العبد لله لم يولد مؤمناً بالحرية ولا ديمقراطياً بالسليقة، ولا أحد في الدنيا تكتحل عيونه بنورها وهو كذلك، وإنما الناس جميعاً تتدرب وتتعلم وهي في قلب الحياة كيف تقبل الآخر وتتعايش مع وجوده الحتمي وتكتسب الوعي العقلي بأن التعدد والثراء هو سُنة الخلق وقانونه الأزلي، وتفهم أن أحداً في هذه الدنيا ليس أمامه مهرب أو مفر من احترام حقيقة أن المولي تعالي فَطَر الوجود علي هذا القانون الصارم الذي جعل اللوحة الكونية كما تراها حضرتك غنية وثرية ومتنوعة ما بين أفلاك وأجرام، وبشر وحجر وشجر، وكائنات وأقوام وأجناس ومعتقدات ومذاهب شتي، و.. أفكار وآراء وتفضيلات لا أول لها ولا آخر، وعليه فليس بمقدور مخلوق أن يصادر أو يطمس، أو حتي يتجاهل زحام التعدد في هذه اللوحة الكونية الرائعة، ولو حاول فإنه في الواقع لن يحصد سوي الخيبة القوية، فضلا عن الكفر بنعمة الخالق، والعياذ بالله. ولأن جوهر الوعي بقضية الحرية وبالديمقراطية التي هي أداتها ووسيلتها المجتمعية، هو الإيمان الراسخ بكل ما فات وترويض النفس علي ممارسة سلوك يترجم هذا الإيمان ويصدقه بالعمل، فإن البيئة التي يعيش ويتربي فيها الإنسان مؤثرة جدا ولها الدور الحاسم في تثقيفه وتهذيب طبعه وتدريبه وتعويده علي ذلك، ولهذا عندما تكون تلك البيئة مسمومة ومشوهة بالقمع والقهر والظلم والاستبداد فكل إيمان نظري بالقضية المذكورة يظل منقوصاً أو مجرد ادعاء لم يمتحن أو يختبر ويفتقر للدليل المادي علي صدقه. لماذا أقول كل هذا الكلام وأصدع رأس القراء الأعزاء به الآن ؟ في الحقيقة ليس هناك شيء خطير ولا مهم، كل ما في الأمر أن الفقير إلي الله كاتب هذه السطور يشعر برغبة جامحة في الفضفضة والبوح العلني أو بالأحري الاعتراف الحزين بأن ميزة من الميزات القليلة التي كنت أظنها من شمائلي بدأت ألاحظ مؤخرا وكأنني أفتقدها وتتسرب مني، أما هذه الميزة فهي إيمان صادق بالحرية والديمقراطية توجته (من زمن بعيد نسبياً) بتعهد وقرار واعٍ أن أتحدي البيئة القمعية التي نكابدها في هذا الوطن وأدرب نفسي تدريباً ذاتياً قاسياً (والله العظيم)علي اعتياد وتقبل كل ما يخالف اعتقاداتي وانحيازاتي وآرائي، غير أن حالي الآن أخشي أنه ليس هكذا بالضبط، فقد صرت أضيق فعلاً، وإلي درجة الغضب والقرف الشديد، من بعض ما يُبث وأتلقاه من فيض منتجات حرية الصراخ العرفية العقيمة القائمة حاليا، والتي اخترعها نظام الحكم بالعافية الراقد علي صدورنا من أيام ما كان لون العفاريت أزرق (صار الآن أسود غطيساً) لغرض التنفيث وصنع ديكور ديمقراطي كاذب يستر واقع التزوير والنشل التاريخي للثروة والسلطة في البلد. طبعاً.. من فرط الكرم والرقة قد تجاملني حضرتك وتقول إن عندي حقاً، وإن للغضب والقرف دواعي وأسباباً قوية فعلاً، ففي وسط هذا الفيض الكاسح من الكلام والضجيج هناك مقدار لا يحتمل من الجهالة والسفالة وقلة القيمة لايملك الإنسان حيالها سوي الارتداد والهرب من التسامح واتساع الأفق إلي خنادق التبرم وضيق الصدر، لكني أصارحك أيها القارئ الكريم بأن عقلي لا يستطيع قبول هذه الحجة، كما أن ضميري يأبي التذرع بها للتفريط في عقيدة وإيمان، يعلم الله وحده كم كلفاني من مشقة جهاد النفس. والخلاصة أنني في تلك اللحظة معتل المزاج وحزين كما تلاحظ ولست مؤهلاً علي أي نحو، لكي أرد علي قارئ فاضل (يميز نفسه في الفضاء الإلكتروني بمسمي «فركش») كتب معلقاً علي مقال الأحد الماضي : «هل هناك أمل أن تُغيّر الصحافة السياسة ؟ أنا باسألك هذا السؤال لأني باشوف حاجات كتير بتتكتب بس مفيش حاجة بتتغير.. يعني بننفخ في قربة مقطوعة». ياصديقي العزيز «فركش».. أنا الآن فاقد اليقين وغير متأكد إن كانت القربة التي ننفخ فيها مقطوعة أم سليمة، ولو كنت سألتني هذا السؤال في وقت سابق ربما كنت سأقول لك بمنتهي الحماس: إن الكلام الطيب لايضيع، وهو وإن لم يغير مباشرة في السياسة أو في غيرها، فهو قطعاً يجلي الأفهام وينير العقول ويشحذ الهمم..والله أعلم.