جامعة بنها تطلق قافلة طبية لرعاية كبار السن بشبرا الخيمة    جولدمان ساكس يتوقع استمرار صعود أسعار الذهب بدعم استثمارات القطاع الخاص    أسعار اللحوم اليوم الخميس 2 أكتوبر 2025 في أسواق الأقصر    البنتاجون يخطط لإجراء اختبارات عشوائية للجنرالات والموظفين، ما القصة؟    الأهلي يدخل معسكرا مغلقا غدا استعدادا لمباراة كهرباء الإسماعيلية    انقلاب ملاكي بصحراوي الإسكندرية يسفر عن وفاة 3 أشخاص    القبض على سيدة تهدد زوجة شقيقها بأعمال السحر والشعوذة في الشرقية    قتيلان وجرحى في جنوب المغرب خلال احتجاجات تلتها أعمال شغب    عاجل- تعليم الجيزة: فتح فصل حالات الإصابة بفيروس HFMD الأحد المقبل بعد استكمال التعقيم    سبب تعرض كبار السن للنسيان والاكتئاب.. طبيبة توضح    الصحة: لا يوجد فيروس اسمه HFMD.. وأعراضه لا تشكل خطرا صحيا    مصر والسودان يجددان رفضهما الإجراءات الأحادية في نهر النيل    جنة أم نار.. هالاند يتحدث بصراحة عن خوفه من الموت    لماذا يحدث الإغلاق الحكومي الأمريكي؟    مقتل شخصين في اليوم الخامس من الاحتجاجات في المغرب    وزراء مالية دول "مجموعة السبع" يتفقون على تكثيف الضغط على روسيا بشأن أوكرانيا    الوطنية للانتخابات: انتخابات النواب على مرحلتين والسبت تلقى أوراق الترشح    رابطة الأندية توضح سبب عدم معاقبة جماهير الزمالك وحسين الشحات بعد القمة 131    راموس بعد إسقاط برشلونة: نحن الأبطال ويجب أن نثبت ذلك في الملعب    الزمالك يعود للتدريبات اليوم استعدادًا لمواجهة غزل المحلة    مصطفى عبده يكشف تفاصيل اجتماع الخطيب مع لاعبي الأهلي قبل القمة    النواب يناقش اليوم تقرير بشأن اعتراض الرئيس السيسى على الإجراءات الجنائية    المستشفيات التعليمية توقع بروتوكول تعاون مع جامعة المنصورة الجديدة لتدريب طلاب الطب    النشرة المرورية.. كثافات متوسطة للسيارات بمحاور القاهرة والجيزة    موقع وزارة التربية والتعليم.. التقييمات الأسبوعية عبر هذا الرابط    إيلون ماسك يقترب من عتبة أول تريليونير في العالم    وفاة الشيخ بشير أحمد صديق كبير القراء فى المسجد النبوى عن عمر ناهز 90 عاما    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 2 أكتوبر 2025 فى المنيا    هل الممارسة الممنوعة شرعا مع الزوجة تبطل عقد الزواج.. دار الإفتاء تجيب    وزيرة التنمية المحلية فى جولة مفاجئة لمنظومة جمع قش الأرز بالدقهلية والقليوبية    تعليم أسيوط: تسليم الكتب الدراسية للطلاب دون شرط أو قيد    استشهاد 3 فلسطينيين وإصابة 13 آخرين جراء قصف إسرائيلى وسط غزة    «الرعاية الصحية» توافق على إنشاء وحدتين لزراعة النخاع بمجمعي الأقصر الدولي والسويس الطبي    مصرع وإصابة 11 شخصا إثر حريق هائل يلتهم عقارًا في فيصل    الإغلاق الحكومي الأمريكي، هل يطيح بالدولار وتصنيف واشنطن؟ «فيتش» تجيب    السودان: سنجري مراجعة تفصيلية لملف السد الإثيوبي    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    مصرع شخص وإصابة 5 في حادث انقلاب ميكروباص بالشرقية    ترامب يقرر اعتبار أي هجوم على قطر هجومًا على أمريكا    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الخميس 2-10-2025 في الصاغة بعد ارتفاعه 60 جنيهًا    أودي تعتزم طرح أول سيارة إس.يو.