يذكرنى انتظار المصريين والمصريات، دولة ومجتمعاً، والحديث الذى لا ينقطع عن «الحوار المجتمعى» و«حوارات المصالحة الوطنية»، بفكرة وأحداث مسرحية «فى انتظار جودو» للكاتب الأيرلندى الشهير صمويل بيكت، والتى تجسد روح اتجاه «مسرح العبث» وتمثل موضوعه الأساسى. فبطلا المسرحية يقضيان فترة العرض كله فى انتظار شىء أو شخص أو معنى يدعى «جودو»، ولذلك يمثل الانتظار ذاته قمة العبثية، فحتى انتهاء العرض، لا يدرك أحد من الجمهور ماهية، أو معنى، أو هيئة الشىء المنتظر، أو لماذا لا يأتى؟! يحدث ذلك الآن فى مصر، حيث يكثر الحديث فى الأوساط السياسية والإعلامية عن ضرورة البدء فى الحوار المجتمعى، دون أن تعرف له معايير وآليات ووسائل علمية، تهيئ المناخ المناسب لإدارته، وذلك فى ظل صراعات سياسية، وأزمة ثقة شديدة تعصف بمقدرات الحوار حتى وإن حسنت النوايا. ولنبدأ بمكاشفة الأزمة فى رصد وتقييم أسباب فشل الحوار المجتمعى، ثم نتعرض للحلول العلمية القابلة للتطبيق على أرض الواقع، والتى تضع أطراف الحوار أمام مسئولياتها المجتمعية عن نجاحه أو فشله. تتم الدعوة فى مصر للحوارات المجتمعية -كما درجت العادة- فقط فى الأوقات المشحونة بالأحداث التى تهدد الاستقرار المنشود، وتعمق من فجوات التواصل بين السلطة والمجتمع، وليس كترسيخ لخطة استراتيجية تنويرية بعيدة المدى، تتبناها الدولة أو الفصائل السياسية الكبرى، بهدف إرساء ثقافة الحوار، باعتبارها أحد أهم مقاييس رقى وتحضر الشعوب، وضمانة التقدم على كافة الأصعدة. وهناك على المستوى السياسى على الساحة المصرية -فى تقديرى- نوعان مما يسمى خطأً بالحوار المجتمعى: أولهما: لقاءات يدعو لها صانعو القرار فى المؤسسة الرئاسية أو السلطة التنفيذية، للاستماع والتحاور بشأن آراء أو اقتراحات أو نقد من قبل سياسيين وشخصيات عامة مؤثرة، يدلون بدلوهم فى دقائق محددة، موجهين الخطاب إلى صانع القرار، ويتفاعل معها صانع القرار بالشرح أو بالنقد، أو بالاتفاق أو بالطمأنة. وثانيهما: لقاءات بين أطراف سياسية ومجتمعية، يمثلون أيديولوجيات وتوجهات فكرية ومصالح سياسية مختلفة، وهو ما يجب أن يسمى بالحوار «التفاوضى»، بدلاً من الحوار «المجتمعى»، وذلك تهيئة لتنوير الوعى الجمعى بحقيقة أن الحوار يهدف للتفاوض بين الآراء المختلفة، وصولاً إلى أرضيات مشتركة تخدم صالح الوطن. وتغلب على هذا النوع من «الحوارات» مجموعة من السلوكيات وأنماط الحوار السلبية عند المتحاورين، تعد ذات تأثير كارثى على مجريات الحوار، ومن أهمها نمط «التآمر»، والذى تهيمن فيه الصور الذهنية النمطية والتصورات المسبقة للأحداث على تفكير المتحاور، مما يحد من قدرته على حسن الاستماع والتفكير الموضوعى. وهناك نمط «التسلط»، والذى يعد نتاجاً لترسخ ثقافة الاستبداد فى الرأى، وغياب الديمقراطية، ويغلب على المتحاورين المنتمين لهذا النمط التشدق بمقولات توحى باحتكار الحق والحقيقة. كما يبرز فى هذا السياق نمط «التناحر»، والذى يعتمد على مبدأ المباراة الصفرية (Zero-Sum game)، ويهدف إلى سحق الآخر وإقصائه بهدف السيطرة والهيمنة. وهناك من المتحاورين من يعيش فى نمط «غيبوبة الماضى»، وهم من يتذكرون الماضى جيداً، وينسون دروسه بسرعة، ويطمئنون إلى أدواتهم الفكرية، معتقدين أنها دائماً الأكثر تطوراً عن غيرها. وهناك نمط يميزه «الاستلاب والإحباط»، ومن ينتمون له يمثلون أكثر الفئات المعيقة لتطور الحوار، فهم يستسلمون إلى خط فكرى مقدم من أحد أطراف الحوار الرئيسيين باستلابٍ «كالمنوم مغناطيسياً»، وينغلقون عادة على نظام قيم دينى أو عالمانى بصورة متحجرة، ولا قدرة لهم على رؤية البدائل، وهم فى السائد يجسدون رؤية محبطة فى الحوار، تسقط أسباب أكبر الإشكاليات والمحن على شخص أو فصيل بعينه، دون النظر إلى الجذور والأسباب الجوهرية، التى أدت بالإشكالية أو بالمحنة للتفاقم. والنمط الأخير هو نمط «الصمت والغموض السلبى»، وينتج إما عن عجز المتحاور عن توصيل المعنى المراد، أو عن افتقاد شجاعة المواجهة الصحية، أو بغرض المقامرة «باللعب على الحبال المختلفة»، بغية التأويل والانتهازية وطبقاً لمجريات الحوار. وفى المقال القادم نتعرف معاً على ملامح الحلول والآليات العلمية المتطورة فى سيناريوهات إدارة الحوار المختلفة، وعلوم بناء السلام المجتمعى، والتى تضع الأطراف أياً كانوا أمام مسئولياتهم عن نجاح «عملية الحوار» أمام الرأى العام والضمير الإنسانى.