اصاب الاستاذ عباس العقاد فيما اورده بكتابه: الله.. من ان الانسان ترقي في العقائد كما ترقي في العلوم والصناعات, فكانت عقائده الأولي مساوية لحياته( البدائية) الأولي. وكذلك كانت علومه وصناعاته, وقد ادار الشق الاول من بحوث كتابه الضافي حول اطوار نشأة العقيدة الالهية منذ اتخذ الانسان اربابا الي ان عرف الله الواحد الاحد, واهتدي الي نزاهة التوحيد, فكانت هذه الهداية ختام رحلة طويلة للبشرية عبر قرون نحيل في تفاصيلها الي ما ورد بكتاب العقاد حول نشأة العقيدة الالهية وما مر بها من اطوار. ونحن نري اليوم انه قد آمنت بالتوحيد والوحدانية غالبية المنتمين للاديان السماوية ومازالوا بها يؤمنون مع بقاء الواحد الاحد سرا لاسبيل الي معرفة ماهيته ولا الي الاحاطة به بأية وسيلة او توجيهه وفق المشيئة الآدمية علي الاطلاق.. اذ هو ليس فقط خارج الزمان والمكان والملاحظة والرصد والتنويع, بل هو مبدع عقل الادمي وخالق الكون بكل ما فيه من مادة أو طاقة أو حياة. وهم يتوجهون اليه ويدعونه سبحانه باسماء وأوصاف من لغاتهم هم ولهجاتهم.. بها يبتهلون ويتعبدون ويستعينون ويشكون ويستغيثون ويلتمسون ويستقبلون مواليدهم ويودعون موتاهم.. ولا يشكون لحظة في وجود المخاطب جل وعلا ولا في سماعه ولا في اقتداره ولا في رحمته ولا في مغفرته ولا في عونه ولا في بركاته ونعمه. ومع ذلك فلم تكن الوحدانية واضحة المعالم علي معني واحد في اذهان الناس بل ورجال الاديان في كل العصور.. مضت عصور حتي فهم الناس ان النبوة هداية وليست من باب الكهانة والتنبؤ بالغيب أو العرافة والعيافة أو السحر أو التنجيم والاحلام والرؤي, ومضت عصور حتي تجلت فكرة التوحيد وتخلصت من شوائب الاوهام أو العصبيات للدولة أو الامة أو الجماعة أو القبيلة.. ففي عهود جاءت الدعوة الي التوحيد عن طريق توحيد الدولة وفرض سلطانها الواحد وعبادتها الواحدة علي من ينبسط عليهم سلطانها, وعلي هذه السنة جري الرومان علي اخضاع اليهود حين فرضوا عليهم عبادة الامبراطور.. لاهداية ولا اعترافا بالمساواة, بل للاخضاع وتحريم كل معبود غير معبود الدولة.. وكان الاله عند العبريين هو فقط إله اسرائيل. ودامت هذه العقيدة الي عصر ميلاد السيد المسيح عليه السلام الذي تحولت دعوته عن بني اسرائيل الي الامم بعامة دون ان تكون مقصورة علي بني اسرائيل. الذين لم تخرج الاديان من قبلهم عن نطاق القومية وإنما ظلت محصورة فيها تخاطب قوما دون اقوام. فلما جاء الاسلام جاء داعيا الي ديانة واحدة للعالمين, في هداية تتسع للبشر جميعا وللناس كافة. فبرأ عقيدة النبوة مما كان قد علق بها في اساطير الاولين. كما جلي عقيدة التوحيد والايمان برب واحد لا اله غيره. وعلم التوحيد فيما أبدي الامام محمد عبده في رسالة التوحيد, هو علم يبحث في وجود الله, وما يجب ان يثبت له من صفات, وما يجوز ان يوصف به, وما يجب ان ينفي عنه وعن الرسل لإثبات رسالتهم. وما يجب ان يكونوا عليه وما لا يجوز ان ينسب اليهم, وما يمتنع ان يلحق بهم. وان اصل معني التوحيد: هو الاعتقاد بان الله تعالي واحد لاشريك له. والمعلوم اقسامه ثلاثة: مستحيل لذاته, وممكن لذاته, وواجب لذاته, وحكم المستحيل لذاته انه لايطرأ عليه وجود. لان العدم من لوازمه. أما الممكن فلا وجود له ولا عدم من ذاته, وإنما يوجد لموجد ويعدم لعدم وجود سبب وجوده, بمعني أنه لايوجد إلا بسبب ولا ينعدم إلا بسبب, فهو اذن معلق بسببية. أما الواجب فهو ما كان وجوده لذاته من حيث هي, بحيث لايحتاج الي سبب لوجوده, بل إنه هو سبب ايجاد الممكن أو نفيه, فوجود الممكن يقتضي بالضرورة وجود الواجب, لان كل ممكن يحتاج الي سبب يعطيه الوجود, فوجب ان يكون السبب او الواجب هو وراء كل الممكنات, فهو واجب الوجود لذاته, وهو السبب الأول الذي لايحتاج الي سبب آخر لايجاده, وما عدا السبب الأول فلا يستقل بالتأثير بل لايؤثر البتة إلا بانضمام سبب آخر اليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره. فكل سبب من أمثال هذه الاسباب موقوف علي سبب أو اسباب أخري, إلا الله تعالي الواحد القهار, فهو السبب الأول, مستقل بذاته, وهو سبحانه الواجب الوجود لذاته.. من صفاته القدم والبقاء ونفي التركيب, والحياة, والعلم, والارادة, والقدرة والاختيار, والوحدة ذاتا ووصفا ووجودا وفعلا, الي آخر الصفات المستمدة من اسماء الله الحسني. وقيل إن هذه الصفات من احكام الواجب الوجود