يبدو أن كل الأطراف في مصر أصبحت بعد عامين من إنطلاق الثورة تلعب ما يسمى في العلوم السياسية ب Zero Sum Game أو لعبة جمع الأصفار، حيث يقوم خصمين بالتنازع دون أن يجني أي منهما مكاسب تحسب. مثل اللعبة القديمة حين يقود سائقين سياراتهما مسرعين كل في إتجاه الآخر و أن لم يحيد أحدهما يرتطما ببعض. الحقيقة أنه بفضل قيادة المجلس العسكري و الإخوان لسيارة غير آبهين لإرادة الطرف الآخر، لم يعد لدى أحد شيء يخسره. و سادت حالة من الإكتئاب العام منذ أن قرر مكتب الإرشاد أنه ليس هناك مانع من تقسيم الوطن إلى معسكرين في سبيل ترسيخ شرعية وهمية لرئيس، هم يعلمون جيداً أنه أقل كفاءة من معظم كوادر جماعته، فما بالك ببلد مثل مصر!
كنا نعاني قبل الثورة من حالة إحتقان مكتوم، و بعد ستين عاماً من الصمت تكلمنا كلنا في نفس واحد، فلم نعد نسمع بعضنا و لا حتى نستمع إلى الآلة الإعلامية المترهلة التي قرر العسكر و الإخوان أنهم قادرون على توظيفها من أجل إختزال الثورة في الثمانية عشرة يوماً الأولى من الثورة، من خلال إعادة نفس المشاهد المكررة لمواطنين مع ضباط جيش بجانب دبابة و خلافه..
و في مقابل هذا التعنت و الإصرار على فرض واقع هو أكثر مسوخة و ضبابية من الوضع السابق، و إستنكارهم لقيوداً قد كُسرت و بصيرة قد رُدت، فقدت الأغلبية العظمى من الشعب إيمانها بأي شيء. فقادة الجيش حولوا الفرح إلى مأتم، أما النخبة – فالإسلاميون حنثوا بالوعد تلو الآخر و لم يحققوا شيئاً منذ توليهم الحكم، بل إزداد الفقير فقراً و إتسعت الهوة. و القوى المدنية أضاعت فرصاً لا تحصى من خلال إنقسامات و أطماع فردية للوصول إلى السلطة تتسم بالسذاجة أكثر من أي شيء آخر، فتهاوى الإنسان وبقي نظام يستند إلى ركائز صدئة.
الحرية المطلقة لا يمكن أن ينتج عنها عدل، بل حالة عبثية تختلط فيها المفاهيم فيصبح كل شيء متاح من أجل البقاء، ويستحيل عندئذ بناء دولة، و تظهر إفرازات ذلك من خلال حكام يستحيل حتى تقييمهم تاريخياً. مثل آخر المماليك قبل الحملة الفرنسية على مصر أو ولاة مرسلين من الباب العالي دون إجماع شعبي من أمثال خسرو باشا، أي كل من سبقوا بداية الدولة الحديثة في مصر. فنحن في مرحلة بناء الدولة حين يكون الهدم هو الطريقة العاقلة الوحيدة قبل إرساء أركان نظام جديد يضع العدل أساساً للحكم، ثم تصبح الحرية عاملاً أساسياً من أجل الإبداع و البناء.
من خلال هذا المشهد، قد يتضح أن المجموعات الشبابية مثل الألتراس و البلاك بلوك التي تتحرك بقوة جبارة ضاربة أوصال النظام الهرم، قد تكون هي النواة لبناء دولة ما بعد الثورة، فالمسألة ليست فقط حكما في قضية إستشهاد 72 من زملائهم داخل إستاد بورسعيد في فبراير الماضي، و لكن إتساق مع ضرورات التغيير عجزت الأجيال الأكبر عن إستيعابه. فقد أدركوا بحسهم النقي أن الفوضى السائدة ليست هي الحرية المنشودة، و أدركوا أيضاً أن تحقيق العدل يسبق اي مطالبة بحرية، و أن مؤسسات مثل القضاء أصبحت مجرد أطياف خاضعة للزوال في أي لحظة، و أن تلك المرافق التي يتهمون بتعطيلها إن إستطاعت أن تؤدي دورها اليوم فهي بالتأكيد لن تقدر على خدمة المواطنين في المستقبل القريب جداً، و أن من في الحكم اليوم مجرد إفراز لتلك الفوضى التي أودت بحياة أقرانهم دون أي عقاب.
لعبة جمع الأصفار ستقضي على هذه المنظومة التي لم تتقن أي شيء سوى التدمير الذاتي و لم تستوعب متغيرات و متطلبات الزمن تماماً مثل المماليك الذين إندثروا قبل قيام الدولة المصرية الحديثة.