كانت المعركة الانتخابية لكل من الرئاسة ومجلس الشعب في سبيلها لأن تبدأ حتى فوجئت مصر قبل فجر يوم السبت الماضي بعملية إرهابية مروعة في شرم الشيخ، تصورنا أن السيناريو الذي يدعو إلى التشاؤم هو الذي يتمثل في مقاطعات واسعة للانتخابات، فإن الذي حدث، حتى لحظة كتابة هذه السطور، هو أن احد أحزاب المعارضة الشرعية، وهو حزب التجمع “حزب اليسار” قد قرر المقاطعة، ولم يقاطعها حزب آخر من هذه الأحزاب حتى الآن، مع احتمال راجح أن اغلب أحزاب المعارضة ستقاطعها، لو تمسك الحزب الحاكم بشروطه في إجرائها. والحقيقة انه لو كانت الأمور توقفت عند هذا الحد، لجاز لنا القول إن أياً من الطرفين لم يحقق ما أراده، كان الحزب الحاكم ينشد مشاركة أحزاب المعارضة الشرعية في الانتخابات، وهذا هدف لم يتحقق، واعتبرت أحزاب المعارضة أن شروط الحزب الحاكم للمشاركة تعجيزية، وبالتالي لم يكن هناك من مخرج سوى المقاطعة. غير أن الحزب الحاكم لا ترضيه المقاطعة هو الآخر، ذلك بأن العالم كله بات يسلم بأن مشاركة أحزاب المعارضة في الانتخابات مسألة يفسرها العالم الغربي على أننا بصدد نظام يحترم الديمقراطية، ويهم الحزب الحاكم أن يملك ما يبرر القول إنه جدير بهذه الشهادة. إلا أنه لا الحزب الحاكم، ولا أحزاب المعارضة، على استعداد للتراجع، وهكذا تتكرر الصعوبة التي سبق أن اشرنا إليها، وهي أن قناعة كل طرف أن الطرف الآخر لا يملك غير أن يتراجع، وان هذا تحكمه عوامل داخلية ودولية وإقليمية من شأنها إلزام الأطراف بتجاوز المأزق، أيا كانت الصعاب التي تقف عقبة في وجه هذا التغيير. هل من سبيل للخروج من الدائرة المفرغة؟ الحقيقة أن مواجهة هذه الإشكالية قد تحتاج إلى مناقشة الموضوع من الوجهة النظرية، وأول سؤال يطرح في هذا الصدد هو: هل من الممكن تحويل تناقضات عدائية إلى تناقضات غير عدائية؟ ذلك بأن التناقضات العدائية هي تلك التي توصف ب “اللعبة الصفرية” ZERO SUM GAME، ومعنى ذلك أن يكون النهج في “حل التناقض” بين طرفين، بإزالة التناقض بين هذين الطرفين عن طريق ترحيله إلى طرفين آخرين. على سبيل المثال: حالة الحرب بين العرب و”إسرائيل” نموذج للتناقض العدائي بين الطرفين، هل من الممكن أن يصبح هذا التناقض غير عدائي، بل ويصل إلى حد إبرام تسوية بين الطرفين؟ إن هذا بطبيعة الحال يفترض قدرا من التساوي في موازين القوى بين الطرفين، وليس هذا متوافرا، ولكن من الممكن، من الناحية النظرية، توفيره وذلك بترحيل التناقض في تعبيره الأكثر حدة (لمتمثل في “حالة حرب”)- إلى تناقض آخر، وأطراف أخرى، مثلا، أن يتحمل المجتمع الدولي تعويض الفلسطينيين الذين فقدوا ممتلكاتهم، وأن يكون التعويض سخيا، باعتبار أن تحمل هذا التعويض (حتى لطرف ثالث) اخف بكثير من مآسي حالة التشتت والتيه التي يعاني منها اللاجئون الفلسطينيون الآن. عملية التغلب على الصراع تمثلت إذن في إعادة توزيع التناقضات، وتحويلها، كلما كان ذلك ممكنا، من تناقضات عدائية إلى تناقضات غير عدائية، تناقضات