في ذات 7 مقاعد العام المقبل    معركتك خسرانة.. كريم العدل يوجه انتقادات حادة لمخرج فيلم «اختيار مريم»: انتحار فني كامل    بقرار جمهوري.. اليوم مجلس الشيوخ يفتتح دور الانعقاد الأخير من الفصل التشريعي    البابا تواضروس الثاني يترأس قداس تدشين كاتدرائية الأنبا أنطونيوس والأرشيدياكون حبيب جرجس بأسيوط الجديدة    المسرح المتنقل يواصل فعالياته بقرية نزلة أسطال بالمنيا    بلاغ أم يقود لضبط مدرس متهم بالاعتداء على طفل فى الأهرام    عبدالله مجدي الهواري: «بحب الفن ونفسي أبقى حاجة بعيد عن اسم أمي وأبويا»    الدكتور محمود سعيد: معهد ناصر قلعة الطب في مصر وحصن أمان للمصريين    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    4 أهداف.. تعادل مثير يحسم مواجهة يوفنتوس أمام فياريال بدوري أبطال أوروبا    رئيس مجلس المطارات الدولي: مصر شريك استراتيجي في صناعة الطيران بالمنطقة    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    الحمل بيحب «الروايات المثيرة» والحوت «الخيالية».. ما نوع الأدب الذي يفضله برجك؟    «مقتنعوش بيه».. ماجد سامي: كنت أتمنى انتقال نجم الزمالك ل الأهلي    محافظ الشرقية يكرّم رعاة مهرجان الخيول العربية الأصيلة في دورته ال29.. صور    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    أرسنال بالعلامة الكاملة في الإمارات ينتصر بثنائية على أولمبياكوس    مدير معهد ناصر: اختيار المعهد ليكون مدينة طبية لعدة أسباب ويتمتع بمكانة كبيرة لدى المواطنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في كتابين عن لغة الرئيس.. ولغة الثورة:
جريمة هيكل
نشر في أخبار الأدب يوم 31 - 03 - 2012


»كأننا في مشهد من فيلم زد«
قال هيكل للضابط الذي جاء لإلقاء القبض عليه أثناء أزمة » خريف الغضب« قبل أسابيع من اغتيال السادات.الفيلم الذي يشير إليه هيكل يتناول حسب وصفه » إرهاب حكم الجنرالات بعد انقلابهم العسكري واستيلائهم علي السلطة في اليونان« .. فهل بدأ إرهاب الجنرالات فقط مع هذا المشهد الذي يشرح تفاصيله في كتابه عن السادات » خريف الغضب« أم أن إرهابهم بدأ قبل هذا المشهد بكثير؟
هيكل رجل يقول »كلمته ويمضي« ، حسب العبارة التي يكررها كثيرا. والرجل الذي أعلن اعتزال الكتابة منذ سنوات لم يتوقف يوما عن الحديث. ولكنه يعود هذه الأيام عبر الكتابة والحديث في كتابين. الأولي كتاب عن الماضي الذي ليس ببعيد بعنوان » مبارك وزمنه« في مجلدين صدرا في دار الشروق، والثاني عن اللحظة الحاضرة بكل اشتباكاتها وارتباكاتها والتباساتها بعنوان » هيكل يتكلم« حوار مطول أجراه معه الزميل ياسر رزق رئيس تحرير الأخبار وصدر عن مؤسسة أخبار اليوم.
في الكتابين يقول هيكل كلمته، ولكن عندما تأتي الكلمات في غير آوانها فإنها تفقد تأثيرها وأهميتها. الصمت يصبح جريمة في أوقات كثيرة. صحيح أن المجلد الثاني من » مبارك وزمنه« يؤكد أن هيكل لم يشارك في جريمة الصمت، وأنه قال كلمته الشهيرة: »سلطة شاخت في مقاعدها« أثناء أزمة نقابة الصحفيين، وأنه فضح سيناريو التوريث في محاضرة الجامعة الأمريكية. ولكن في مقابل ذلك صمت أيضا في قضايا مثل »جاسوسية« اشرف مروان، بل وبمشاركة شخصيات كبيرة ونافذة في القصر الجمهوري. أي أن كثيرا من المعلومات التي يكشف عنها هيكل لأول مرة في كتابه( تورط مبارك في عملية اغتيال المهدي في السودان أو ما اسماه عملية سلة المانجو، أو جاسوسية أشرف مروان .. أو غيره من المسئولين في مؤسسة الرئاسة) ، هذه المعلومات كان علي علم ومعرفة بها وصمت عنها في حينها، تجعل صمته جريمة!
