تؤمن أنظمة الحكم الديكتاتورية بأن بقاءها في الحكم مرهون باستخدام كل أساليب البطش والخداع الممكنة، وتقوم هذه الأنظمة بإنشاء قوة أمن بوليسي يتوافر لها أحدث أدوات البطش والتنكيل التي ترهب المواطنين، وبالتوازي مع هذه القوة البوليسية تنشيء قوة «أمن ثقافي» تنفق عليها بسخاء وتنميها بتولي مواقع قيادة عليا وتحدد هدفها وهو خداع الجماهير وتبرير الممارسات القمعية وألوان الفساد البشعة التي تمارسها قيادات النظام، وتقوم القيادات العليا بنظام الحكم بتوزيع الأدوار بدقة بين هاتين القوتين.. قوة «الأمن المركزي» التي تمثل ذراع قوة الشرطة الباطشة، وقوة «الأمن الثقافي» التي تتولي الدفاع عن الفساد والقمع باستخدام المغالطات والادعاءات الكاذبة لخداع الجماهير. ويلاحظ المراقبون أن نظام الحكم في هذه المرحلة الحساسة يحاول قدر طاقته استخدام قوة «الأمن المركزي» في أضيق نطاق ممكن كلما كان ذلك ممكنا تحسبا لردود فعل المؤسسات الدولية التي تركز أبصارها هذه الأيام علي ما يجري في مصر من حركات سياسية، وفي محاولة لإعادة التوازن لقوة النظام صدرت التعليمات لقوات «الأمن الثقافي» بالتحرك النشط، وبدأت هذه القوات فعلا في التحرك علي محورين رئيسيين. الأول: محاولة إجهاض أي تحرك يري نظام الحكم أن هدفه معارضة النظام أو إحداث أي تغيير في أسلوب الحكم الفردي المطلق وذلك بتجريح الشخصيات القيادة التي تتقدم الصفوف في هذه التحركات، وتستخدم قوات «الأمن الثقافي» كل الأسلحة بدءا من نشر أكاذيب تنال من سمعة هذه الشخصيات وصولا إلي استخدام أكثر أساليب السباب انحطاطا وسفالة. المحور الثاني: إنشاء كيانات مقابلة لكيانات تضم القوي السياسية المعارضة أو حتي المستقلة والتي لا تعلن ولاءها المطلق للنظام.. ومن النماذج التي تعبر بوضوح عن هذا المحور إنشاء مواقع علي شبكة الإنترنت لمواجهة المواقع التي أطلقها شباب 6 أبريل ومجموعات عديدة من الشباب الذي لا يخفي معارضة لسياسات القمع ويطالب بإطلاق الحريات وبتغييرات تضع مصر علي طريق ديمقراطية حقيقية. ويشمل التحرك علي هذا المحور أيضا الاستيلاء علي المواقع القيادية بالنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني عامة. ويعنيني هنا أن أتوقف أمام هذا المحور وبالتحديد محاولة السيطرة علي النقابات المهنية، فقد شهد الأسبوع الماضي تحركاً نشطاً لقوات «الأمن الثقافي» علي الساحة الإعلامية، هدفه مواجهة تحرك الإذاعيين الذي أسفر عن إعداد مشروع قانون لنقابة مهنية تدافع عن مهنة الإذاعة المسموعة والمرئية، وكانت هذه المجموعة من الإذاعيين قد أعدت مشروع القانون بمباركة من وزير الإعلام الذي أعلن عن موافقته علي تبني مشروع القانون استجابة لرغبات الإذاعيين. ويبدو أن مشروع القانون لم يرق لقيادات في حزب الحكومة لأنه - أي مشروع القانون - يحقق حماية مهنية معقولة للإذاعيين، وتحت مظلة هذه الحماية المهنية فإن فرصة السيطرة الحكومية المطلقة علي الإعلام تضعف إلي حد ما. وهنا تحركت ميليشيات «الأمن الثقافي» لإجهاض مشروع النقابة المهنية للإذاعيين بحجة إنشاء «نقابة للعاملين بالإعلام وخريجي كليات الإعلام» ومثل هذه النقابة لا علاقة لها «بالنقابات المهنية» فهي نقابة للعاملين بمختلف تخصصاتهم مثل نقابة «العاملين بالمؤسسات الصحفية». وحشد حزب الحكومة ميليشيات «الأمن الثقافي» في ندوات حضرها عدد كبير من العاملين «من غير المهنيين» وتصاعدت الصيحات وجمعت التوقيعات؟! وتحرك بعض أعضاء مجلس الشعب الحكومي لاحتضان هذا التحرك. ورغم أن مشروع النقابة المهنية لم يصادر حق باقي العاملين علي الساحة الإعلامية في إنشاء النقابات النوعية الخاصة بهم، فإن الدعوة المشبوهة التي تتبناها ميليشيات «الأمن الثقافي» تصر علي أن تكون هذه «النقابة العمالية» بديلا للنقابة المهنية ليسهل السيطرة عليها. ورغم الصخب الذي تبديه ميليشيات الأمن الثقافي فإن الإذاعيين في الإذاعة والتليفزيون لن يترددوا في الدفاع عن حقهم في إنشاء «نقابتهم المهنية» ولم يزل يراودهم الأمل في أن يفي وزير الإعلام بوعده وأن يتقدم بمشروع القانون الذي أعده الإذاعيون إلي مجلس الشعب.. وإذا خاب أملهم فلكل حادث حديث.