لا خلاف بين علماء التاريخ والسياسة على كون الصحفي الشهير الدكتور ثيودور هرتزل الذي نظم مؤتمر بال بسويسرا عام 1897م هو المؤسس الحقيقي للحركة الصهيونية المعاصرة . فعلى الرغم من أن النشاط الصهيوني ترعرع عبر عشرات التنظيمات السرية على مستوى العالم بداية من منتصف القرن الثامن عشر ، فإن تنظيم ذلك المؤتمر الذي حضره مائتان وأربعة أعضاء يمثلون التكتلات اليهودية في شتى أنحاء العالم ، كان إيذاناً بانطلاق العمل الصهيوني من السرية إلى العلنية. وكان هرتزل قد نشر كتيباً شهيراً في عام 1896م عنوانه ( الدولة اليهوية ) احتوى عدداً من الأفكار أهمها : 1) أن المشكلة الحقيقية لليهود هي في كونهم يعيشون كأقليات مشتتة في كثير من دول العالم ولا يوجد لهم وطن يمكن أن يصنع منهم ( أمة ) . 2) أن الهجرة العشوائية لليهود من دولة إلى أخرى ومن مكان لآخر لا تساهم في حل مشكلاتهم الأزلية والتي تتمثل في اضطهاد الأمم الأخرى لهم . 3) ليس هناك طريق لحل مشكلات اليهود سوى إنشاء وطن يحقق قوميتهم الواحدة . غير أن هرتزل لم يشر في كتابه هذا ، ولا في خطابه الشهير الذي ألقاه أمام المؤتمر إلى ( فلسطين ) بالذات كوطن لليهود ، بل إن اسم فلسطين لم يكن معروفاً في ذلك الوقت ككيان مستقل ، فقد كانت بلاد الشام تتزعمها سوريا وتضم كلاً من الأردن وفلسطين ولبنان والنفوذ السوري مبسوط عل هذه الأراضي تحت سيطرة وهيمنة الخلافة الإسلامية بزعامة السلطان عبد الحميد في تركيا . " وفي 22 اكتوبر عام 1902م قام هرتزل بطرح المشروع الصهيوني المتعلق بإقامة الدولة اليهودية في قبرص على وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين الذي رفض المشروع فوراً بحجة [ أن قبرص بلد يقطنه يونانيون ومسلمون ولا يمكن أن نخرجهم من بلدهم من أجل مهاجرين جدد ٍ] ". ثم اجتمع هرتزل مع تشمبرلين وعقدا جلستين طويلتين انتقل خلالهما تفكيرهما إلى إقامة الدولة اليهودية في سيناء ، وبالفعل طرح اللورد لانسدون وزير الخارجية البريطاني مشروع سيناء على هرتزل في 23اكتوبر1902 م واتفق معه على إرسال بعثة لدراسة المشروع على الطبيعة وأعد له كتاب توصية إلى اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني ( القنصل العام )في مصر . وتشكلت البعثة من خمسة صهاينة واثنين من البريطانيين ، ومعظم خبراء المياه والزراعة والمواني والطرق -وبدأت البعثة زيارتها في فبراير 1903م واجتمع ليبولد جاكوب جرينبرج عضو اللجنة التنفيذية للحركة الصهيونية مع بطرس غالي رئيس وزراء مصر من أجل دراسة المشروع وكان يسمى آنذاك ( امتياز استعمار سيناء ) إلا أن الحكومة المصرية رفضت رفضاً قاطعاً . وجاء هرتزل بنفسه إلى القاهرة في مارس 1903م واجتمع مع وزير العدل ولم يصل إلى أي اتفاق وغادر مصر في 4 أبريل 1903م . وقد وضح من الرسائل الثلاث التي بعث بها هرتزل في نهاية يوليو 1903م إلى كل من الحاخام الأكبر ليهود فرنسا " صادوق خان " ، والبروفيسور "ريناخ" المؤرخ الصهيوني الفرنسي ، واللورد "روتشيلد " أقوى رأسمالي صهيوني في العالم في ذلك الوقت . وضح من هذه الرسائل أن دائرة واسعة من الاتفاق تربط بين زعامة الحركة والحاخامات والرأسماليين الذين يشكلون - معاً - القوى المؤثرة في حركة المد الصهيوني . وقد طرحت بعد ذلك - بل وقبل ذلك - مشروعات بديلة لإقامة وطن قومي لليهود في الأرجنين ، ثم في أوغندا ، وكان قادة الحركة يسيرون في كل اتجاه ولكن عينهم كانت دائماً على فلسطين لأنها ( أرض بلا شعب ) كما يقال في الكتابات والوثائق الأوروبية . والرسالة التي نشيرإليها في عنوان المقال نشرت أول مرة بجريدة الأهرام يوم 4 نوفمبر 1967 وقد أرسلها هرتزل يوم 19مارس 1899م من فيينا - حيث كان يقيم آنذاك - إلى القسطنطينية حيث كان السيد يوسف ضياء الخالدي رئيس بلدية القدس موجوداً هناك في مقر الخلافة لمهام إدارية . وفي الرسالة - المكتوبة باللغة الفرنسية - يتوسل هرتزل إلى الخالدي أن يساعده لدى الدولة العثمانية في الموافقة على توطين اليهود في فلسطين التي لا يبدو من الرسالة أنه متمسك بها . ويحاول هرتزل إغراء الدولة العثمانية - من خلال الخالدي - بأن اليهود سيحققون الرفاهية لسكان فلسطين إذا قبلوا وجودهم بينهم . كما يؤكد أن الأماكن المقدسة سوف تبقى ملكاً للأديان السماوية الثلاثة . ولكن ما الذي حدث بعد أن قامت الدولة اليهودية عام 1948م ؟ لقد تم طرد الدكتور أسامة الخالدي الذي كان يعمل طبيباً في مستشفى فيكتوريا بالقدس . وهو حفيد يوسف ضيا الخالدي رئيس بلدية القدس الذي أرسلت إليه هذه الرسالة التي ننشر صورتها هنا . هؤلاء هم اليهود ، وتلك هي أخلاقهم ..!!!!. والآن نترك القاريء الكريم مع نص الرسالة التي بعث بها " ثيودور هرتزل " مؤسس الصهيونية إلى السيد/ يوسف ضياء الخالدي رئيس بلدية القدس في يوم 19 مارس سنة 1899م : " سيدي الفاضل " لقد تكرم السيد " زادوك خان " فأتاح لي الفرصة التي جعلتني أنعم بقراءة الرسالة التي بعثت بها إليه . ودعني أقل لك ، باديء ذي بدء أن مشاعر الصداقة التي تعرب عنها للشعب اليهودي تجعلني أشعر بالمعروف والجميل . لقد كان اليهود ، وسيظلون دائماً / أخلص أصدقاء تركيا ، وذلك منذ فتح السلطان سليم امبراطوريته لليهود الذين اضطهدتهم اسبانيا " . " وهذه الصداقة ليست مجرد أقوال ، وإنما هي مستعدة للتحول إلى أفعال ، ولتقديم العون إلى المسلمين " . " إن فكرة الصهيونية التي انا خادمها المتواضع ، لا تميل إلى اتخاذ موقف عدائي من الحكومة العثمانية بل إن الأمر على العكس من ذلك ، فإن هذه الحركة ( إي الصهيونية ) تستهدف توفير موارد جديدة للامبراطورية العثمانية . إن تيسير الهجرة إلى بلادكم لعدد من اليهود الذين عرفوا بالذكاء والمهارة في مضمار المال والمشروعات سيؤدي إلى زيادة رفاهية البلاد . وهذا أمر لا يمكن أن يشك فيه أحد . وهذا ما ينبغي أن تفهمه وتوضحه للجميع " . " إن اليهود لا يعتمدون على أية قوة محاربة تقف خلفهم - كما ذكرت سيادتك بحق في الرسالة التي بعثت بها إلى الحاخام الأكبر- وهم أنفسهم ليسوا محاربين . إن اليهودي مسالم إلى أقصى حد ، وهو قنوع إذا ترك يعيش في سلام , وإذن فليس ثمة ما يدعو إلى الخوف من هجرتهم ". " اما ما يتعلق بالأماكن المقدسة فإن أحداً لا يفكر في المساس بها . ولقد كتبت وقلت عدة مرات أن هذه الأماكن لا يمكن أن تكون ملكاً خاصاً لأي دين ، أو جنس ، أ وشعب . إن الأماكن المقدسة ستظل مقدسة للعالم أجمع ، زليس للمسلمين وللمسيحيين واليهود . والتفاهم الأخوي على وضع الأماكن المقدسة سيكون رمزاً للسلام الذي يتطلع إليه باهتمام كل ذوي النيات الحسنة الصادقة “ . " إنك ترى ، يا سيدي ، أن الشعب غير اليهودي في فلسطين سيواجه مشكلة أخرى .. ولكن من ذا الذي يمكن أ، يفكر في اخراج أولئك الناس من ديارهم ؟ إننا سنضاعف رفاهيتهم وثرواتهم بما نجمله معنا من رفاهية وثراء . هل تعتقد أن أي عربي يملك في فلسطين أرضاً أو بيتاً يقدر ثمنه بثلاثة آلاف فرنك أو أربعة ، يمكن أن يغضب جداً إذا ارتفع سعر ارضه خلال فترة قصيرة ، وتضاعف ربما في بضعة أشهر ؟ إن ذلك سيحدث حتماً بعد وصول اليهود . هذا ما ينبغي توضيحه لأبناء البلاد ، كذلك يجب أن يدركوا أنهم سيكسبون أصدقاء أوفياء ، كما أن السلطان سيكسب رعايا مخلصين طيبين ،سيعملون على ازدهار الحياة في ذلك الإقليم الذي يعد وطنهم التاريخي " . " وعندما ينظر المرء إلى الأمور من هذا الجانب .. وهو جانب الحق ، يرى أنه يجب عليه أن يصبح صديقاً للصهيونية مادام صديقاً لتركيا " . " وأملي يا سيدي ، أن تكفي هذه التفسيرات لتزيد من عطفكم على حركتنا " . " لقد قلت لمسيو زادوك كاهن أن من الخير لليهود أن يتجهوا بأبصارهم إلى جهة أخرى . قد يحدث ذلك في اليوم الذي تدرك فيه الميزات الضخمة التي ترعضها عليها حركتنا . لقد أوضحنا هدفنا علناً ، وبكل إخلاص وولاء . وأرسلت إلى صاحب الجلالة السلطان مقترحات عامة ، ويسرني أن أعتقد أن صفاء ذهنه الشديد سيجعله يقبل الفكرة ، من حيث المبدأ ، على أن تبحث تفاصيلها فيما بعد . وإذا رفض الفكرة فإننا سنبحث ، وصدقني إذا قلت لك أننا سنجد ما نحن في حاجة إليه ." " ولكن سيكون معنى ذلك أن الفرصة الأخيرة التي تتاح أمام تركيا لكي تنظم أوضاعها المالية ، وتسترد قوتها الاقتصادية ، ستزول إلى الأبد " . " إن الذي يقول لك هذا الكلام اليوم هو صديق مخلص لتركيا .. وعليك أن تتزكره !!" " وأخيراً تقبل ، يا سيدي ، احترامي الوافر " التوقيع دكتور ثيودور هرتزل .