"ليس هناك إنسان غني أو قوي بالقدر الذي يستطيع أن ينقل أمة من مكان إلى مكان، ولكن الفكرة وحدها هي التي تستطيع ذلك".. تيودور هرتزل إن أول انطباع يصلك وأنت تقرأ كتاب الدولة اليهودية لتيودور هرتزل هي أن كاتبه يعرف تماماً ما يتحدث عنه، ومع كل كلمة تقرأها تزداد يقيناً بأن هرتزل يمتلك حلاً فعالاً لكل مشكلة تواجه قيام الدولة اليهودية، حتى تقرر في النهاية أنك لو كنت يهودياً لأصبحت صهيونياً بجدارة فور قراءتك لهذا الكتاب!، خاصة وأن هرتزل قد صاغه بلغة بسيطة وذكاء شديد، فهو يقطع الطريق على معارضيه من أول صفحة في الكتاب محذراً منتقديه من اعتبار مشروع الدولة اليهودية مشروعاً خيالياً، وهو يستخدم أسلوباً تقريرياً يقنعك بأنه يتحدث عن حقائق موجودة بالفعل، فيقول مثلاً: "إن الدولة اليهودية ضرورية ولذلك سوف تقوم، إن الخطة قد تبدو بطبيعة الحال غير معقولة إذا حاول القيام بها شخص بمفرده، ولكن إذا توفر لها عدد من اليهود المتعاونين فستبدو معقولة جداً، ولن ينطوي إنجازها على صعوبات تستحق الذكر، إن نجاح الفكرة يعتمد فقط على عدد مؤيديها". وهرتزل لا يعد اليهود بمعجزة من السماء أو بحل سحري؛ لأنهم شعب الله المحبوب مثلاً، ولكنه يحمّل كل يهودي مسئولية العمل لقيام الدولة اليهودية، وفي عبارة مليئة بالدلالات يختتم هرتزل مقدمة كتابه قائلاً: "إن الأمر يتوقف على اليهود أنفسهم أن يبقى هذا الكتيب السياسي خيالاً سياسياً، فإن كان هذا الجيل أغبى من أن يفهم كلامي على حقيقته، فإن جيلاً قادماً أفضل وأكثر استنارة سيفهمه تماماً. إن اليهود الذين يريدون الدولة اليهودية ستكون لهم.. وسوف يستحقونها". والحقيقة أنك ستحتاج لأن تقرأ الكتاب بتمهل عدة مرات قبل أن تستطيع التحرر من سطوته ومن الحماس الذي يفيض من كل حرف كتبه هرتزل، وتصبح بالتالي قادراً على مناقشة أفكاره وتفنيدها، وملاحظة الخطط التفصيلية الساذجة -كما يقول حاييم وايزمان- التي اقترحها هرتزل لكل ما يتعلق بحياة اليهود في الدولة الجديدة.. اليهود.. شعب واحد؟! يقسم تيودور هرتزل كتابه إلى خمسة فصول، فهو يبدأ الكتاب بفصل تمهيدي يضع فيه القواعد التي سيبني عليها الكتاب بأكمله، فهو يتحدث بإيجاز عن العداء للسامية الذي هو مزيج معقّد من "التعصب وعدم التسامح الديني"، ثم يخلط الأوراق ويلعب على وتر الدين والاضطهاد قائلاً: "إن المسألة اليهودية لم تعد مجرد مشكلة اجتماعية بقدر ما هي قضية دينية، إنها قضية قومية يمكن حلها فقط عندما تعالج كقضية سياسية عالمية تناقشها شعوب العالم المتحضر في مجلس دولي، أننا شعب.. وشعب واحد، لقد حاولنا مخلصين في كل مكان أن نندمج في الحياة الاجتماعية للمجتمعات المحيطة بنا وأن نحافظ على عقيدة آبائنا، ولكن لم يُسمح لنا بذلك، أننا وطنيون مخلصون نكدح في سبيل رفعة شأن البلاد التي نعيش فيها في كل المجالات ولكن بلا فائدة". والحقيقة أن هذه الفقرة ربما تكون العمود الفقري للكتاب وربما للصهيونية كلها، ففكرة الشعب الواحد الذي ينتمي ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام هي أسطورة تحدثنا عنها بالتفصيل من قبل، تماماً كما أن ما تعرض له كثير من يهود العالم من اضطهاد غالباً ما كان نتيجة لما اقترفته أيديهم، كما يقول عباس محمود العقاد في كتابه "الصهيونية العالمية": "ليس من حق الصهيوني أن يشكو الاضطهاد إذا تعرض له؛ لسوء نيته وسوء خلقه وسوء فعله، فإنما الذنب فيه ذنبه دون غيره، وليس من شأن سوء النية وسوء الخلق وسوء الفعل أن يجرّ إلى المودة والشكر والثناء". فلسطين أم الأرجنتين؟! يخصص هرتزل الفصل الثاني من كتابه للحديث بإطناب عن "المسألة اليهودية"، ولا يضيف في الواقع أسباباً جوهرية تفسر العداء للسامية تزيد عمّا ذكره في التمهيد، وفي رأيي أن أهم جزء في هذا الفصل هو الذي يتحدث فيه عن "موقع" الدولة اليهودية، فالغريب أن هرتزل في كتابه لم يحدد موقعاً معيناً لدولته، ودائماً ما كان هرتزل يشير إلى أن اليهود هم من سيقررون أين ستكون دولتهم الجديدة، ومع ذلك فقد بدا أن تيودور هرتزل على استعداد لأن يقبل أي مكان في العالم يُمنح لليهود، واسم فلسطين لم يرد ذكره طول الكتاب إلا في هذا الجزء: "هل نختار فلسطين أم الأرجنتين؟ إننا سنأخذ ما يُعطى لنا، وما يختاره الرأي العام اليهودي، وسوف تقرر الجمعية كلا الأمرين. إن الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي تمتد على مساحات شاسعة، وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل. وجمهورية الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها. أما فلسطين فإنها وطننا التاريخي الذي لا تمحى ذكراه، إن اسم فلسطين في حد ذاته سيجذب شعبنا بقوة فائقة، فإذا منحنا السلطان العثماني فلسطين فسنأخذ على عاتقنا تنظيم مالية تركيا وتسديد ديونها، ومن هناك سوف نشكل جزءاً من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية". لقد كان تيودور هرتزل يرى أن خطته لإقامة دولة يهودية بسيطة جداً في جوهرها، وتقوم على مؤسستين رئيسيتين: جمعية اليهود والشركة اليهودية. وهو ما سنستعرضه في الحلقة القادمة بإذن الله..
أقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن إسرائيل (10).. هرتزل وكتاب الدولة اليهودية (2) ماذا تعرف عن إسرائيل (9).. هرتزل وكتاب الدولة اليهودية ماذا تعرف عن إسرائيل (8)..الجيتو والحياة في أوروبا ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (7).. إمبراطورية الخزر ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (6).. كذبة نقاء الجنس اليهودي!! ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (5).. فلسطين عربية؟! ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (4).. عودة اليهود ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (3).. مملكة اليهود وهدم هيكل سليمان؟!! ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (2).. خروج اليهود من مصر إلى التيه ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (1).. الشعب المختار