ينشغل هيكل طوال صفحات الجزء الأول من الكتابة بمحاولة الإجابة علي السؤال: كيف حافظ مبارك علي منصبه الرئاسي طوال ثلاثين عاما؟
يحاول أن يجيب. ولكن السؤال الأهم الذي كان ينبغي ان يجيب عنه : كيف وصل مبارك بالأساس إلي منصبه؟ ليس فقط نائبا للرئيس ثم رئيسا لثلاثين عاما..وإنما بالأساس كقائد للقوات الجوية أيام جمال عبد الناصر.
يقول العسكريون أن ملف مبارك كان أثناء الخدمة بعد عام 1963 لدي المخابرات الحربية وهو إجراء يتم اتخاذه عندما يتم الشك في صاحبه، أي أن مبارك كانت تثار حوله الشكوك، وخاصة بعد أن تم اسره بواسطة القوات المغربية والفرنسية في الحرب الشهيرة بين المغرب والجزائر المسماه » حرب الرمال« وحققت معه وقتها المخابرات الفرنسية إذ كانت فرنسا وأمريكا تحاربان إلي جانب المغرب بينما انضمت مصر وكوبا وروسيا إلي الجبهة الجزائرية. ومعروف أن أسر قائد يعتبر عارا شخصيا بالنسبة له، ومعروف أيضا أن القائد الذي يتم أسره لا يتولي مناصب عليا مطلقا..فكيف وصل مبارك إلي أن يكون قائدا للقوات الجوية، بل وأن يصمد مع أربعة قادة لسلاح الطيران بعد »نكسة 1967« صدقي محمود، ومدكور أبوالعز، ومصطفي الحناوي، وعلي بغدادي، ولم يستطع أحد منهم استكمال فترته الطبيعية، وكل واحد منهم أجري تغييرات وتنقلات وبقي مبارك. الإجابة التي يقدمها هيكل في كتابه: »سمعت الفريق محمد فوزي وزير الدفاع، يقدم مبارك عند جمال عبدالناصر عندما رشحه له رئيسا للأركان في سلاح الطيران أثناء حرب الاستنزاف، وكانت شهادة الفريق محمد فوزي تزكيه لما رشح« ، أما السبب الثاني فيأتي من إجابة الفريق محمد أحمد صادق وزير الحربية »التالي لفوزي« علي سؤال لهيكل: »هل يقدر مبارك؟، فكان رد صادق لهيكل: »إنه الضابط الأكثر استعدادا في سلاح الطيران الآن بعد كل ما توالي علي قيادة السلاح من تقلبات، وأول مزايا مبارك أنه مطيع لرؤسائه ينفذ ما يطلبون، ولا يعترض علي أمر لهم« .
ليست القضية هنا هي طاعة مبارك وتنفيذه للأوامر كما يحاول هيكل أن يلمح، ولكن السؤال الأهم: هل كان نظام عبد الناصر نفسه مخترقا؟ عندما ينتقل ملف مبارك من » المخابرات الحربية« إلي قيادة الطيران.. وعندما يصبح السكرتير الأول لعبد الناصر أشرف مروان وزوج ابنته جاسوسا، وعندما تصبح المحاضر الرسمية التي كتبها السفير مراد غالب لجلسات الرئيس السادات ونظيره الروسي بيرجنيف أثناء زيارته لروسيا 1971 لدي إسرائيل، بل وكل وثائق الرئاسة المصرية تقرأها المخابرات الإسرائيلية » علي راحتها« !
لا يبدو الخلاف بين هيكل ومبارك طوال صفحات الكتاب خلافا جذريا علي الأقل في السنوات الأولي، بل كان خلافا علي اللغة التي يستخدمها كلاهما. هيكل » لورد إنجليزي« ينتقي مفرداته ويعرف الأصول، بينما مبارك سوقي تعبيراته غير منتقاه، تدل علي عدم خبرة..
صدم هيكل عندما قال له مبارك : »علي فكرة نحن كنا نتصور أنك تجلس علي حِجْر الرئيس »جمال« ، لكنه ظهر أن الرئيس »جمال« كان هو الذي يجلس علي حِجْرك« . وصدم عندما وصف الصحفيين بأنهم عالم »لبط« ..وعندما أبدي هيكل عدم معرفته بالمعني أجابه مبارك: »لا تعرف معني »لَبَطْ« هل أنت »خواجة« وشرح له: »إن الصحفيين يدَّعون أنهم يعرفون كل شيء، وأنهم »فالحين قوي« ، والأفضل أن ينكشفوا أمام الناس علي حقيقتهم، وأنهم »هجاصين« لا يعرفون شيئا« .؟!
