قابلت محمود سعد مرات قليلة في مناسبات مختلفة ولم أغير انطباعي عنه منذ المرة الأولي.. يقابلك محمود سعد بابتسامة، ويودعك بمثلها، وما بين هذه الابتسامة وتلك يحكي فيأسرك.. يتحدث فتصغي.. ينكت معك فتضحك.. يحكي لك حكاية من التاريخ الذي درسه، ويتبعها بآية من القرآن الكريم الذي يحفظ آيات منه.. يكتبها بالقلم علي الحائط المجاور للمرتبة التي ينام عليها لمعاناته من الغضروف، فلا تملك إلا أن تعجب بالرجل الذي يمتلك مفاتيح كثيرة للدخول إلي قلوب الناس. في المرة الأولي كنت مع طلاب أرادوا أن يجروا معه حواراً لجريدة الجامعة وقت أن كان رئيس تحرير الكواكب.. كان أصغر رئيس تحرير في هذه الفترة، كان في بداية تألقه الإعلامي ببرنامجه (علي ورق) الذي صنع شهرته في دريم. أعجب ببعض ما قلت واشتبك معي في تعليقي علي إجابة أو اثنتين كان قد أجابهما ورد بمنتهي المرونة والحكمة علي سؤالي المستفز الذي كان خارج السياق: «بيقولوا في دار الهلال إن عادل إمام ونبيلة عبيد هما اللي عينوا حضرتك رئيس تحرير للكواكب؟!».. ابتسم وأجاب في هدوء، وقدم لي ورقة كتبها الجميل رجاء النقاش قبل تركه للكواكب بأكثر من تسع سنوات يرشح فيها محمود سعد لخلافته.. قال لي محمود سعد إن كل الفنانين أصحابه، وأنه يرفض أن يكون في مكان لا يستحقه بواسطة من أي شخص مهما كان، وأنه سيستقيل من رئاسة تحرير الكواكب إن آجلاً أو عاجلاً، لأنه لا يقبل علي نفسه أن (يخلل) علي كرسي رئيس التحرير. قبل أن أنصرف أعطاني محمود كارتاً لمدير التحرير آنذاك (محمد الشافعي) وكتب فيه بالنص: "عزيزي شافعي..أمامك شاب جميل..برجاء الاهتمام".. كانت مثل تأشيرة مرور دون أي امتيازات سوي أنها كانت ممهورة بتوقيع محمود سعد، لكنني لم أستخدمها وظللت محتفظاً بها إلي أن اختفت في ظروف غامضة. بعدها بسنوات قابلت محمود سعد في مناسبة أخري، وكانت الجلسة أكثر حميمية.. صحيح أنه لم يتذكرني، ولم يعرفني، وظن أنها المرة الأولي التي يلقاني فيها، لكنه كان يتحدث بمنتهي الأريحية.. كان قد استقال بالفعل من رئاسة تحرير الكواكب غير عابئ بالمنصب أو بالمجد الذي كان يمكن أن ينتظره لو دخل تحت جناح الحكومة والحزب وكل السلسلة التي نعرفها جيداً والتي لو دخلها لكان الآن عضو مجلس شعب أو شوري علي أقل تقدير، لكنه رفض كل ذلك في استغناء مازال يطبع بصماته علي شخصيته حتي يومنا هذا. الغريب أنه في هذا اللقاء كان يحكي عن المليون جنيه الأولي التي أمسكها في حياته قبل أيام، وحين سأله أحد الحاضرين عن الأمر، قال: "وأما بنعمة ربك فحدث".. راح يحكي لنا عن صرفه للشيك، وعن رؤيته للمبلغ (علي بعضه) وعن خمس المبلغ الذي أعطاه لناس قرايبه قبل أن يكتشف فجأة أنه سينهي التعاقد الذي قبض علي أساسه المليون جنيه، وأنه سيعيدهم لصاحبهم.. «طيب وال200 ألف هجيبهم تاني