منذ سنوات عندما أردت الحصول علي رخصة قيادة سيارة من مونتريال حيث كنت أعيش طلبوا مني التقدم لامتحان نظري وآخر عملي. عبثاً حاولت أن أقنعهم بأنني سائق قديم وأحوز رخصة قيادة مصرية وأخري كويتية، وبالتالي لا حاجة لي لأي امتحانات، لكنهم رفضوا الاعتراف بالرخصتين وأصروا علي الامتحان. رغم ضيقي فإنني سلمت بالأمر وعذرتهم لأنهم لا يعرفون شيئاً عن بلادنا، أو أن ما يعرفونه لا يشجعهم علي الوثوق بنا وبالأوراق الصادرة عن مؤسساتنا التي يرونها فاسدة وليست محل ثقة. نظرت إلي الرخصة الكويتية في حسرة لأنني حصلت عليها بشق الأنفس وبعد امتحان حقيقي أثبت فيه جدارة، ونظرت للرخصة المصرية وضحكت لأنني تذكرت أنني حصلت عليها قبل سنين من تعلمي قيادة السيارة!. بعد عبور الامتحان التحريري جاء يوم الامتحان العملي وخرجت مع الممتحن الذي يتوقف علي تقريره منحي الرخصة من عدمه. جلس الرجل إلي جواري وطفت به شوارع المدينة مثلما طلب، وقد حاول إيقاعي في الخطأ أكثر من مرة مثل أن يطلب مني صف السيارة بجوار حنفية حريق أو مثل طلب الدخول العكسي في شارع اتجاه واحد، لكني كنت يقظاً للغاية ولم أسقط في أي من فخاخه.. وعندما طلب مني العودة إلي مبني المرور كنت أشعر بأن الرخصة قد أصبحت علي بعد سنتيمترات من جيبي. جلست في الصالة أنتظر سماع اسمي.. وبعد قليل سمعت النداء يطلب مني التوجه إلي شباك رقم كذا، وهناك بدلاً من منحي الرخصة فوجئت بالموظفة تخبرني بموعد الاختبار الجديد بعد ثلاثة أشهر لأنني رسبت في الامتحان!.لم أصدق ما قالته وهرعت وأنا في شدة الغضب أسأل عن مكان الممتحن الظالم الذي خالف ضميره وأعطاني درجة لا تسمح بحصولي علي الرخصة وأنا الذي أقود سيارة منذ أن كان سيادته يرتدي الشورت. وصلت إليه في مكتبه ولم أخف غضبي وأنا أسأله عن سبب رسوبي في الامتحان. ابتسم في هدوء وقال: أنت سائق ممتاز ومن الواضح أن خبرتك كبيرة في القيادة، وفي الحقيقة لقد أعجبتني الطريقة التي تركن بها السيارة في حيز ضيق بين سيارتين وذلك بالرجوع للخلف ومن مرة واحدة، لكن عندك عيب خطير لم أستطع أن أفهمه وأتمني بما أنك جئت إليَّ بقدميك أن توضحه لي. قلت: وما هو؟. قال: لاحظت أنك عند الاقتراب من التقاطعات تضع قدمك علي الفرامل مهما كان لون الإشارة، بمعني أنك عند الإشارة الخضراء تعبر بخوف وتوجس وقدمك تلامس الفرامل دون داع.. ثم أضاف: ولا يخفي عليك أن في هذا خطورة شديدة عليك وعلي من هم خلفك لأن السيارات تندفع بسرعة طالما كانت الإشارة خضراء، وأنت عندما تلمس المكابح فإن مصباحك الخلفي يضيء منبهاً الآخرين بأنك ستتوقف، وعليه فإن الذي يسير وراءك يضع قدمه بدوره علي مكابحه وهكذا يفعل كل الطابور، وهذا قد يؤدي إلي حادث تتصادم فيه عشرات السيارات بسبب أنك دست علي الفرامل بينما إشارتك مفتوحة..ثم تنحنح الرجل قبل أن يقول في خجل: وقد لاحظت بحكم عملي أن هذا العيب ينطبق علي أغلب القادمين من مصر ولم أفهم السبب!. كنت أستمع إليه وأنا مذهول، ولم أستطع أن أكذّبه لأن ما يقوله حقيقي تماماً، لكن لم يخطر ببالي من قبل أنّ في هذا خطأ. أخذت أفكر وأنا أترك المكان وأسير في الشارع في السبب الذي يجعلني أنا وباقي المصريين نضع أقدامنا علي الفرامل عند التقاطعات حتي لو كانت الإشارة خضراء، ولم تطل حيرتي لأنني تذكرت أننا نفعل ذلك لأننا نفتقد الشعور بالأمان أثناء القيادة وذلك لأنه لا توجد لدينا إشارات، وإن وجدت فإن أحداً لا يحترمها، وعليه فالقيادة في شوارعنا تتم بطريقة حافة الهاوية، أي أن الجميع يندفع عند التقاطعات من كل الجهات وأقدامهم تلامس الفرامل، ومن تخونه شجاعته أولاً ويغلب حرصه علي الحياة تهوره فإنه يتوقف وهو يشعر بالانكسار مفسحاً الطريق للأكثر جسارة ونزقاً واستهانة بالحياة!. ومن الواضح أنني لم أستطع التخلص من هذا الميراث التاريخي الذي اصطحبته معي داخل جمجمتي إلي مونتريال، الأمر الذي أدي إلي رسوبي ثلاث مرات متتالية في امتحان يجتازه بسهولة فتية في سن أولادي.. فيا لخيبتي!.