هناك مسلسلات تليفزيونية كثيرة قيّمة وتحقّق نجاحات هائلة على مستوى العالم، لكن لا يُدركها الجمهور لأنها لم تصل إليه عبر قنواته، أو لأن أعمالا أقل في القيمة والجودة استحوذت على دعاية أكبر.. وهنا سنحاول أن نعيد مشاهدة تلك الأعمال لنستمتع بها، وندلّكم على القنوات والمواقع التي يمكنكم مشاهدتها بها. من منا لا يتذكر شخصية "هركيول بوارو" المخبر البلجيكي، ضئيل الجسد، المغرور وسط ثلة من الحمقى ومحدودي الذكاء، اللهم إلا من المجرمين الذين يتركون له جرائم معقدة بنى عليها شهرته وعبقريته، طبعا نعرف أن الشخصية من ابتكار الكاتبة الإنجليزية، وملكة التشويق أجاثا كريستي، والتي ما زالت تتربع على عرش الكتابة البوليسية على الرغم من رحيلها منذ أكثر من ثلاثة عقود. في الواقع لن نتكلم عن بوارو ولا عن أجاثا كريستي، لكن سنتحدث عن شخصية مشابهة، أشكّ أنها مقتبسة من شخصية المخبر البلجيكي، لكن دون دليل مؤكد، وستعرفون أسباب شكّي بعد قليل. إنه مسلسل "Monk" من إبداع آندي بريكمان، وعُرض في 8 مواسم/ 125 حلقة، وتدور أحداثه حول "آدريان مونك"، الذي كان يعمل شرطيا ثم يصير محققا، ويتمتع بقدرة استنباطية مدهشة، وذاكرة فوتوجرافية مذهلة. إلى هنا ويبدو أن القصة تقليدية نوعا، فما أكثر المسلسلات التي تمتلئ برجال الشرطة العباقرة والمخبرين الأفذاذ، حتى ليخيّل إليك أن المجتمع الأمريكي ينقسم إلى ثلاث شرائح: الأولى: مجرمون عباقرة، يتفنّون في خلق جرائمهم الكاملة. الثانية: مجموعة من البشر العاديين، ومهمّتهم هي عدم التصديق والسخرية، ثم الاندهاش، ثم الانبهار. الثالثة: مخبرون لا يقلّون عبقرية عن المجرمين.. صحيح أنهم يتعبون قليلا حتى يتوصلون للحقيقة، لكنهم يتوصلون إليها في النهاية بأكبر قدر ممكن من الضجيج والدراما! مرة أخرى نطرح السؤال: بمَ يتميز "آدريان مونك"؟ وهذا يعيدنا إلى الفكرة الرئيسية التي طورها بريكمان بذكاء. ف"آدريان مونك" شرطي ماهر، تنقلب حياته رأسا على عقب عندما تُقتل زوجته في ظروف غامضة، ويتحطم نفسيّا وينعزل، وإلى جانب ذلك نجده شخصا مهووسا بالنظام، لديه قائمة كبيرة من الأشياء التي يخافها، فعنده فوبيا الخوف من المرتفعات/ الثعابين/ الطين/ الأماكن المغلقة/ لا يشرب أي مياه معدنية إلا ماركة محددة يثق فيها فقط! شخصية كهذه لا بد أن تتولى أمره ممرضة متخصصة ترعى شئونه، وتعطيه مناديل صحية يجفف فيها يديه عندما يصافح الناس، طبعا شخصية بهذه الصفات النفسية لا بد أن تفجّر مواقف كوميدية لا حصر لها، سنتطرق إلى بعضها بعد قليل.