ازاي من أصحابنا التانيين».. يقولها ثم يضحك ضارباً كفاً بكف مكملاً: «طبعاً مش هاجيبهم».. في هذا اليوم لاحظت أن محمود سعد لا يدعي ما ليس فيه، وأنه علي الشاشة مثلما هو في الحياة الواقعية لكن دون ميكروفون. في المرة الثالثة، وكانت قبل عدة أشهر، أصبح محمود سعد هو المتحدث الرسمي باسم البسطاء في تليفزيون الدولة، وكثيراً ما انتقد الحكومة علي الهواء مباشرة في «البيت بيتك» لدرجة أن د. أحمد نظيف رئيس الوزراء اشتكاه مرة لوزير الإعلام ومرات لرئيس الجمهورية شخصياً دون جدوي، وحتي اللقاء الشهير الذي جمعهما حين أراد رئيس الوزراء الاجتماع بعدد من الصحفيين وقادة الرأي ومذيعي التوك شو، تكلم محمود سعد، فقال ما أغضب رئيس الوزراء حين أكد أننا نعيش حالة فوضي في مصر، وأن أي شخص يستطيع فعل ما يريده في مصر طالما كان يمتلك فلوساً أو منصباً أو مسنوداً. عاني محمود سعد آنذاك من بعض «الرذالات» وكاد أن ينسحب لولا أن هدأت الأمور وأكمل في «البيت بيتك» ثم «مصر النهاردة»، لكن الجديد الذي أصبح ملازماً لمحمود سعد هو المسحة الدينية التي بدأت تعلوه وتغلب علي كلامه وأحاديثه وقراءاته ومشاهداته وحتي معارفه. محمود سعد صار يتكلم في الدين أفضل من كثيرين، وعن علم وعن مجالسة لعلماء ومشايخ لهم اتجاهاتهم المعتدلة، ولم يكن غريباً أن تكون صورته موجودة علي تترات برنامج «خدعوك فقالوا» الذي يقدمه الداعية الشاب مصطفي حسني علي قناة «اقرأ» كواحد من الشخصيات التي يمكن الاقتداء بها جنباً إلي جنب مع د. علي جمعة ومحمد أبو تريكة وأحمد زويل.. من يعرف محمود سعد في حياته اليومية سيعرف أنه لا يستريح إلا لأصدقاء طفولته وجيرانه في المنيرة، وأنه يقبل يد أحدهم كلما رآه كنوع من المحبة، وأنه لا يخجل من البدلة التي كان يسلفها أحياناً لأصحابه لحضور المواعيد الغرامية، والتي رأي شخصاً غريباً يوماً يرتديها رغم أنه ليس من الأصدقاء، فقد وصلته عن طريق الخطأ - ربما - المقصود. محمود سعد الآن في مرحلة أكثر نضجاً وحكمة واستغناء.. استغني عن الناس بالناس.. استغني عن الناس اللي فوق بالناس الحقيقية التي تسنده ويتكئ عليها دون أن يخاف من أي غدر.. فلا غدر مع المحبة الخالصة التي لا تعرف تاريخ انتهاء صلاحية. محمود سعد الآن لا يهمه أن يعتذر عن خطأ ما بقدر ما يهمه ألا تمنعه نجوميته من الاعتذار إن أخطأ، فالنجومية الحقيقية فقط هي التي تتحمل مثل تلك الاعتذارات لتعلو وليزيد رصيدها، فيما يصبح الاعتذار سقطة ويتحول إلي خطيئة في حالات أنصاف النجوم وأرباع المواهب وأعشار البني آدمين. ملحوظة: لم أسبق محمود سعد بأي لقب ليس لأنني صاحبه الأنتيم وواكل شارب معاه، أو لأنني أدعي أنني (واخد عليه)، لكن لسبب بسيط هو أن هناك أسماء يضيف إليها اللقب أو التصنيف، وأسماء أكبر من أي لقب.. أو أي تصنيف.