حكى الزميل العزيز محمود الغنام (هنا) عن حيرة الشاب الإخواني وهو يدافع عن قرار الجماعة رغم عدم اقتناعه به أو فهمه ماذا يجري. واستفاض عن كون الشاب يثق بأن الجماعة لا تخطئ -بمعنى أنها تدرس قراراتها جيدا، لتتلافى هامش الخطأ- ولذلك فهو يثق بقرارها ثقة مطلقة، وبقادته الذين قرروا هذا الخيار الذي لا يقتنع هو شخصيا به، بل يوجد ما يحيك في صدره تجاهه، وأيضا لا يفهم سببه؛ لأن أحدا لم يقم بشرح الموقف له قبل إعلانه، ولكنه مضطر أن يدافع عن هذا القرار بكل قوته. وأثنى الزميل العزيز على الشاب الذي وصل إلى الاطمئنان واليقين بقادته لدرجة التزامه بقرارهم وإثبات الولاء لهم.. رغم ضعف موقفه. أنا الأخرى أشفقت على الفتى حقا، وأشفق أيضا على مصر التي تحوي على الأقل ربع مليون فتى داخل الجماعة مثل هذا الفتى اليافع الشاب. ليس كراهية في الجماعة أو الشاب أو غيرهما ولكن حبا في إعمال العقل. فإن كان الله أمرنا بأن نعقل الأمور ونفكّر بأنفسنا، فهل نخالف كلام الله لننفذ كلام قادتنا بالجماعة؟ إذا كان الله لا يحاسبنا كجماعات ولكن يحاسبنا فرادى.. فكيف نتخذ قراراتنا جماعة؟ وكيف والعقل هو مناط التكليف يتم تهميشه إلى درجة قبول ما يقال للمرء حتى لو كان لا يوافق عقله وقلبه، فقط ليصير تابعا لفكر آخر يخطئ ويصيب مهما أقنعه قادته بأنهم لا يخطئون. الله أعطى كلا منا عقلا مفردا ليفكر ويحلل ويختار ثم يحاسبه الله على اختياره، فلو أحسن فله الثواب ولو أفسد فله العقاب. ولذلك فلقد أشفقت على شاب باع عقله لغيره باسم الثقة والاطمئنان.. فإذا كان الله -جل وعلا- بذاته أعطانا حق التفكّر في الدين الذي نُزل من السماء.. ودعانا للتفكر والتعقل في عشرات الآيات بصيغة {أَفَلَا يَعْقِلُونَ}، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ}.. وهل هناك من هو أعظم من الخالق الذي لا يخطئ حقا، والذي لو وجب علينا كبشر أن نثق بأحد ونلغي عقولنا معه فهو الله سبحانه وتعالى، ورغم ذلك فالله سمح لنا أن نفكّر ونتدبّر ونتعرّف على أسباب النزول ونعرف حكمة الأوامر الإلهية، ونُعمل عقولنا وقلوبنا لننفذ أوامر الله ذاته بعقول وقلوب تفكّرت وتدبّرت واتّخذت القرار بذاتها، لا بعقول غير مقتنعة وقلوب وجلة تعتمد فقط على الثقة ببشر مثلهم يخطئون مرة أخرى ويصيبون. بل ذكر في الأثر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أن يكون المرء إمعة، فيتبع آراء غيره لاغيا عقله؛ بدعوى الثقة أو ضعف فكره وقوة فكر غيره. فقال: "لَا تَكُونُوا إِمَّعَة، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا". ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه- (وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم): "لا يتبعنّ أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشرّ". ولا أسوة في بشر والواقع أننا يمكننا أن نقسم الإخوان أنفسهم إلى ثلاثة أقسام: 1- أفراد من الجماعة يقتنعون بالشاطر ويدْعون لترشحه، ويرون أن قرار الجماعة بترشيح مرشح للرئاسة والعدول عن رأيها السابق هو الصواب. هؤلاء أختلف معهم شكلا وموضوعا، ولكن على الأقل هم أشخاص اختاروا أمرا ما بإرادتهم، يرون أنهم قد أحسنوا به، ونرى أنهم قد أخطأوا، ولكنهم قد أعملوا عقولهم وفكروا واتخذوا قرارا بإرادتهم الحرة. 2- أفراد من الجماعة لا يقتنعون بأن تتراجع الجماعة عن قرارها، ولا يرون أن يرشّح الإخوان مرشحا منهم، وهؤلاء خالفوا قرار الجماعة وقرروا أن يرشحوا من يرونه الأفضل، وأن يُعملوا عقولهم بصرف النظر عن أوامر قادتهم. 3- أما النوع الأخير فهو هدف هذه المقالة، وهم من يرفضون أن ترشّح الجماعة شخصا منها، ويرون في القرار عودة عن وعدها السابق إلا أنهم سيلتزمون بقرار الجماعة بدعوى السمع والطاعة، وسيدافعون عن قرارات لا تُقنعهم هم شخصيا. والفارق واضح بين كل نوع من الأنواع الثلاثة والتي -مع الأسف- يزيد بها النوع الثالث عن الباقين، فنرى صفحات على فيسبوك وتويتات على تويتر بل وضْع هاش تاج باسم ملتزمون# للتدليل على الالتزام بالقرار. وفي النهاية أهمس في أذن كل من يحيك في صدره القرار، ولكنه يلتزم بالسمع والطاعة: إن ما تعبث به هو مستقبل بلد كامل بمواطنيه.. حياتهم وأفكارهم وأموالهم وأبناؤهم وعرضهم وأمانهم.. بل ربما لمكانة مصر.. يكون ما تعبث به هو مستقبل أمة كاملة.. فكيف تقرّر أن تترك القرار لغيرك وتضع صوتك الذي هو بالفعل أمانة ائتمنك الله عليها لشخص لا تقتنع به، أو لصالح موقف تراه غير سليم.. فقط لتؤدي السمع والطاعة لقادتك؟ تذكّر أنك ملاقي الله دون قادتك.. وأنك خلف ستار مع الصندوق وثالثكما الله -عز وجل- ستضع صوتك الذي قد يفرّق بين الصواب والخطأ والحق والباطل. فأعطِ صوتك حقا لمن تراه يستحق -حتى لو كان وقتها مرشح الجماعة- ولكن أبدا لا تكن إمعة تمشي مع السائد. لا تكن فردا من قطيع بشري يُملَى عليك ما لا يرضاه ضميرك، ولا تفخر باتباع قادتك وثقتك بهم؛ فهذا لا يدعو للفخر بقدر ما يدعو للرثاء؛ فالثقة لا تأتي إلا بعد التفكر والتيقن. وأقولها لك -عزيزي الإخواني- عليك بالسمع والطاعة بالفعل... ولكن لصوت ضميرك فقط.