بدأت إذاعة المسلسل عام 2002 في حلقة تجريبية بعد وفاة زوجته، تظلّ هذه القضية هي الوحيدة التي لم يقم "مونك" بحلّها، وبالتالي فهو يفكر فيها ليل نهار، ويحاول تتبع خيوطها دون جدوى. وأثناء حلّه لبعض القضايا يصطدم ببعض الأشياء المتعلقة بها على فترات. تقريبا لا يرتبط محققنا الفذّ بنساء أخريات بعد مقتل زوجته، وهو هنا أشبه بالراهب، لهذا كان اختيار اسم "مونك" موفقّا إلى حد بعيد. بدأت إذاعة المسلسل في 12 يوليو 2002، في حلقة افتتاحية تجريبية مدتها ساعة ونصف تقريبا، وفيها يتم الاستعانة ب"مونك"، في قضية تعرّض فيها أحد المرشحين لمحاولة القتل، ويحقق فيها هذا الأخير نجاحا ساحقا، ثم تتوالى القضايا، والحقيقة أن القضية نفسها لا تُكتب بشكل غامض مُبالغ فيه، فهناك حلقات يظهر القاتل فيها منذ البداية، وكل ما على "مونك" هو أن يثبت جريمته، وكيف قام بها. هناك بعض الحلقات المتميزة بحق، فهناك حلقة يسافر فيها بالطائرة، وبسبب ملاحظة بسيطة يكتشف أن ثمة جريمة معقدة تحدث. لا بد أن نتصور عندما يسافر في طائرة ما الذي يمكن أن يحدث بالضبط، وفي حلقة أخرى عليه أن يهزم لاعب شطرنج عبقري، ويكتشف كيف قتل زوجته. من ضمن الحلقات المتميزة أيضا تلك الحلقة التي حُبس فيها حيّا في تابوت، وهنا -وكجدار دفاعي- يقوم عقله بخلق عالم خيالي في ذهنه، يجعله يقابل زوجته الميتة، ويقوم بحلّ اللغز لها! وكعادة الأمريكيين فهم مغرمون بالحلقة رقم 100، وهكذا في الحلقة رقم 100 من الموسم السابع، يقوم التليفزيون بعمل برنامج وثائقي عن المحقق الشهير "آدريان مونك" بسبب نجاحه في حلّ القضية رقم 100، ويتم عمل مقابلات مع مجرمين وضعهم مونك خلف القضبان، لكن المفاجأة الكبرى أن هذا البرنامج يخفي وراءه جريمة أخرى، يقوم "مونك" بحلّها أيضا، بسبب ملاحظة بسيطة لم ينتبه لها أحد! في الحلقة الختامية، ومدتها أيضا ساعة ونصف تقريبا، ومكوّنة من جزأين، مثل الحلقة التجريبية، وكانت تحمل عنوان "مستر مونك والنهاية"، يقوم هذا المحقق العتيد بحلّ جريمة مقتل زوجته أخيرا بعد ثماني سنوات من النجاح والتألق، وقد حققت نسبة المشاهدة أوجّها، لدرجة أن هناك أخبارا عن فيلم تليفزيوني يتم التجهيز له حاليا بنفس الكاتب وطاقم التمثيل. أبدع الممثل الموهوب توني شلهوب (من أصل لبناني) في أداء الشخصية باقتدار، ويعترف هو بأنه تعامل مع الشخصية بشكل خاص جدا، بحيث لا يعتمد الأمر على الإضحاك، بل على عمق الشخصية وأبعادها، لهذا لن نجد "مونك" يقول إفيهات مثلا أو يصطنع موقفا لكي يضحكنا، بل هو شخصية جادة مصابة بالوسواس القهري، شخصية لا تقدر على التعامل مع العالم الخارجي إلا برفقة ممرضة، مهووس بالنظام لدرجة أنه يتمنى لو كان كل شيء مربعا، أو له أبعاد متساوية. هل فهمتم الآن سبب شبهه بشخصية هركيول بوارو؟ فاز توني شلهوب عن هذا العمل بثلاث جوائز إيمي وجولدن جلوب كأحسن ممثل، بخلاف الجوائز الأخرى التي فاز بها أو ترشح لها. المسلسل مُتاح بمواسمه الثمانية على موقع أمازون، كشراء DVD أو مشاهدة مباشرة عليه أيضا، ومن الممكن البحث عنه في منافذ البيع القانونية في مصر كفيرجن ميجاستورز. شاهد تيتر المسلسل هنا: إضغط لمشاهدة الفيديو: