رأس محكمة دنشواي عام 1906، التي انعقدت ثلاثة أيام لمحاكمة الفلاحين المصريين الذين اتهموا ظلمًا بقتل ضابط بريطاني مات متأثرًا بضربة شمس، أثناء قيام مجموعة من جنود الاحتلال بصيد الحمام في حقول القرية، وقتلوا فلاحة مصرية من أهلها، وحكمت المحكمة آنذاك بإعدام أربعة من الفلاحين شنقًا أمام أهل قريتهم، والسجن والجلد لاثني عشر رجلا آخرين. (3) تبوأ منصب رئيس الوزراء عام 1908، واحتفظ بمنصب وزير الخارجية فيها، وأدي انحيازه للإنجليز إلي كراهية الشعب المصري له، حيث دخل في مفاوضات حول تمديد امتياز قناة السويس لمدة 40 عامًا بعد عام انتهاء الامتياز 1968، لتعود إلي السيادة المصرية عام 2008، وبقي مشروع مد الامتياز طيّ الكتمان لمدة عام، حتي تمكن الزعيم الوطني محمد فريد من الحصول علي نسخة منه وكشف النقاب عنه في جريدة اللواء، وطلب مناقشته من قَِبل القوي الوطنية قبل البت فيه. (4) أعاد العمل بقانون المطبوعات الصادر عام1881 لمصادرة وإغلاق الصحف الوطنية، وتكميم الأفواه التي تصدت لمشروع مد امتياز قناة السويس، وذلك عام 1909، رغم أنه أوقف العمل بذلك القانون منذ عام 1894. ونتيجة لأفعاله تلك ضد مصلحة مصر وأهلها؛ اغتاله أحد شباب الحركة الوطنية الصيدلي (القبطي) النابه إبراهيم ناصف الورداني في 21 فبراير 1910، وحينها تعاطف المصريون مع الورداني، حتي ألفوا له الأغنية التي تقول: قولوا لعين الشمس ماتحماشي.. أحسن غزال البر صابح ماشي، وحوكم الورداني أمام محكمة الجنايات برئاسة القاضي الإنجليزي دولبر وجلي الذي أصدر عليه حكمه بالإعدام. هذه قراءة سريعة لبعض أعمال بطرس غالي الجد، فماذا عن السلطان عبدالحميد الثاني؟ كتب الدكتور خالد: (السلطنة العثمانية أو الدولة العلية ساعدت اليهود علي استيطان فلسطين فسهلت لهم في الفترة من1850 إلي 1914 دخول فلسطين وإقامة مستعمراتهم بها، وكان السلطان العثماني سليمان القانوني هو أول من خرق العهدة العمرية التي أعطاها عمر بن الخطاب لمسيحيي القدس، والتي كانت تمنع اليهود من دخول المدينة )، وبالمناسبة.. امتدت فترة حكم السلطان العثماني سليمان القانوني من عام 1520 حتي عام 1566، أي قبل حكم السلطان عبدالحميد بأكثر من 350 سنة! ومع ذلك فقد كانت تلك السقطة الوحيدة في حياة السلطان سليمان القانوني الذي بلغت الامبراطورية العثمانية في عهده أوج سطوتها واتساعها. أما عن السلطان عبدالحميد الثاني؛ فسأعرض لبعض ما ورد في مذكراته عن علاقته باليهود، فعندما مات البارون الألماني موريس دي هيرش؛ كان يأمل في إقامة وطن ليهود روسيا في الأرجنتين، وعندما تدخل تيودور هرتزل في المسألة اليهودية أصبح الأمر لا يتعلق بيهود روسيا فقط بل بكل اليهود، وأصبح الوطن الذي يطلبونه في فلسطين؛ الجزء التاريخي من الدولة العثمانية، وفي عام 1890 أرسل المصرفي اليهودي الشهير روتشيلد من يتفاوض مع استانبول بشأن إقامة وطن يهودي في القدس، يبدأ بإقامة قري يهودية في فلسطين، وسيتم هذا تحت الإشراف الكامل من الدولة العليّة، مع اتباع جميع قوانين ونظم الدولة العثمانية، والتقي السلطان عبدالحميد بالمبعوث اليهودي، ورفض طلبه، وأرسل إلي سفرائه في كل من واشنطن وبرلين وباريس وفيينا ولندن، لتتبع الحركة الصهيونية وإرسال تقاريرهم إليه أولا بأول، وفي نفس العام؛ أصدر فرمانا سلطانيا يقضي ب: (عدم قبول الصهاينة في الأراضي العثمانية، وإعادتهم إلي الأماكن التي جاءوا منها)، وأصدر تعليماته إلي