لذاته, فلو لم يكن قديما أزليا لكان حادثا, والحادث ما سبق وجوده عدم, وكل ماسبق بالعدم يحتاج الي علة تعطيه الوجود. فلو لم يكن الواجب قديما ما كان وجوده لذاته. ومن احكامه ان لايطرأ عليه عدم, وإلا لزم سلب ما هو للذات عنها, وهو محال. ومن احكامه ان لايكون مركبا, اذ لو تركب لتقدم وجود كل جزء من اجزائه علي وجود جملته التي هي ذاته. والواجب ماكان وجوبه لذاته من حيث هي ذاته. وكما لايكون الواجب مركبا لايكون قابلا للقسمة, لانه بها يعود الي غير وجوده الاول الواجب لذاته, والقول بغير ذلك معناه تعدد الوجودات بتعدد الاجزاء الحاصلة من القسمة. بينما هو الواجب وجوده لذاته من حيث هي ذاته. ومن كمال هذا الوجود قوته بكمال هذا المعني, حيث إن وجود الواجب هو مصدر كل وجود ممكن فيكون هذا الوجود الواجب مستتبعا الصفات الوجودية التي تقتضيها هذه المرتبة. فواجب الوجود حي وهو واهب الوجود وما يتبعه. فالحياة له كما أنه مصدرها, وصفة الحياة هي التي تستتبع العلم والارادة, فواجب الوجود عالم, ومن ادلة ثبوت العلم الواجب ما نشاهده في نظام الممكنات من الاحكام والاتقان, ولما كان الواجب هو مبدع الكائنات علي مقتضي علمه وإرادته, فلا ريب أن يكون قادرا بالبداهة, وثبوت هذه القدرة مع العلم والارادة يستلزم بالضرورة ثبوت الاختيار.. فهو سبحانه الفاعل المختار. ومما يجب له صفة الوحدة ذاتا ووصفا ووجودا وفعلا. وليس في كافة الموجودات ما يساوي واجب الوجود في وحدة وفي مرتبة الوجود, ولا في التفرد بوجوب الوجود. وبهذا الوجود البالغ أعلي غايات النظام تعلق العلم الشامل والارادة المطلقة. فصدر ويصدر علي هذا النمط الرفيع افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم إلينا لا ترجعون؟ وهذا هو معني قولهم: افعاله سبحانه لا تعلل بالاغراض, ولكنها تتنزه عن العبث, ويستحيل ان تخلو من الحكم, وان خفي شئ من حكمتها عن الانظار. والله تعالي أعلم. وعقلانيا تتصل فكرة الوحدانية والتوحيد بفكرة القضاء والقدر والسببية والحتمية من عدة جهات.. منها ان الارادة البشرية بطبعها محكومة في الاغلب الاعم.. وتبدو للادمي دائما محملة بمشيئة عليا خارجة لايمكن ان تغالب او تنافس.. وهو خاضع اي الادمي في كل لحظة لنواميس فعالة جارية داخله وخارجه تساير ولا تغاير.. ويرتبط حظه بنجاحه في هذه المسايرة ومبلغ مالديه من الالتفات والفهم لتحققها.. ولديه منذ مولده اجهزة ملائمة لذلك.. واي تمرد من جانبه شذوذ ينتهي حتما بنهاية وجوده الموقوت الفردي العرضي الزائل الفاني.. وقد لخص الآدمي لنفسه ذلك ونحوه في فكرة القضاء والقدر.. كما ان وسيلته الأولي والاخيرة الي العيش هي حظه من الوعي لوجوده وللوجود الذي هو فيه. وهو ما تقوم به المشاهدة والمخيلة وتحفظه الذاكرة.. ووعيه خلقة واصلا موضوعه ما يدخل في مرمي حواسه ومألوفها مع ما قد يتصور وجوده في الخيال أو الاعتقاد. وهو بطبيعة العقل يمارس ذلك من خلال عملية ترتيب وتنظيم بسيطة أو معقدة فيها يجعل سابق الاحداث سببا لتاليها اذا تكررت في ظروف يراها متماثلة ويستنبط من ذلك فروضا وقواعد يستعملها في التوقع.. وهو في هذا المجري العادي للوعي البشري يري الكون كله كيانا واحدا مبنيا بناء حتميا علي نواميس محددة مقدما ابدية لا تتخلف. وتأتي في هذا السياق فكرة البشر عن الازلية والأبدية والكون والفساد أو الانشاء والافناء.. واهل الاديان السماوية يدينون بعقيدة خلق الكون وفنائه في موعده وابدية وأزلية خالقه سبحانه.. وهو جانب فكري من جوانب الوحدانية والتوحيد.. فالخالق عز وجل هو الاصل والمصدر الدائم لكل ما هو موجود. وهو سبحانه وتعالي الأول والآخر والظاهر والباطن والمحيي والمميت.. وهذه صيغ ان تكن مألوفة الالفاظ إلا أن تركيبها ومعناها لايتصور إلا من جهة آثاره فينا وفي اجزاء العالم التي نراها أو نحس بها, ولايمكن ان يتصور معناها لدينا من جهته سبحانه وتعالي مباشرة.. لأن تصورنا كله يرتبط بالزمان والمكان لايفارقهما.. ولا يتأتي اقرار وعينا به تعالي من طريق التصور ولكن من طريق الايمان فقط.. وهذا هو واقعنا وواقع اهل الاديان السماوية من قديم الزمان.. ونحن مسئولون عن إخلاصنا في الايمان بالله سبحانه وتعالي وبوحدانيته, وتسليم عقولنا وقلوبنا له ورعاية هذا الايمان بكل عناية في سلوكنا كله الي ان نفارق الحياة الدنيا, ونحن علي هذا الايمان الراسخ بالواحد الاحد رب العالمين.