لأكثر من خمس دقائق كاملة، لم يستطع (جو)، أو (تروتسكي) النطق بكلمة واحدة، بعد أنهى رجل الأمن قراءة التقرير، الذي أصدره الخبراء، ثم لم يلبث الأوَّل أن هزَّ رأسه في توتر شديد، وكأنما يحاول أن ينفض عنه ما سمعه منذ لحظات، وقال في شيء من العصبية: - هل يمكنك أن تعيد ما قلته مرة أخرى؟!... أزاح رجل الأمن التقرير جانباً، وهو يقول في حزم: - الأمر واضح، إلى الحد الذي تعجزان معه عن استيعابه... ذلك الزي، الذي كان يرتديه الكائن، يحوي بالفعل أكثر بكثير مما أمكننا أن نكشفه في المرة الأولى... إنه ليس مجرَّد زي فضائي، يمده بالهواء والغذاء، ويضبط معدلات الضغط وقياساته الحيوية... إنه يحوى أيضاً شبكة من وسائل الاتصال؛ موزّعة عبر نسيجه غير التقليدي، والذي تم تصنيعه على نحو يصعب حتى أن تتوصَّل إليه أرقى تكنولوجيا، قبل ثلاثين عاماً من العمل الدءوب على الأقل، ثم إنه يقوم بتخزين كل هذا داخل ما يشبه قرص التخزين المعروف لدينا؛ ولكنه رخو ونسيجي؛ بحيث يكون جزءاً من الزي نفسه. ثم هزَّ رأسه في غضب، مستطرداً: - هذا الوغد كان يجمع المعلومات عنا طوال الوقت. همَّ الروسي بقول شيء ما؛ ولكن (جو) اندفع يقول في حدة: - ليس بالضرورة. التفت إليه رجل الأمن في غضب شديد، وكاد ينفجر في وجهه، بمحاضرة طويلة قاسية، عن خطأ النظر إلى كل الأمور، من منطلق حسن النوايا، وعن ضرورة وضع الأمن فوق كل اعتبار، و.... ولكن الروسي أجهض المحاضرة قبل أن تبدأ، وهو يقول في صرامة: - وأنا أتفق معك تماماً. التفت إليه رجل الأمن في دهشة مستنكرة؛ فأضاف بنفس الصرامة: - لو أنك رائد فضاء، وتنطلق في مهمة كونية طويلة؛ فمن الطبيعي أن يحوي زيك أو مركبتك وسيلة لتسجيل كلّ ما تمرّ به، وحفظ كل لمحة، يمكن دراستها وتحليلها، والإفادة منها بعد عودته إلى كوكبه الأم. اندفع (جو) يكمل في انفعال: - ثم إننا لو افترضنا أنه يرتدي هذا الزي للتجسس علينا؛ فهذا سيعني أن سقوطه في قبضتنا كان متعمداً، حتى يمكنه القيام بمهمته. بدا رجل الأمن شديد الصرامة والقسوة، وهو يجيب: - ولا يمكننا استبعاد هذا الاحتمال أيضاً. تبادل (جو) و(تروتسكي) نظرة مستنكرة، قبل أن يقول (جو) في غضب واضح: - اسمع يا هذا... أنا كنت طيلة عمري، أكثر تزمتاً منك، في هذه الأمور، ولم أكن أؤمن، ولو لحظة واحدة، باحتمال وجود أية مخلوقات عاقلة غيرنا في الكون، وكنت أستنكر بشدة أية محاولة لإقناعي بالعكس... حتى أفلام الخيال العلمي، التي أشارت إلى هذا، كنت أراها مجرد أفلام هزلية سخيفة؛ ولكن ها أنا ذا أقف في مواجهة كائن من عالم آخر، كائن ذكي، أكثر تطوراً وتقدماً منا، من الناحية التكنولوجية على الأقل، وهذا يعني صدمة عنيفة، لكل ما آمنت به طيلة عمري، ربما لأنني أدركت أنني أمام أعظم كشف علمي، منذ بدء الخليقة، وكان هذا يحتّم علىَّ، أن أطرح أفكاري القديمة جانباً، وأن أتعامل مع الأمور بفكر جديد، وروح جديدة. هزَّ رجل الأمن رأسه في عناد، قائلاً بنفس الصرامة: - هذا يتعارض تماماً مع الأمن، والفكر الأمني. قال الروسي في برود مستفز: - هراء. التفت إله الرجل مرة أخرى، على نحو حاد؛ ولكنه استطرد بلا مبالاة: - الأمن الجامد هو أمن فاشل وعاجز، ويسهل للغاية تحطيمه واختراقه، وإزاحته من الساحة... الأمن الحقيقي هو من التغيير، والتطوير، والتعامل مع كل أمر جديد بمفهوم جديد، وفكر جديد. هتف به رجل الأمن، في لهجة اكتسبت شيئاً من الشراسة هذه المرة: - إنك تتحدث عن أمن قومي يا رجل. جاء دور (جو) ليقول في غضب: - هراء أيضاً بدا رجل الأمن شديد العصبية والغضب والاستنكار، وهو ينقل بصره إليه؛ ولكن (جو) تابع بنفس اللهجة: - لو أن هذا القادم من كوكب آخر، هو جاسوس، قطع ملايين الأميال، عبر فضاء سرمدي لا نهائي، فقط ليتجسس علينا، أو ليجمع معلومات عنا، بغرض الاستعمار أو الاحتلال، أو أياً من تلك الأفكار الخزعبلية، التي ملأت بها قصص الخيال العلمي رؤوسكم؛ فنحن حتماً لسنا أمام مشكلة أمن قومي، أو حتى أمن إقليمي... إننا أمام مشكلة أمن عالمي... أمن يحمي البشرية كلها، وليس مصر أو العالم العربي فحسب.