أما حكاية السيجار..فحكاية اخري:..يرويها هيكل علي صفحات كتابه عندما سأله مبارك في حوار الست ساعات بينهما:
ألا تريد أن تدخن سيجارا أنا أعرف أنك من مدخني السيجار، وأنا مثلك.
وأبديت الدهشة، فقال إنه لا يظهر في الصور بالسيجار لكي يتجنب »القرشنة« ! لكنه يدخن سيجارا واحدا كل يوم، ثم ضغط علي جرس يطلب صندوق السيجار.
وجاء الصندوق مع أحد الضباط، وطلب »مبارك« تقديمه إلي بالإشارة، وأخذت منه سيجارا، وأخذ هو سيجارا.
ثم سألني وهو يراني أشعل عود كبريت: »سيجار كويس« ؟!!
ولم أقل شيئا، ويظهر أنه أحس أنني لا أشاركه الرأي.
وقلت: بكل احترام الحقيقة أنه مقبول.
وقال باستنكار: إيه؟! هذا »روميو وچولييت« .
وقلت: الشركة التي تنتج سيجار »روميو وچولييت« تنتج أكثر من 75 نوعا بعلامتها، وكل نوع منها مختلف عن الآخر.
وسأل »مبارك« باهتمام:أُمال إيه بقي السيجار الكويس؟
وقلت بإذنك في سيارتي علبة صغيرة فيها سيجار، ولم أدخل بها لأني لم أتصور أنك تدخن، وإذا وافقت نطلبه.
وجاءت العلبة، وعرضت علي الرئيس »مبارك« أن يتفضل، فأخذ واحدا منها وأشعله، وكانت ملاحظته: والله أحسن فعلا غريبة جدا!!
وقال وهو يستعيد الذكريات:
عندما كنا نتدرب في الاتحاد السوڤييتي كطيارين، كنا نشتري هذا السيجار (الذي لم يعجبك!!) ونبعث به إلي قادة السلاح، وكانوا يعتبرون ذلك فخفخة.
ثم عاودته الذكريات فقال: أيام التدريب في الاتحاد السوڤييتي كنا في قاعدة جوية قرب »خاركوف« ، وفي الإجازة ننزل إلي »موسكو« ،وكنا نخفي الورقة »أم مائة دولار« تحت الشراب بعد أن نغطيها بقطعة من ورق التواليت، (أضاف أن ورق التواليت في روسيا سميك وخشن مثل الخيش)، ثم نغيرها في السوق السوداء عن طريق موظف في مكتب الملحق العسكري بمبلغ كبير من الروبلات، ونشتري علبا من هذا السيجار ونشحنها إلي قادة السلاح في مصر. واستطرد: كان »الروبل« بالسعر الرسمي يساوي أكثر من دولار واحد، لكن السعر في السوق السوداء كان 21 روبلا
لكل دولار، فارق كبير، أضاف، »لكن الواد بتاع المكتب العسكري كان جن« .
وعاد »مبارك« فجذب نفسا من السيجار الذي قدمته له، وقال: »فعلا لك حق هذا أحسن جدا« ، ولكنهم (يقصد القادة الذين كان يرسل لهم السيجار) كانوا يعتقدون أن الاتحاد السوڤييتي يأخذ سيجار كوبا مقابل السلاح، وقلت: »ذلك صحيح إلي حد ما، لكن أفضل أنواع السيجار الذي تنتجه كوبا كانت للتصدير بالعملة الصعبة إلي الغرب، وما تبقي من الدرجة الثالثة والرابعة يذهب إلي الاتحاد السوڤييتي ويشتريه الزوار بحُسن نية.
ومد الرئيس »مبارك« يده إلي جرس، فدعي أحد الضباط، ثم التفت وقال:
»محمد« بيه ملِّي عليه كل أنواع السيجار الكويس!
وقلت ما مؤداه »أن لكل نوع من السيجار مذاقا، وأن كل مذاق مسألة اختيار، ولذلك فإنه من الصعب علي مدخن أن يوصي غيره بنوع معين« .
وقال: معلش »ملِّيه« الأنواع »الأبهة« !
