زيارة جديدة لمقالات قديمة أحمد بهاء الدين والانحطاط الثقافى! يزداد حضورا وتألقا وبهاء رغم غيابه منذ أغسطس عام 6991، والكلام عن الأستاذ المفكر النابه «أحمد بهاء الدين» - أول رئيس تحرير لمجلة صباح الخير، ولقد شرفتنى المقادير والحظوظ بأن أجلس على نفس ذات المقعد رئيسا للتحرير - لكن يبقى «بهاء» هو «بهاء» الكلمة المحترمة والفكر الرصين والرؤية الثاقبة بعيدة المدى. وإذا كان بعض أصحاب الأقلام يريحك عدم الالتفات إلى ما يكتبونه أو يقولونه، فإن قراءة «بهاء» أو الاستماع له متعة عقلية وراحة فكرية! لقد كان «بهاء» أول من نحت وصك عبارة أو مصطلح «انفتاح السداح مداح» وكذلك عبارة «الجهل النشيط» وهو يرصد ويتأمل ويحلل بعض ملامح أو ظواهر ما يراه فى المجتمع! ولو عاش «بهاء» حتى اليوم - شتاء عام 2102 - وقرأ صحافة هذه الأيام، وشاهد فضائيات هذه الأيام، لربما كان أطلق عليها نفس الوصف السابق. فأغلب ما نقرأه أو نكتبه للقارئ أو ما تبثه الفضائيات للمشاهد ما هو إلا خلطة عبقرية من السداح مداح والجهل النشيط!! كل من هب ودب أصبح كاتبا ومحللا وناشطا وشاعرا وأديبًا ومذيعا، الآف الصفحات وآلاف ساعات البث، وأغلبها هو ذلك الجهل النشيط الذى يتباهى به صاحبه أو صاحبته - لا فرق!! هذا الجهل النشيط أو الجاهل النشيط لا يهمه الدقة وصحة المعلومة بل كل ما يهمه كم ستدفع لى فى هذا الذى أقول سواء كان مكتوبا أو مسموعا!! ولا يهمه أو يشغل باله أن «مصطفى كامل» زعيم الحزب الوطنى الأصلى ليس هو مصطفى كامل «المطرب الشاب» وأن «أحمد زكى» المثقف الموسوعى والكاتب شىء والفنان العبقرى «أحمد زكى» شىء آخر، وأن «على ماهر» أشهر رؤساء وزارات مصر شىء وعلى ماهر لاعب الأهلى المعتزل شىء آخر... إلخ!! لقد زاد الجهل عن حده، وزادت البواخة والسخافة والتفاهة إلى حد لا يحتمل، لكن يا بخت من رضى بجهله، وسخافته وتفاهته! لا أعرف ما هو الاسم الصحيح لذلك كله، وإذا كان لديك «اسم ما» فهو صحيح من زاوية رؤيتك واختيارك، وأدعوك - إذا أذنت لى - أن نحتكم إلى عمنا الأستاذ «بهاء» وتفسيره أو رؤيته، فقد كتب مقالا مهما أثناء رئاسته لتحرير مجلة «العربى» الكويتية الرائعة والمحترمة عنوانه «فى الانحطاط الثقافى.. داؤه ودواؤه»! «سبتمبر 1891 أى منذ 13 عاما». كتب الأستاذ بهاء يقول «الناس جميعا إذا جلسوا بعضهم إلى بعض أبدوا جميعا دون استثناء سخطهم أو مللهم من كل ما يعرض عليهم فى الصحافة فى السينما فى الإذاعة والتليفزيون أو فى الكتب وهم يتساءلون: أين الكتاب؟ أين الشعراء؟ ماذا يقول فلان وماذا يكتب علان؟ وأين نجوم السينما والمسرح الكبار؟» ثم يتساءل «بهاء»: هل هذا صحيح؟ أم أنه من طبيعة الإنسان فى كل زمان ومكان، أن يقلل من قيمة الجديد والمعاصر والمتاح له بسهولة، بينما تزداد فى نظره قيمة القديم المعتق لأنه صار نادرا؟! على أى حال فالمؤكد أن الشعور بالانحطاط العام فى هذه المجالات وأن هذا «الشعور إذا كان خطأ أو صوابا فهو شعور موجود، وهذا فى حد ذاته حقيقة كافية لأن نقف عندها ونتأملها»! ثم يمضى الأستاذ «بهاء» متحدثا وشارحا انتشار وسائل الإعلام أو ما يحب هو أن يسميه «وسائل التثقيف العام» أو هكذا يجب أن تكون من زمن المخطوطات والكتب والصحف والمجلات ثم الإذاعة والسينما والتليفزيون، وهذه وسائل تذهب إلى البيت وتدخله وتعاشر سكانه مهما كان نائيا، ولا تنتظر حتى يذهب سكانه إليها «لكن الأخطر» والأهم على حد قول «بهاء»: «إنها كما تهم من نال من التعليم، فإنها تخاطب لأول مرة من لا يقرأ ولا يكتب، فهى تخاطب المتعلمين والأميين، وهى أكثر تأثيرا عليهم لأنها بحكم الأمية، وانعدام التكوين الثقافى أقل مقاومة وأقل مناعة لما تقدمه إذا كان نافعا أوضارا». ثم يتطرق الأستاذ «بهاء» إلى نقطة مهمة حين يؤكد: «أصبحت منابر التثقيف العام من أقدم وسائلها وهى الكتاب إلى أحدثها وهى التليفزيون محكومة باعتبارين معا: الاعتبار الأول أن جمهورها الأكبر والأوسع صار من الجمهور الأمى، أو شبه المتعلم أو المتعلم غير الناضج، وهذه الوسائل لكى تعيش عليها تفضل أن يكون زبائنها بالملايين من هؤلاء على أن يكون جمهورها آلافا قليلة من المثقفين، وبالتالى انتشر الإنتاج السهل الهابط المستوى، وأحيانا المنحط القائم على الجنس والجريمة والإثارة دون أى قيمة فنية أو اجتماعية، فإذا أردت أن تصدر جريدة ذات مستوى فعليك أن تقنع بعشرات الآلاف من القراء! أما إذا أردت أن تصدر جريدة توزع الملايين فعليك أن تزيح من ذهنك قضايا المستوى الثقافى والفنى والرسالة الثقافية العامة»!! ∎∎ ثم يشير الأستاذ «بهاء» إلى الاعتبار الثانى وهو الأخطر والأهم، صحيح أنه كتبه فى سبتمبر 1891 إلا أنه يفسر ما يحدث فى يناير 2102 حيث يقول: «إن وسائل التثقيف العام هذه بحكم تكاثرها وتعددها صارت كالمعدة الشرهة التى مهما أعطيتها من وقود فهى تقول: هل من مزيد؟! الصحيفة صارت عدة صحف، المجلة صارت عشرات المجلات، الموجة الإذاعية أو القناة التليفزيونية صارت موجات وقنوات وزادت ساعات إرسالها حتى كادت تغطى الأربع والعشرين ساعة فى اليوم، وكل هذا يحتاج إلى إنتاج، إلى طعام للمعدة الشرهة، وهكذا صارت تتلقف أى شىء يقدم إليها لكى تنشره أو تذيعه أو تملأ به ساعات الإرسال التليفزيونى. لم تعد هناك أى صعوبة فى النشر، كل منا قرأ الكثير من حياة الكتاب والمفكرين والموسيقيين والصحفيين، وكيف أن كل واحد منهم قاسى وتعب، وربما عرف الجوع سنوات قبل أن يعترف به ناشر، وأن يرى اسمه على شىء منشور ذلك أن الباب كان ضيقا بالفعل وكان الدخول من هذا الباب الضيق يحتاج إلى جهد حصين، وإلى تفوق واضح، أو إضافة مهمة قبل أن يلتقط صاحب الإبداع أنفاسه، ويمر من عنق الزجاجة ويبتدى عمله للجماهير القليلة نسبيا. وربما مات العبقرى ولم يعرف إلا بعد موته بسنوات، «فان جوخ» الرسام العظيم مات جوعا، ولكن «بيكاسو» الذى جاء فى عصر الإعلام الواسع تكدست بين يديه مئات الملايين التى لا يعرف ما يصنع بها!! كان هذا الكفاح ماضيا وقد فات. الآن يستطيع الشاب أن ينشر أول مقال يكتبه فى حياته وأن يرى على شاشة التليفزيون أول رواية تخطر على باله، فالطلب فى هذه السوق أكثر من العرض بكثير فالمشترى فى حاجة إلى شراء الثمار الناضجة مع الثمار الجافة التى تعطنت إنه يريدها كلها، وبالتالى فإن مهمة المنتج البائع صارت فى غير حاجة إلى المعاناة القديمة». نعم يا أستاذ «بهاء» انتهى زمن المعاناة والتعب وسهر الليالى فى سبيل التجويد «تجويد الصنعة أو المهنة التى تحترفها» هذا زمن «الجاهز» لا «زمن التفصيل» هذا زمن الصحفى الذى يعمل بالصحافة لأنه لم يجد «صنعة» أخرى، فأى «صنعة» أو «مهنة» لها ضوابط وقواعد وأصول، أما الصحفى طبعة 2102 فكل ما يحتاجه ورق فاضى أو شاشة «لاب توب» ويملأها بأى كلام تافه وفارغ وسطحى وسيجد من يتحمس له وينشره ويذيعه على الشاشات، وسيسبق اسمه أو اسمها بصفات من عينة: الكاتب الكبير والكاتبة الكبيرة والشاعر المبدع، والشاعرة الحداثية! إن بعض من يتقافزون من فضائية لأخرى بوصفهم «صحفيون» ربما لم يكتب طوال عشرين عاما سوى عشرين مقالا، لم يقرأها أحد، لكنه يملأ الصفحات والفضائيات صخبا وصراخا وضجيجا ببطولات لم تحدث، وأمجاد تقترب من الأوهام وأضغاث الأحلام. رحل «بهاء» عن عالمنا فى الوقت المناسب وقبل أن تصدمه روائع غنائية من عينة «بوس الواوا.. شوف الواوا» «أو» «أصل أنت ما بتعرفش» رحل «بهاء» قبل أن يشاهد برامج فضائية تناقش طول العضو الذكرى وتأثيره على نشوة المرأة، رحل «بهاء» دون أن يخطر بباله أن سماوات العالم العربى تمتلئ بفضائيات تفسير الأحلام والمنام والطبيخ حتى هز الوسط والبطن!! رحل بهاء قبل أن يشاهد على الهواء مباشرة كيف يضرب ضيوف البرامج بعضهم البعض أمام ملايين المشاهدين، وتتطاير شتائم لا نظير لها وسط سعادة المذيعة أو المذيع. ∎∎ وكأن الأستاذ «بهاء» كان يقرأ كف العالم العربى وعقله ومزاجه حين كتب: «طغيان وسائل الإعلام ذات الانتشار الساحق من صحافة وإذاعة وتليفزيون وهى وسائل تحتاج إلى استهلاك واسع من جهة، وإلى تلبية رغبات نسبة كبيرة من غير المتعلمين من جهة أخرى، صار ضجيجها الترفيهى يغطى تماما على صوت العقل المفكر فى القضايا الأساسية لأى بلد، وهى محنة يعانى منها مفكرو العالم جميعا. إن حرية الرأى وفتح الباب لتعدد الفكر هو المخرج، هو المخلص، هو صمام الأمان لكل أمة وكل شعب وكل مجتمع وكل نظام، وقهر حرية الفكر قد يكون عمل فرد، كما كان يحدث قديما فى بعض العصور الخالية، وقد يكون عمل آلاف الأفراد والصحف والميكروفونات والكتب، كما يحدث فى أكثر المجتمعات تقدما، والعاقبة فى كلتا الحالتين وخيمة». ∎∎ أستاذ «بهاء» لك الشكر والمحبة والتقدير كاتبا ومفكرا من طراز يندر أن يتكرر فى زمن امتلأ ببهلوانات الكتابة وأراجوزات الفضائيات.