كثيرا ما توصف بإجراءات “بناء ثقة”، وطبعا يتعذر تصور احتواء كل التناقضات العدائية، وترجمتها كلها إلى تناقضات غير عدائية، وإلا لكان النزاع قد زال دونما حاجة إلى مفاوضات مضنية، والمشكلة التي تواجهنا هي ابتداع آليات توسع دائرة التناقضات التي من الممكن تحولها من عدائية إلى غير عدائية، لدرجة تحول دون استمرار نهوض التناقضات العدائية بدور الحاجز في وجه التوصل إلى تسوية شاملة. وهذا يدفعنا إلى تأمل مفهوم آخر هو تحول التناقضات من اللاصفرية بالناقص NON- ZERO SUM GAME MINUS إلى اللاصفرية بالزائد NON- ZERO SUM GAME PLUS أي من وضع كلا الطرفين فيه خاسر إلى وضع كلاهما فيه رابح، وهذا ليس مستحيلا من الوجهة النظرية، غير انه ينبغي التحوط، وتجنب الوقوع في أفخاخ. على سبيل المثال، هناك ما قد يوحي بأننا بصدد لعبة لا صفرية بالزائد، وان الطرفين بصدد أن يربحا، بينما لا نكون في حقيقتنا في مثل هذا الوضع، بل في وضع يزداد فيه حال الفلسطينيين تعثرا وسوءا، فإن شارون قد أعلن استعداده للانسحاب من غزة، ومن 4 مواقع في الضفة، وقد رحب الفلسطينيون بمبدأ انسحاب “إسرائيل” من غزة، فهل هذه لعبة صفرية بالزائد؟.. هل نحن بصدد حالة يتحقق بمقتضاها كسب للطرفين المتنازعين؟ الحقيقة أن شارون يريد الانسحاب من غزة على انه آخر انسحاب تقدم عليه “إسرائيل”، بينما الفلسطينيون يريدون الانسحاب على أن يكون أول انسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتتلوه بعد ذلك خطوات متتالية، فإن ظاهر الأمر أن العملية لعبة صفرية بالزائد، بمعنى أن الطرفين رابحان، وهو في حقيقته “لعبة صفرية” بمعنى أن الانسحاب كما يريده الفلسطينيون لن يتحقق وسيتوقف نهائيا عقب هذه الخطوة التي يريدها الفلسطينيون مجرد خطوة أولى.. وللتوفيق بين الرؤيتين، أصبح من الضروري ابتداع حل لما هو ليس لمصلحة خط شارون فقط، بل يحقق مصالح الفلسطينيين أيضا. صحيح انه من الممكن أن يقال إن شارون قد عرّض نفسه لصراع حاد مع صميم حزبه الليكود كي ينتزع منه الموافقة على الانسحاب من غزة، وان هذا سوف يكون نقطة في مصلحته لانتزاع تنازلات من واشنطن، بل ومن أطراف أخرى، فمنذ وجود مستوطنات يهودية في الضفة الغربية، أكدت واشنطن باستمرار أن هذه المستوطنات “غير شرعية”، و”عقبة في وجه السلام”، والآن يطالب شارون ب2.2 مليار دولار لتغطية نفقات سحب القوات “الإسرائيلية” من غزة! هل تغير واشنطن موقفها، وتوافق على تعويض “إسرائيل” بمبلغ يتجاوز الملياري دولار! هذا نموذج للأخطار التي تواجه إحلال تناقض محل آخر للالتفاف حول التناقضات الأكثر حدة، ولإحلال تناقضات منسوبة إلى عملية التسوية محل التناقضات التي مصدرها استمرار حالة الحرب. لقد جاءت كوندوليزا رايس إلى المنطقة للمرة الثانية في مدة وجيزة كي تسهم في عملية ابتداع حلول لهذه المشاكل العويصة، فهل تبتدع ما فشل غيرها في ابتداعه؟ أم تقع فريسة الابتزاز الشاروني؟ ----- صحيفة الاهرام المصرية في 28 -7 -2005