إنه لا سبيل لكم لبلوغ الحقائق سوى من خلالنا قال (تروتسكي) مكملاً: - ولو أن الأمر كذلك؛ فمن واجبكم أن تتعاونوا مع الأمريكيين، ومع كل دولة في العالم؛ لأن الخطر يشملها كلها. هزَّ رجل الأمن رأسه في عنف، وقال في حدة: - لم نتيقن من هذا بعد. سأله (جو) مندفعاً كعادته: - وكيف ستتيقنون؟!... هل ستستجوبون (موجال)؟!... انعقد حاجبا رجل الأمن، وهو يجيب في شراسة: - ولم لا؟! سأله (تروتسكي): - وكيف ستفعلونها؟!.. نقل رجل الأمن بصره في عصبية، دون أن يجيب؛ فمال (جو) نحوه، وأجاب بكل صرامة: - بالعلم. بدا واضحاً، من خلجات الرجل، أن الموقف كله قد أصابه بتوتر شديد، جعله يقول في عصبية: - ما الذي ترميان إليه بالضبط؟! كان الروسي هو من أجابه، ببروده المستفز: - إنه لا سبيل لكم، لبلوغ الحقائق، سوى من خلالنا. وأضاف (جو) مندفعاً: - أم أنكم ستبحثون عن عالم ثالث، يخبركم بما تريدون سماعه بالضبط؟! كان من الواضح أنها مواجهة صريحة، لم تحدث على نحو مباشر من قبل... مواجهة بين فكرين... فكر أمني... وفكر علمي... الفكر الأمني، كان يبحث حتماً عن أسلوب السيطرة على الموقف.. أياً كان هذا الموقف... والفكر العلمي، كان يبحث عن ما هو أرقى... عن المعرفة... والحقيقة... عن العلم... فكر يسعى للسيطرة... وفكر يسعى للمعرفة... والسؤال في مثل هذه المواجهة، لا يكون: مَن الأفضل؟... ولكن من الأقوى؟!... من يملك السلطة؟!.. والقرار؟!... والاتجاه؟!... لذا؛ فقد اعتدل رجل الأمن، وفرد صدره، وشد قامته، واتخذ وقفة عسكرية صارمة، وهو يقول بكل الغلظة: - ستؤديان عملكما، كما يطلب منكما. عقد (تروتسكي) ساعديه أمام صدره، وهو يقول: - وماذا لو لم نفعل؟!.. ساد الصمت على ثلاثتهم لحظات، تبادلوا خلالها نظرات حادة، ملئوها الصرامة والتحدي، قبل أن يقول رجل الأمن، في لهجة عسكرية، توحي بأنها غير قابلة للنقاش: - ستنفذان الأوامر؛ لأنكما تجهلان كافة تعقيدات الأمر. قال (جو)، وهو يعقد ساعديه أمام صدره بدوره: - المشكلة أننا لكي ننفذها، لابد لنا من معرفة وفهم كافة تعقيدات الأمور. نطق الجزء الأخير من العبارة، مقلداً أسلوب رجل الأمن ولهجته؛ فاحتقن وجه هذا الأخير في غضب، في حين ابتسم (تروتسكي) ابتسامة باردة، وقال في هدوء مستفز: - يبدو أننا سنتفق على أمور كثيرة هذا المساء يا صديقي. نقل رجل الأمن بصره بينهما في غضب بضع لحظات، ثم لم تلبث نظراته أن تحوّلت إلى صرامة شديدة، وهو يقول في تحدّ: - هل تعلمان إذن، أن كافة الخبراء، يتفقون على أنه من المحتمل، والمحتمل جداً، أن يكون كل هذا مجرد خدعة؟!.. ابتسم (جو) في سخرية عصبية، وقال: - إذن فقد قطع (موجال) كل هذه الأميال في الفضاء، لكي... قاطعه في صرامة غاضبة: - هنا تكمن الخدعة. انعقد حاجبا (تروتسكي) وهو يسأله في قلق: - ماذا تعني بالخدعة يا رجل؟! التقط رجل الأمن نفساً عميقاً، وبدا شديد الثقة والقوة، وهو يجيب في صرامة: - لقد فحصنا أنسجة هذا المدَّعي، وجاءت النتيجة حاسمة. ثم مال نحوهما، في لهجة بدت أشبه بالتشفي: - هذا المخادع بشري... مجرد بشري. وتراجع الاثنان كالمصعوقين. لقد كانت بالفعل مفاجأة كبرى... جداً. يتبع
لقراءة الأعداد السابقة من "أكشن" إضغط على لينك أكشن الموجود بجوار اسم د. نبيل فاروق