انهارت الجولة الثالثة لمباحثات دول حوض نهر النيل بفشل ذريع بانسحاب سبع دول ورفضهم المبادرة المصرية السودانية واتفاقهم علي التوقيع منفردين علي اتفاقية جديدة لا تتضمن المطالب المصرية السودانية التي تطالب بثلاث نقاط أساسية هي : الأولي الاعتراف بالحقوق التاريخية لمصر والسودان في المياه. والثانية ضرورة الموافقة المسبقة علي أي مشروعات مائية تقام في دول الحوض. والثالثة ضرورة صدور القرارات بالإجماع. إن أغلب المراقبين يؤكدون أن فشل المباحثات المستمرة منذ عشر سنوات هو نتيجة ضعف وتراجع دور مصر الإقليمي والدولي وغياب دورها العربي مما أدي بدول المنبع إلي الاجتراء علي الموقف المصري وذلك بمساعدة وتشجيع الكيان الصهيوني والذي كان له الدور الأكبر في انقلاب هذه الدول علي الاتفاقيات التاريخية الموقعة بينهم ودون وجود موقف قوي واضح ورادع من الحكومة المصرية التي تركت للكيان الصهيوني الحبل علي الغارب ليفعل ما يشاء في الساحة الأفريقية لدرجة سمحت له بتهديد مصدرنا الأساسي إن لم يكن الوحيد من المياه. ما حدث نتيجة طبيعية لتراجع الدور المصري مع دول القارة الأفريقية ومنها دول الحوض في مجالات عديدة ومختلفة مثل الدور الذي كان يلعبه الأزهر ومبعوثيه لهذه الدول، ومثل دور الوافدين الأفارقة لجامعاتنا المختلفة والتي تراجعت علميا بشكل كبير نتيجة السياسات الخاطئة - ومنها السياسات والتوجسات الأمنية - في مطاردة أبناء هذه الدول بدعاوي مختلفة . إن تراجع التعليم المصري وتخلف جامعاتنا «ولا يخفي الدور الذي يلعبه خريجو هذه الجامعات كسفراء لنا في دولهم» جعل الدول الأفريقية تلجأ إلي إرسال أبنائها لجامعات أخري أكثر تقدما مثل جامعات جنوب أفريقيا، فضلا عن جامعات الكيان الصهيوني كما أن سياسة وفكر الموظفين التي اتبعتها المؤسسات المصرية وفي مقدمتها الأزهر الشريف أدت إلي تراجع الدور المصري بشكل مخيف. الغريب أن المسئولين المصريين تعاملوا باستخفاف ورعونة مع المسألة كلها، وبجهل أحيانا وفساد أحيانا ثانية وتواطؤ حينا ثالثا مما نتج عنه بالفعل تأثيره السلبي والخطير بل وغير المسبوق في الأمن القومي المصري نختار منها ثلاثة أمثلة بمستويات مختلفة للدلالة علي فداحة ما هو قائم بالفعل : من ذلك التصريح الفضيحة الذي صرح به السيد أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني وصاحب الكلمة النهائية والمسموعة لنواب الأغلبية بمجلس الشعب عن مفهومه للأمن القومي المصري وأنه مقصور ومحدد ومرتبط بالحدود السياسية المعروفة علي الخريطة وأن الجيش المصري لن يحارب «في قضية فلسطين» إلا إذا دفعت قطر أو السعودية أو الجزائر جزءا من دخلها القومي لنا! ولا أدري هل إذا اضطرت مصر الآن للدفاع عن حقها في المياه وهي قضية حياة أو موت بالنسبة لها واضطرت لاستخدام القوة المسلحة، هل ستنتظر أموال قطر والسعودية والجزائر وغيرها وفقا لرؤية السيد عز وقيادات الحزب الوطني أم ستقوم بواجبها في الدفاع عن مصالح الوطن وأمنه القومي كما هو واجبها المفترض ويفترضه كل مصري وطني وشريف؟ ومن ذلك ما أجاب عنه السيد أبو الغيط وزير الخارجية المصري حين سئل عن رؤيته وتحليله لزيارة ليبرمان وزير الخارجية الصهيوني لدول منابع نهر النيل فقال لا فُضَّ فوه: لا يعنينا زيارة ليبرمان أو غيره!!هكذا!! يأتي ذلك في الوقت الذي لم تنقطع فيه زيارات أبو الغيط لكل دول أوروبا والأمريكتين شرقا وغربا، بسبب وبدون، بينما لا نذكر أنه زار كينيا أو أوغندا أو تنزانيا أو بوروندي أو رواندا أو زامبيا أو إثيوبيا أو إريتريا. وأخيرا فإن الرئيس مبارك وهو أعلي قيادة بالدولة زار دولا أوروبية عديدة عشرات المرات ولم يزر دول حوض النيل مرة واحدة اللهم إلا المرة التي تعرض فيها لحادث محاولة الاغتيال الآثمة الفاشلة في إثيوبيا ورغم أنه حضر مؤتمرات قمة عديدة إلا أنه نأي بنفسه عن مؤتمرات القمة الأفريقية والتي كان أولي أن يحضرها توطيدا للعلاقات مع دول الحوض وحماية لمصدرنا الأول من المياه. والآن وقد وصلت الأمور مع دول حوض نهر النيل إلي أن هذه الدول انتهت إلي التوقيع علي إطار اتفاقية جديدة تفرض إرادتها المنفردة دون النظر إلي أي اتفاقيات موقعة سابقا ومع حقيقة أن ما يصلنا - لمصر- من مياه نهر النيل يمثل 95% من احتياجاتنا للمياه وفي ضوء أن احتياجات الفرد سنويا من المياه 1000 م مكعب ما يتوفر منها حاليا هو 750 متراً مكعباً ستقل في 2020 إلي 500 متر مكعب أي 50% من احتياجاته «وهو أيضا تحت مستوي خط الفقر المائي» وأكرر أنه قد تصل الأمور«لاقدر الله» إلي استخدام القوة المسلحة للحفاظ علي حق مصر في الحصول علي المياه فهل سينتظر الجيش المصري تمويل سعودي أو قطري أو جزائري للدفاع عن مصالح الشعب المصري وفقا لرؤية الحزب الوطني وقياداته؟!. وهل الحدود السياسية الجغرافية هي الحدود الآمنة وفقط للأمن القومي المصري وفقا لرؤية زعماء وقيادات هذا الحزب؟ إن إسرائيل التي استباحت لنفسها أن تعبث بأمننا المائي في جنوب البلاد ومع دول المنبع لا ينبغي أن تعامل بهذه المعاملة الحانية الرقيقة التي تعاملها بها حكومة الحزب الوطني الديمقراطي، وإذا لم يكن هذا هو التواطؤ؟ فما هو التواطؤ إذن؟ يجب ألا نوفر الغاز لهذا الكيان بأقل من سعره العالمي في الوقت الذي يعبث فيه بنصيبنا من المياه في نهر النيل. وإذا فعلنا فهي جريمة! ويجب ألا نصدر له البترول - بسعر ولا في الأحلام - 6.8 دولار للبرميل - في الوقت الذي وصل فيه سعره عالميا إلي 80 دولاراً في المتوسط - وإذا فعلنا فهي جريمة! يجب ألا أن نوفر له الأمن ونقوم بدور الحارس الأمين لحدوده «وهي المغتصبة» وإذا فعلنا فهي جريمة! وبصرف النظر عن كل المعاني الدينية والعروبية والإسلامية والتاريخية وقيم الشهامة والرجولة والأخلاق وغيرها من القيم المختلفة التي لا تنتهي من وجوب نصرة أهالينا في غزة المحاصرة وهي كلها حق وواجب. ومن باب المصلحة الخالصة لمصر، ألا يجب أن نؤيدهم ونقف معهم ونمدهم بالسلاح وكل أسباب القوة اللازمة لمناوئة وحرب هذا الكيان الغاصب الذي يتلاعب في حصتنا من المياه وهي مسألة حياة أو موت بالنسبة لنا؟ هل يعقل أن يتم تأييده ودعم سياساته في حصاره لجيراننا بينما مصلحتنا الخالصة تؤكد عكس ذلك؟ من البداهة السياسية أن عدو عدوي صديقي ولكن حكومة الحزب الوطني لا تعتمد ذلك ولا تعترف به. يبدو أن حكومة الحزب الوطني لها مآرب ومصالح أخري غير مآرب ومصالح الشعب المصري. فالشعب يحصل الآن علي 60% من احتياجاته الغذائية من الخارج، وكنا نتندر كيف يحدث ذلك وفي مصر نهر النيل!! الآن وتحت رعاية حكومة الحزب الوطني يبدو أننا سنبحث عن نهر النيل نفسه! هل مقولة «مصر هبة النيل» ستكون تاريخية أثرية؟ وهل نهر النيل الذي يجري في مصر منذ آلاف السنين سيجف علي يد حكومة الحزب الوطني الديمقراطي..؟ مباركة يا حكومتنا وبركاتك يا سيد عز! إن مصر تمتلك من الأوراق ما تستطيع به أن تعالج هذه الأمور كلها وبنجاح تام، غير أنها لا تمتلك الإرادة الحقيقية التي تحقق بها مصالح الشعب المصري وتحميها من أي أخطار حالية أو مستقبلة وذلك نتيجة لتزاوج فاسد بين المال والسلطة وأصبحت المصلحة في حماية أموالهم واحتكاراتهم ونفوذهم بصرف النظر عن أي مصلحة أخري حتي وإن كانت مصلحة الوطن نفسه حياة أو موتا مثل قضية مياه نهر النيل. المعادلة واضحة وبسيطة.. إسرائيل تتدخل وتحرض دول حوض النيل للتأثير علي حصتنا في المياه في حين أن احتياجاتنا منها تبلغ 95% من إجمالي احتياجاتنا، ونحن لا نقاوم ولا حتي نحتج بل ندعم سياساتها! نحن لا نعبأ بهذه المخططات بل نوطد علاقاتنا مع الكيان الصهيوني ونساعده علي التخلص ممن يشكلون له تهديدا حقيقيا علي وجوده وهم الفلسطينيون السكان الأصليون الذين يحاربون من أجل نيل حقوقهم المشروعة. أليس تناقضا أننا نبني جداراً فولاذيا عازلا في أراضينا لتشديد الحصار علي أهالي غزة وهم أعداء الصهاينة بدعوي أننا أحرار في بلادنا، نبني في أراضينا ومياهنا وسماواتنا ما نشاء من إنشاءات ونستنكر في الوقت ذاته أن تطلب دول الحوض منا وبالمنطق ذاته حقها في إنشاء ما تشاء من إنشاءات وسدود دون موافقتنا!! إن مد الكيان الصهيوني بالبترول والغاز وبأسعار خيالية جريمة، وبناء الجدار الفولاذي العازل جريمة. ومساعدة جيراننا وأهالينا بغزة المحاصرة مصلحة خاصة جدا للمصريين وضد مصالح الصهاينة بالتأكيد. فهل ما زال أبو الغيط مصرا علي كسر أرجلهم وأذرعهم، وهل ما زال السيد عز مصرا علي طفولية مفهومه للأمن القومي المصري وحدوده؟ وهل ما زالت الحكومة المصرية تصر علي القيام بدور الحارس الأمين لحدود إسرائيل الغاصبة، وتدعم تشديد الحصار علي أهالينا بغزة؟ وماذا ستفعل تجاه العبث الصهيوني بنصيبنا في مياه نهر النيل؟ بأي منطق تتعامل حكومتنا؟ ولصالح من تعمل؟ للمواطن المصري أم للمواطن الصهيوني؟ وأي مكسب ستحصل عليه نتيجة هذه السياسات المخزية والمختلة؟ ولمن؟ هل لدي عاقل من جواب؟