في 15 سبتمبر 1890 ولدت الكاتبة الإنجليزية الشهيرة "أجاثا كريستي"، وبرغم مرور 120 عاماً بالضبط على ميلادها، لم يشهد العالم كاتبة مثلها: في ثقل موهبتها، وتأثيرها على أجيال بالكامل، وشبه تخصصها في كتابة القصة البوليسية بكل أصنافها، وفي أماكن كثيرة من العالم شهدتها حقاً بصحبة زوجها عالم الآثار، فصارت حياتها وخبراتها مرجعاً لكتاباتها الغزيرة. ولأنها تمتلك عقلاً جباراً فذاً قادراً على إنتاج العشرات من الروايات، وخلق شخصيات روائية شديدة التميز والإمتاع؛ فقد احتلّت مكانها كواحدة من صانعات الأدب في العالم على مرّ التاريخ. وعلى الرغم من أن البعض ينظر للأدب البوليسي على أنه أدب درجة ثانية؛ لكن مبيعات رواياتها التي تخطت المليار نسخة، والتي تُرجمت لأكثر من مائة لغة، تقطع بأن هذه الكاتبة قد أتت لتبقى؛ بينما منتقدوها والساخرون منها ينزوُون على الرغم منهم في مجاهل النسيان!
شخصياتها لا يهم أين ولدت؛ لكن المهم أن والدتها -قوية الشخصية، وذات التأثير الطاغي- قد أمرتها بأن تكتب قصة قصيرة على سبيل تزجية الوقت؛ وخاصة أنها رقدت في فراشها إثر مرض ألمّ بها.. وعلى الرغم من أن الأمر كان صعباً؛ لكن تحت إلحاح والدتها، شرعت في تلك المحاولة. وقد واجهت الكثير من الصعاب والمشقات، تكتب وتتخيل، وتُنهي حياة أبطالها بشكل بشع -وهي عادة قد ظهرت في بعض رواياتها الكئيبة حقاً- لكن يمكن اعتبار هذه الفترة مرحلة تدريبية أخذت من عمرها سنوات، وهي تحاول وتجرب دون كلل أو ملل، وهو درس تُهديه الكاتبة لكل كاتب ناشئ يُصاب بالملل من أول مرة أو ثاني مرة ويعتبرها نهاية العالم، وبسبب صبرها هذا، وجَلَدها على الكتابة كُللت محاولاتها بالنجاح في النهاية. ناطحت "كريستي" بشخصية "هركيول بوارو" شخصيات أخرى مثل "هولمز" ويمكن القول بأن نقطة البداية الفعلية هي صدور الرواية البوليسية "قضية ستايلز الغامضة"، التي شهدت ظهور المحقق البلجيكي صغير الحجم والعاشق للنظام والنظافة "هركيول بوارو"، الذي صار أحد الشخصيات الأدبية شديدة الثراء والإمتاع؛ بسبب غروره واقتناعه بأنه الأفضل بين كل محققي الجرائم في التاريخ، والذي لا تملك إلا أن تحبه على الرغم منك. بهذه الشخصية ناطحت "أجاثا كريستي" شخصيات أخرى، مثل "شيرلوك هولمز"، الذي يتمّ المقارنة بينه وبين المخبر البلجيكي دوماً. طبعاً هناك شخصيات أخرى، مثل العجوز الذكية "مس.ماربل"، والتي تفترض أن أية حادثة تحدث في العالم لها نظير قد حدث من قبل في قريتها، ولا ننسى طبعاً "باركر بين"، الذي أنشأ مكتباً لإعطاء السعادة للتعساء والمحرومين من خلال خطط عبقرية يقوم هو بتنفيذها من أجل رفع حياتهم لمستوى أفضل، مع عدد هائل من الروايات والقصص الأخرى والمسرحيات والشخصيات الأخرى. سرّ نجاحها أما عن سرّ نجاحها فيمكن القول بأنها قد توصلت لمعادلة أدبية ترتكز على شدّ القارئ من شعره -لو جاز التعبير- من خلال حبكة قوية تأخذ بالأنفاس في أول صفحات الرواية، وهي لا تكتب براحتها، أو تمطّ في الحدث من أجل تسويد أكبر قدر ممكن من الصفحات؛ فكل جملة لها معنى، وكل حدث يصبّ في مجرى الرواية الرئيسي، ومع مرور الوقت ونحن نقرأ، ندرك بأن "أجاثا" تطلب منا أن ننتبه، ونركز، وأن نثق بحواسنا المهملة ونعطيها حقها من الاهتمام؛ لأنها لا تخوننا أبداً لو ركزنا فيها، وهو أمر تفعله "أجاثا" في حياتها الشخصية والاجتماعية والأدبية، من خلال استقاء الكثير من التفاصيل، واستخدامها في قصصها ورواياتها؛ لهذا تجد أن الأحداث التي تكتبها طازجة على الدوام، ويمكن أن تحصل في أي مكان، على الرغم من اختلاف البيئة هنا عن أخرى. تُرجمت روايات "كريستي" لأكثر من مائة لغة وتخطت مبيعاتها مليار نسخة لكن محور الشرّ الذي ينمو في النفوس، ويتغلغل ببطء يعطيها طابعاً نفسياً عميقاً بشكل كافٍ، ويحتمله بنيان الرواية البوليسية؛ كما نرى مثلاً في الرواية المشوّقة ذات الطابع الفرعوني "في النهاية يأتي الموت". الحبكة هي سرّ نجاحها، واللغة البسيطة من غير تسطيح، والرشيقة من غير تعالٍ، تُعدّ سراً آخر من أسرار نجاحها، وربما كانت قارئة قاسية وناقدة لما تكتبه، حتى تضع نفسها مكان القارئ.. وقد أُتيح لي مشاهدة بعض الحلقات من مسلسل "هركيول بوارو"، وبرغم الجهد المبذول فيه؛ لكنني شعرت بالملل؛ بينما الرواية لا تتركها حتى تنهيها، وبرغم الفارق بين الصورة المرئية، والكلمة المكتوبة؛ لكن "خلطة" الكاتبة الإنجليزية أشبه بالسحر الذي يستدعي من القارئ استخدام ملكاته، وتدريب ذكائه. عاشت "أجاثا كريستي" 86 عاماً، وعندما رحلت عن عالمنا، كانت شخصياتها تُواصل حياتها الخيالية في صفحات الكتب، وفي عقولنا نحن القرّاء، وفي عقول من سيأتوا من بعدنا، وهذه هي عظمة الأدب الحقيقي.