نظارة الشئون العقارية بعدم بيع أراضٍ للمهاجرين إلي فلسطين، ومن أقواله في هذا الصدد: (بعدما انتظم يهود العالم؛ سعوا للعمل في سبيل الحصول علي الأرض الموعودة، وجاءوا إليّ وطلبوا مني أرضا لتوطين اليهود في فلسطين مقابل أموال طائلة، ولكني رفضت). وقدّم كل من تيودور هرتزل والحاخام الأكبر طلبًا شخصيا إلي السلطان عبدالحميد يطلبان فيه إقامة وطن يهودي مستقل في (سنجق) القدس، فما كان من عبدالحميد إلا أن طردهما، وقد أورد تيودور هرتزل في مذكراته بعض مواقف السلطان عبدالحميد من قضية فلسطين منها: (1) قال السلطان عبدالحميد إنه لن يتخلي أبدا عن القدس لأن جامع عمر يجب أن يبقي في يد المسلمين دائما. (يوميات هرتزل - تعريب هيلدا صايغ - بيروت 1973 - ص23) (2) (إن الناس في إنجلترا ينتظرون سقوط الدولة العثمانية الذي هو وشيك في نظرهم، والسلطان عبدالحميد يجب أن يعلم هذه الحقيقة، وهو يجب أن يساعد اليهود بأن يعطيهم قطعة الأرض التي يريدون، وهم بدورهم يصلحون أمره في البلاد ويثبتون ماليته ويؤثرون في الرأي العام ليقف إلي جانبه). نفس المصدر ص 32. (3) قال السلطان عبدالحميد في رده علي هذا الطلب: (لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدا من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي علي هذه البلاد بإراقة دمه، وقد غذاها فيما بعد بدمائه أيضا، وسوف نغذيها، بل لن نسمح لأحد باغتصابها منا، فليحتفظ اليهود بملايينهم، أما إذا سقطت الدولة العثمانية وتم تقسيمها؛ فسوف يحصل اليهود علي فلسطين بلا مقابل، إننا لن نقسم هذه الدولة إلا علي جثثنا، ولن أقبل تشريحنا لأي غرض كان ). نفس المصدر ص 35. وفي عام 1896؛ عقد المؤتمر الصهيوني الثالث، وكان ضمن توصياته أن يقترح اليهود علي السلطان عبدالحميد بأن يبيع لهم المزارع السلطانية الواقعة علي ساحل فلسطين أو تأجيرها لهم لمدة 99 سنة، مقابل كمية من الذهب تعادل ثلاث ميزانيات عثمانية، فرفض السلطان الاقتراحين. كان هذا هو موقف السلطان عبدالحميد الثاني من اليهود، ومحاولاتهم المستميتة التي لم تتوقف في عهده للحصول علي وطن لهم في فلسطين، وهو ما لم يبدأ في التحقق علي أرض الواقع إلا مع حكم (حزب الاتحاد والترقي) للدولة العثمانية - وهو الحزب الذي انتمي له مصطفي كمال أتاتورك - الذي بدأ في 23 يوليو 1908، وكان الاتحاد والترقي أمل اليهود، الذين بدأوا يتجمعون في فلسطين مع بداية حكمه ويشترون الأراضي فيها، حتي بلغ عدد اليهود الذين دخلوا فلسطين من يوليو 1908 حتي يوليو 1909؛ خمسين ألف يهودي ! فمن تُري أدخلهم إلي فلسطين؟ وقد ذكر الدكتور خالد نص الخطاب (البطرسي) الذي طالب بموجبه بتجريم عبدالحميد علي أساس من وطنية غالي - إللي إحنا غافلين عنها: (إن حكومة حضرة صاحب السمو الخديو أخذت علمًا باقتراحاتكم بشأن الحصول علي امتياز بإنشاء شركة تقوم باستيطان اليهود في شبه جزيرة سيناء، إلا أن الحكومة المصرية لا تستطيع وفقا «للفرمانات السامية» لأي سبب أو مبرر التنازل عن أي جزء أو كل من الحقوق المتعلقة بالسيادة )، فمن الذي أصدر تلك الفرمانات السامية؟ ألم يكن هو السلطان عبدالحميد الذي تقع مصر في حدود دولته؟ إن لنا الحق في أن نتساءل عن الهدف من إثارة هذه الادعاءات الغريبة عن رجل عظيم كالسلطان عبدالحميد الثاني، وفي هذا الوقت بالذات! هل لأن نفس صفاته وتوجهاته تجلت في رجب طيب أردوجان الذي يحكم تركيا الآن رغم أنف اليهود؟ أم لماذا؟