د. محمد الراوي عضو مجمع البحوث الإسلامية واستاذ علوم القرآن من العلماء القلائل الذين ارتبط اسمهم بكتاب الله وتفسيره، وفي شهر رمضان تتجلي علاقته بالقرآن كأساس لحياته، وعلاقته بربه. في حوارنا معه طرح الشيخ الراوي كيفية بناء العلاقة مع الله، وتطورات حياته مع كتاب الله الكريم، ولقد كان من أكثر المعاني التي حرص علي ذكرها الشيخ الراوي كأساس في العلاقة مع الله لا سيما في شهر الصوم هي تربية الفطرة الإنسانية علي محبة الله والقرب منه، وعدم التصنع أو التحضير أمام الناس لإظهار تلك العلاقة علي أحسن ما تكون. في رمضان يحتاج المسلم لتقوية علاقته بالله، فما الوسائل التي يمكن من خلالها بناء العلاقة ؟ - العلاقة مع الله تستوجب استحضار أثر الخالق في المخلوق، فالإيمان يجعلنا نخاطب أنفسنا أين كنا قبل أن نجيء إلي الدنيا مذْكُورًا" فهذا السؤال مع يسره ذكرنا القرآن به في قوله «قَلْ أَتَي عَلَي الإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يكُن شَيئًا مَّذْكُورًا»، ولنا مع هذا السؤال أن نقول متي أصبح الإنسان شيئاً مذكورا، فاستحضار ذلك يجعلنا نوقن بالله يقين من يعرف قدرته وحكمته ويعرف في الوقت نفسه حكمة خلقه وغاية وجوده فلا يضل ولا يضل ولا يشغل بهواه عن ذكر الله لأن ذلك يودي به في دنياه، ويحقق الخسران له في أخراه، ومن هنا نادي الله المؤمنين بقولة «لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ». ولا أعرف شيئا من عقاب هو أشد من عقاب الإنسان بأن ينسيه الله نفسه، لأنه إذا نسي الإنسان نفسه وقع في الخبائث، وهو يحسب أنه يعمل الطيبات، وصدق الله حين قال«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يحْسِنُونَ صُنْعًا"، فمن هنا ندرك حكمة الأمر بالمداومة علي ذكر الله والإكثار من ذلك بلا انقطاع في قوله "يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» لأن الذاكر لله تعالي يكون نومه وصحوه وقعوده ومصابه وشكره وحياته وموته ذكرا لربه، وما أجمع ما قالته الآية الكريمة أمرا لرسول الله "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْياي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ». وما أحب أن أشير إليه في العلاقة مع الله هو أنه لا بد أن يعرف الشخص نفسه، لأن الإنسان إذا عرف نفسه وصدق في معرفتها كان ذلك سبيلا لمعرفة الله، ولذلك نري القرآن عندما يقدم العقائد للناس يقدمها في التفكر في أنفسهم وفي ذلك يقول عز وجل «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِي خَلْقَهُ قَالَ مَن يحْيي الْعِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ قُلْ يحْييهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ». كيف تصف علاقتك مع الله؟ - علاقتي مع الله أساسها فطرية لأنها تعتمد علي حبه عز وجل، فلا أستطيع القول بأن لدي أسلوباً معيناً، وأعني بذلك أنني أذكره ذكر ما لا أنساه، وأجعل ما بداخل نفسي لله أكثر من خارجي، وأجعل من علاقتي معه سببا في الخروج من أي أزمة تعترضني لدرجة أنني عندما يصيبني ضيق وأتذكر الله عز وجل يذهب هذا الضيق عني، فحبي لله هو حب العبد لربه وهو الحب الذي له تأثير في كلامي قد يشعر به السامع، فأنا أحب الله حب عبد بحاجة إلي الله تعالي دائما، والقرآن له فضل كبير في توجيهي لهذا الحب عن طريق اتباع تعاليمه في كيفية العلاقة مع الله. وفي الحقيقة فإن علاقتي بالله تعتمد علي حب كبير له لأنني استشعرت رعايته لي منذ الصغر حيث إني ربيت يتيماً وشعرت أن فضله علي كبير حيث هيأ الأمور لي من رعاية ونشأة، ولذلك فإنني يكفيني في علاقتي مع الله أن أتذكره دائما ولا أطلب منه سوي الستر فأنا ممن أومن بنعمة الستر وهذا ما أشعره من الله. منهج محدد وهل لك منهج في هذه العلاقة؟ - ليس لدي منهج تقليدي في علاقتي مع الله، ولكن كل ما أحرص عليه في هذه العلاقة هو السرية التامة، فلا يعنيني أن يعرف الناس أنني قريب من الله وإنما أحب أن أكون قريباً من الله في نفسي وفي قلبي، وعليه فإن المعلنات عندي في علاقتي مع الله هي الحفاظ علي أداء الصلوات واحترامي لما شرعه الله، كما أنني لا أحب التكلف في إظهار العلاقة مع الله حتي الدعاء لله لا أستشعره إلا عندما يخرج من قلبي قبل لساني في خفية لا يراني فيها سوي الله، ولذلك إذا ما سألت عن خير الدعاء أقول دائماً هو ما خرج من القلب، وما قاله الرسول صلي الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن خير الدعاء بأن يطلب من الله من خير ما طلب منه نبيه محمد صلي الله عليه وسلم، وأن يستعيذ من شر ما استعاذ به نبيه محمد صلي الله عليه وسلم. وفي الحقيقة لا أومن بمن يستحضر التقوي في علاقته مع الله أمام الناس، ولذلك لا يريحني من يقوم بتحضير الدعاء ليقوله علنا علي الناس، خاصة أن ما في القرآن يغنينا عن تحضير الدعاء للقرب إلي الله والدعاء في القرآن به كل الخير الذي يتمناه، ولا بد أن يكون الدعاء صادراً من القلب. هل لرمضان طبيعة خاصة تؤصل علاقة المسلمين بكتاب الله؟ - القرآن يحب الليل ويحب رمضان ، لأنه نزل في رمضان وفي ليلة القدر ، فقال تعالي:«شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن» كما قال عز وجل: «إنا انزلناه في ليلة القدر»، فالزمن محبوب للقرآن لأن الناس تترك فيه العادات السيئة كما تبحث فيه عن كل فضيلة وتلجأ لكتاب الله لتستزيد منه ليل نهار فهو أنيس المسلمين في تراويحهم وليلهم وقيامهم في شهر القرآن. وما الذي تأخذه علي الدعاة في رمضان؟ - ما آخذه علي كثير من الدعاة مسألة طول الدعاء في صلاة التراويح، فالرسول صلي الله عليه وسلم كان لا يحب كثرة الدعاء التي يقوم بها الناس في يومنا هذا في المساجد وفي صلاة التراويح حيث قد يتعدي الدعاء نصف ساعة، فمن أراد ان يدعو كثيرا فليدعو مع نفسه. لماذا تقتصر عن وسائل الإعلام حالياً؟ -لقد تجاوزت 83 عاما وفي هذه السن يصعب الحديث كثيرا، بل إنني عندما أسجل حلقات عن كتاب الله أسجلها بالمنزل، ولا أحب رد احد ولكن للصحة أمور تلزم الإنسان. مراحل تحول لكل إنسان فترات ومراحل استشعر فيها أنه تحول في العلاقة مع الله إلي جانب أقوي، فما المرحلة التي استشعرت فيها بعملية تحول للقرب من الله، وتعميق العلاقة به؟ - في حياتي لم تحدث تحولات في علاقتي مع الله فالبيئة التي نشأت وتربيت فيها كانت ملتزمة بالقرآن وتعمل علي تأسيس الطفل في علاقته مع الله منذ الصغر، فالبيئة والفترة التي نشأت بها كان التنافس فيها علي معرفة الله وقراءة القرآن، ولذلك فعلاقتي مع الله لا يوجد فيها تحولات لأن هذه العلاقة أساسها النشأة فقد فتحت عيني علي القرآن ولم أرغب غيره، ولي ذكريات كثيرة معه ومع تفسير آياته. ومع ذلك فإنني واجهت عقبات ومواقف في حياتي بطبيعة مراحل الإنسان كان يمثل كل منها مرحلة تزداد فيها قربي من الله، حيث تدبرت فيها حكمة الله فكانت تزيد من قربي منه عز وجل لأن العقبات دائما تعطي للإنسان فرصة لأن يراجع نفسه، وإذا ادعيت أنني لم أخطأ أكون كذابا، ولكن هناك في داخلي شيئاً ما يجعلني أصحح الخطأ بمعني أن أكون معترفاً أمام الله بخطئي وأعود إليه ولا أجاهر بمعصية. لحظات القرب متي تستشعر أنك أكثر قربا من الله؟ - مع قراءة القرآن استشعر أنني قريب من الله، لأنني أحب القرآن منذ الصغر، وأول لحظة شعرت فيها بهذا القرب لحظة سماعي لقوله تعالي:«الله لطيف بعباده» فعند سماعي لهذه الآية ظللت ابحث عنها في المصحف أكثر من ساعة حتي أستشعر معناها في قلبي. ولا أنكر فضل قراء القرآن أصحاب الأصوات الندية في تقوية العلاقة مع آيات الله والقرب من الله عز وجل، ومن بين القراء الذين أثروا في حياتي هو الشيخ محمد صديق المنشاوي، فعندما كنت أذهب إلي المسجد كنت احتار فيما سأقوله في الخطبة ولكن عند سماع القرآن من الشيخ المنشاوي كنت أشحن بالمعاني التي أريد قولها في الخطبة، والسبب هو أن الشيخ المنشاوي كانت قراءته تثير بكاء النفس، وتستشعر فيها أنك مسحوب وهائم في معاني القرآن. وفي الحقيقة فإن لي ذكريات كثيرة مع القرآن، الذي سيظل أساس قربي من الله، ولذلك تمسكت طوال حياتي بتدريس القرآن وحتي في مجمع البحوث الإسلامية أتمسك بلجنة القرآن الكريم، وأتشرف دائما برئاستها حتي أستطيع خدمة كتاب الله عز وجل. تدبر القرآن ما الوسائل التي ينبغي تتبعها في تعميق العلاقة مع الله؟ - أهم هذه الوسائل هو تدبر القرآن الكريم فكل آية من آياته يؤدي فهمها وتدبرها إلي تعميق العلاقة مع الله وهذا هو سبيلي الأول لتعميق العلاقة مع الله، ولذلك فأنا دائما أقول أن الإنسان الذي عنده من الفطرة التي تمكنه من معرفة تفسير آيات الله عز وجل التي أنزلها في كتابه المطهر بدون تكلف هو أقرب الناس إلي الله وأشدهم علاقة به عز وجل، فالقرآن في حاجة من أجل تدبره إلي نفس حية، ولذلك أنا من الناس الذين لايحرضون علي قراءة كتب التفسير لأن أعظم تفسير يكون من القلب. كما أن الطاعة لله هي مسلك مهم في تدعيم علاقتي بالله، وأرجو من الله أن يعينني دائما عليه، فالبشر جميعا في حاجة إلي طاعة الله، ولذلك فعندما يطلب الله منا الإيمان يطلبها لكي يكون العبد قريباً منه وإلا استغني الله عنه، وصدق عز وجل حين قال في سورة «التغابن» «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَي اللهُ وَاللهُ غَنِي حَمِيدٌ»، فهذا دليل علي أنه تعالي يريد أن يكون العبد قريباً منه، وكلمة استغني الله لا يفهمها إلا الإنسان الحر الذي يستطيع أن يتدبر معناها بقلبه وبصيرته. هل هناك مواقف جعلتك أكثر قربا من الله؟ - شعرت بأن في الشدائد أنني أجد الله، ولا أقولها دروشة، فكل أزمة جعلتني أتأكد من ضرورة القرب من الله فهو موجود ويشعر بنا، ولذلك تأخذني دائما كلمة «قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا» تأثير قوي لأن كلمة " قد سمع" ليست إخباراً عن قضية وإنما دلالة علي عقيدة، وهي أن الله دائماً معنا في الشدة والرخاء وليس علينا سوي أن نلجأ إليه لأنه دائما يسمعنا. تجنب السلبيات بالتأكيد هناك سلبيات في حياة كل إنسان يحاول أن يتجنبها حتي لا تؤثر في علاقته مع ربه، فماذا عن تلك السلبيات في حياة الشيخ الراوي؟ - ما أحاول تجنبه هو كثرة المخالطة للناس في أيام الفتن ولذلك قليل جدا أن أقضي وقتا بعيدا عن البيت، كما أنني لا أستجيب للناس كثيرا في دعواتهم، وأتجنب مواجهة المواقف باندفاع، خاصة أنني تعلمت كيف أواجه المواقف بحكمة حتي لا أقع في خطأ وفي نفس الوقت أرضي الله عز وجل، ومع ذلك أبدو أحيانا غاضبا ولكن غضبي كغضب الأطفال وأحرص علي أن أكون غضوبا لله لا لغيره، كما أرفض أن يكون لدي فتاوي لأن كثرتها دليل علي كثرة العيوب، وتوقع صاحبها في الهلاك إن أصابت ضررا. من أكثر الأشخاص الذين أثروا في حياتك وفي علاقتك مع الله؟ - رجل كان يدرس لنا التفسير وكان يحب القرآن وهو الشيخ هاشم من محافظة سوهاج وهذا الرجل كان إذا قرأ نفهم منه القرآن وكنت أقول له عقب قراءته للقرآن لا تفسر وإنما يكفي أن نسمعك، فكان إذا قرأ كان الطالب يستشعر بالخشوع إلي الله ولذلك كان هو في القرآن المثل العلي، وقد كنت أناقشه كثيرا حتي أتعلم منه، وهو الذي نصحني بألا أترك القرآن، ولذلك دخلت أصول الدين، وتمسكت بتعلم علوم القرآن التي عمقت من قربي من الله، ولذلك سيظل للشيخ هاشم في نفسي مكانة له كبيرة أظل أذكرها طوال حياتي لأنه أصل لدي محبة القرآن التي أوصلتني إلي محبة الله.