تجربة بامتداد نهر النيل؛ من النوبة التي أنجبته، إلى القاهرة التي عذّبته وآلمته وحرمته الموت الذي تمنّاه طوال حياته، إدريس علي طريد الحياة الذي لم يحتوِهِ سوى الهروب؛ من الدراسة بالأزهر الشريف، من النوبة، من هزيمة المعنى في حرب اليمن، ومن معنى الهزيمة في 67، من فقره، وعجزه، وقلة حيلته، من الأعين المتربّصة بهذا الأسمر المنعزل الصدامي الذي لا يخشى قلمه أحدا.. إدريس علي روائي بحجم هموم الوطن وأزماته، وآلام المهمشين وآمالهم في العالم أجمع. البداية وُلد إدريس علي في العام 1940 في قرية صغيرة في مدينة أسوانجنوب مصر، والتحق بالمدرسة، إلا أنه لم يستطع معها صبرا، فكان قراره بالهجرة إلى القاهرة في سنّ صغيرة. استقبلته المحروسة بقسوة الخائفين من الوحدة، أكداس من البشر، من الباعة، من عربات الفواكه المتراصّة، من النداءات المتكررة للا أحد، يتذكّر ضاحكاً: "لم أعرف في النوبة سوى البلح والدوم. وسمعت عن التين والزيتون من القرآن، وفي الكتب المدرسية عرفت بعض أسماء الفاكهة؛ القرد يقشر الموز، وسعاد تأكل البرتقال"... إلخ. كان على الغريب أن يعمل كي يجد ما يردّ به على نداءات الباعة، عمل بقالا، وصبي مكوجي، وعامل غسيل زجاج، وتعرّف بصديق في مثل سنه كان يحب القراءة، فسأله: هل قرأت شيئا من قبل؟ أجاب النوبي: القرآن الكريم، وكتب المدرسة، قال الولد: أقصد قصة، ردّ: وما القصة؟!! فأهداه صديقه مغامرات أرسين لوبين التي جذبته وجعلت منه مدمنا للقراءة.. وفي منزل أسرة قبطية في حيّ الزيتون عمل إدريس خادما لفترة، وهناك لاحظت ربة البيت المثقّفة ولع الصبي بالقراءة، فأهدته كتاب "طفولتي" لمكسيم جوركي، فقرأه، وانبهر به، وانطلق يبحث عن المزيد من الأدب الروسي. فقرأ الأعمال الكاملة لتولستوي، مكسيم جوركي، دوستويفسكي... إلخ، وكانت بدايته الحقيقية نحو عالم الكلمة. الحرب دخل إدريس الجيش، وعايش تجربة حرب اليمن كأي جندي مصري حائر لا يعرف ما الذي أتى به إلى هذا المكان والعدو في الضفة الأخرى؟ ومن هي الجهة التي يحاربها؟ وما هي مهمته؟!! وعاد إدريس ليشارك في حرب 1967 ليرى أحلامه وآماله العريضة في هذه السنّ تتحطم وتصبح أثرا بعد عين، عاد وحده وكأنه هُزِم وحده!! الهجرة جاءت السبعينيات، وكان على النوبيّ، الذي تزوّج وأصبح رب أسرة، أن يبحث عن رزق أسرته في مجتمع الانفتاح الجديد الطارد لأمثاله، فسافر إلى ليبيا في الفترة من 1976 إلى 1980 وقضى 4 سنوات هي الأصعب والأكثر توترا في تاريخ العلاقات المصرية الليبية، وكأنه ظِلّ المتاعب والمعاناة. الكتابة عاد إدريس إلى مصر محمّلا بمرارته، وحلمه الوحيد في أن يصير روائيا، وصدرت أعماله في تلك الفترة معبّرة عن شعور عميق بالمهانة التي يلقاها البسطاء في عالم بلا قلب، فكانت أعمال مثل "وقائع غرق السفينة" و"واحد ضد الجميع"، حيث كانت الفكرة المسيطرة على ذهن إدريس علي دائما هي فرد يواجَه بسلطات قاهرة تدفعه إلى الجنون أو الهذيان، وكانت الخيارات دائما واضحة ومباشرة بين الخير والشر بين الفساد والفرد المسالم. محنة "دنقلة" بعد ذلك أصدر إدريس روايته الأزمة "دنقلة" فأثارت غضب الجميع، وجرّت عليه المشكلات من كل حدب وصوب، فلم يرضَ عنها النوبيون، ولم ترض عنها المؤسسة الثقافية، واتُّهم إدريس بأنه كاتب انفصالي ضدّ الانتماء العربي، وهو النوبي البسيط الذي يكتب بعفوية، دون تخطيط مسبق.. كان إدريس يكتب جزءا من تجربته التي يبدو أنها لم تثر في نفوس قرائه إلا مزيدا من الرفض والصدّ والهجران.. أصدر النوبي بعد ذلك روايته "اللعب فوق جبال النوبة"، وكان يحاول أن يكون أكثر هدوءا وهو يرفض في الرواية التطرف النوبي، حتى لا تتكرر مأساة "دنقلة" التي لم تكن بأقلّ من "اللعب فوق جبال النوبة" تعبيرا عن آلام كاتبها وهواجسه وقلقه الذي لا ينتهي.. انفجار جمجمة توالت أعمال إدريس فأصدر بعد ذلك رواية "انفجار جمجمة" التي تعدّ في نظر بعض النقاد أفضل رواياته على الإطلاق؛ لأنها أكثرها تعبيرا عن أعماقه وهواجسه الداخلية، وتشير "انفجار جمجمة" إلى مخاطر الدولة البوليسية، وطوق الإنسان الفرد إلى مجمتع عادل يستطيع أن يعيش فيه بحرية. الرواية الممنوعة وعن الفترة التي قضاها في ليبيا كتب إدريس روايته الأخيرة "الزعيم يحلق شعره" والتي تكاد تتطابق وسيرته الذاتية، وهي شهادة مهمة، وعمل إبداعي ينبغي أن يُحتفى به لا أن يُصادَر حفاظا على العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا الشقيقة، التي يغضب ساستها أن يكتب مبدع مصري تجربته الاجتماعية بصدق وتجرّد. الانتحار فشل الروائي المصري إدريس علي في الانتحار مراراً؛ مع كل أزمة تواجهه كان يُلقي بنفسه في النيل. حتى أصبح صديقاً للصيادين الذين أنقذوا حياته مراراً. يقول: "حاولت الانتحار خمس مرات جدياً، والباقية كانت محاولات عبيطة".
ويكمل: "أن تكون مثقفاً وسط بسطاء يتعاملون معك كمدّعٍ أو كشيوعي مجنون، نوع من العذاب، وهذا ما دفعني إلى الانتحار". ذات مرة كان إدريس يسهر كعادته في وسط القاهرة، وفي نهاية السهرة استقلّ سيارة الروائي حمدي أبو جليل؛ كي يأخذه إلى البيت، السيارة "المهكعة" انقلبت في منتصف الطريق، وبينما كان أبو جليل يبحث خائفا عن سبيل الخلاص، كان إدريس يصيح فرحاً: هنموت... هنموت!!! ها هو الموت يُحيي أمل روائي عاش مطرودا من نفسه، ومرحبا به دائما في عزلته وغربة آماله وأحلامه.. مات إدريس يوم الثلاثاء الماضي عن عمر يناهز السبعين عاما، إثر إصابته بأزمة قلبية حادة.