لعبت الأموال النفطية دوراً شديد الخطورة في الحياة الثقافية العربية منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، وتأتي خطورة هذه الأموال من خصوصيتها من ناحية ومن كيفية استخدامها من ناحية أخرى. فهذه الأموال ليست نتاجاً لجهد بشري كالزراعة أو الصناعة أو حتى التجارة؛ بل هي هبة تقسّم عوائدها بين أصحاب الأرض (أي الحكومات) والشركات التي نقّبت واكتشفت وتدير عملية الضخ والتوزيع، وهي كلها شركات أجنبية وبصفة خاصة أمريكية. وتَرتّب على هذه الخصوصية ضرورة إقامة أعداد كبيرة من الأوروبيين حول آبار النفط بنمط حياتهم الوجودي والقيمي، وهو النمط الذي فرض نفسه على الحياة في تلك المناطق من الجزيرة العربية، فهُدمت المساكن التقليدية وبُنيت مدن جديدة (مدن الملح كما سماها الكاتب الكبير الراحل عبد الرحمن منيف في روايته الرائعة) على الطريقة الأوروبية: علب الأسمنت. وحلّت قيم أوروبية ولغات أوروبية... إلخ. ولا شك في أن هذا الوجود أحدث خللا في أنساق الحياة والقيم لدى العرب من أهل تلك المناطق تبدو آثاره واضحة في السلوك والإبداع... إلخ. لكن الأثر الأكثر خطراً هو كيفية استخدام أموال النفط من قِبل حُكّام الخليج، وخاصة في ميدان الثقافة؛ فالبذخ السفيه في الإنفاق على المظاهر والشكليات والحياة المترفة طال ميدان الثقافة، فأُنشِئت بعض وسائل الإعلام التي تدفع للمثقفين أموالا باهظة بشرط أن يشاركوا في تفاهتها، وأنشِئت مدارس وجامعات استقبلت الآلاف من المدرّسين والأساتذة من مختلف البلدان العربية وخاصة مصر مقابل مبالغ لم يحلموا بها، ولا يؤدّون مقابلها أكثر من المجهود الذي كانوا يبذلونه في بلدانهم الأصلية، وخُصِّصت أموال لجوائز سواء من قِبل الحكام أو من الأثرياء المشبوهين (كنوع من غسيل الأموال) تُعطَى لمبدعين عبر لجان تحكيم ليست فوق مستوى الشبهات، يصبحون -في غالب الأحيان- موالين لأصحاب هذه الأموال المسماة بالجوائز. وهكذا فإن ما يسمى بالحقبة النفطية وما واكبها من هيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية على المنطقة خلقت ولاءً إضافياً للمثقفين المصريين. فأصبح المثقف في المرحلة الراهنة موالياً للسلطة المصرية وسلطة دولة أخرى نال منها جائزة أو يكتب في صحفها أو يظهر في تليفزيونها، وسلطة رجل أعمال يملك قناة تليفزيونية أو صحيفة يكتب فيها. وأصبح المثقف مستعداً لتبديل ولاء بولاء كلما زادت المصالح (بالمنظور الفردي الضيق)، وأصبح مستعداً لتبرير أي سلوك أو القيام بأي دور لصالح الولي. ونحن نرى يومياً تبدّلاً في خطابات المثقف الواحد حسب تبدّل ولاءاته وتراكبها وتعقّدها. وعلى هذا النحو يعيش قسم كبير ممن يسمون بالمثقفين حالة من المرض النفسي لأشخاص يبحثون عن المال والشهرة بجنون يمنعهم من التحكم في أنفسهم أو من التورط في أي فعل أو سلوك، ناهيك عن إبعادهم تماماً عن مفهوم المثقف. المثقف الذي ينبغي أن يكون طليعة لشعبه.. أن يعرف طموحاته وأحلامه، وأن يجيد صياغة هذه الأحلام في إبداعات فكرية وفنية مقنعة لهذا الشعب نفسه، بحيث يرى فيها ذاته ويتبناها، ويلتفّ حولها.. بحيث يمكن تحقيقها عملياً.. هذا المثقف نجحت السلطات المختلفة منذ محمد علي وحتى الآن في تهميشه وإبعاده عن وسائل الإعلام، والاتصال بالناس أو التواصل معهم. أما من أصرّ منهم على الاستمرار، فإن وسائل القمع البدني للمظاهرات أو القمع المخابراتي، وغيرها من وسائل السلطة المدعومة بالأجهزة والآلات الأمريكية المقيمة في جاردن سيتي كفيلة بهم. فكيف يمكن للمثقفين إذن أن يقوموا بدور في التغيير؟ اقرأ أيضاً: المثقفون والتغيير (1)