وكان الضابط قد أسرع وجاء بورقة وقلم مستعدا لكي أمليه.
وعاد إلي تجربة »السيجار« الذي قدمته له، وقال:
فعلا كويس جدا.
ثم أضاف ضاحكا:
يا أخي عاوزين نتعلم »العز« .
القصة طويلة، ولكنها قبل أن تكون كاشفة عن لغة الرئيس، ربما تحمل إجابة علي السؤال: كيف وصل مبارك إلي منصبه؟ هل هي هدايا » السيجار لقادة الطيران في عهد عبد الناصر؟!
ربما..وربما كان هناك ما هو أكبر وأفخم من السيجار!

في الكتاب الثاني« هيكل يتكلم« يتضمن الحوار الطويل الذي أجراه الزميل ياسر رزق حول أوضاع مصر وأحوالها بعد ثورة يناير، كما يتضمن ردود الأفعال التي جرت في أعقاب الحوار.
يتخذ هيكل وضع الحكيم الذي يمتلك القدرة علي إدانة كل أطراف الثورة.. الذين » ارتطموا بالقدر« حسب تعبير أحمد شوقي في مسرحيته الشهيرة« مجنون ليلي« . الحوار الطويل يكشف أن هيكل يؤمن أن السياسة تصاغ في القصور لا الميادين.. وأن الثورات يصنعها »الزعماء« لا » الشعوب« . فهو هو ابن دولة الوصاية الأبوية أو هو أحد صناعها، صائغ إيديولوجيتها.. وثورة يناير في عمقها هي النقيض لدولة الوصاية الأبوية، الدولة التي تظن أنها تعرف مصلحة الشعب أكثر من الشعب نفسه، وأن من حقها أن تفكر بدلا من المواطن...ولكن لا يعترف هيكل أن دولة العسكر التي صنعها جمال عبد الناصر بانقلاب عسكري وصلت إلي درجة كبيرة من الإفلاس الفكري، وأن هذه الدولة لم يكن لها هما سوي تجريف البلد ومصادرة السياسة فيها، وأن ما وصلنا إليه لم يكن سوي نتيجة لهذه السياسات. وعندما يقف » الناصريون« في ميدان التحرير يحملون صور عبد الناصر فإنهم لا يقولون بما قاله عبد الناصر لا بتحالف قوي الشعب العامل، ولا بأن الحزبية هي سبب كل الكوارث المصرية، ولا أن التنظيم الواحد هو المنجي من المهالك. لم يعد يتبقي من » الناصرية« عندهم سوي الأغاني وبعض الشعارات، ونوع من الارتباط بفكرة الجيش أو »القلب الصلب« .
كانت » وعود« جمال عبد الناصر كثيرة، وكانت » أحلام« المواطنين تحت ولاية أيضا كبيرة..ولكن لا الوعود تحققت ولا الأحلام.. انكسرت الدولة » الأبوية« أو الدولة الأمنية مع هزيمة 67، وظلت الدولة تقاوم الرحيل طويلا..يعمل بمسكنات أحيانا، وبمحاليل ملحية أحيانا أخري..وعندما وصل الفساد فيها إلي نهاياته كانت لابد أن تسقط » الدولة« ..لتأتي دولة اخري.. ما حققته ثورة يناير لم يكتمل حتي الآن الدولة الأمنية الأبوية تمارس كل آلاعيبها من أجل البقاء..حتي ولو كلف ذلك طوابير من الضحايا بلا عدد...
في الحوار يقول هيكل أن الشباب والمجلس العسكري كلاهما ارتطم بالقدر، ولكن » العسكري« من وجهة نظره:« مثقل، فالقيود كلها عليه والمحاذير كلها أمامه، وللأمانة فإن العسكري وجد نفسه في موقف لم يكن من صنع أعضائه، ولا تم بحضورهم ورضاهم، وإنما هم وجدوا أنفسهم أمامه، ولعلهم أحسوا انهم من ضحاياه وليسوا شركاء فيه.. ».
وفي الحوار ذاته يري هيكل: أن مقولة الجيش ينبغي أن يعود إلي ثكناته تنتمي إلي القرن التاسع عشر.. أو أن يعود إلي مهامه علي الحدود ولايسأل أحد: أي حدود بالضبط؟. ويعتبر أن خروجهم من العمل الوطني السياسي نوع من الاستهتار...
يدافع هيكل إذن عن دولة يوليو الأمنية..بقوة، يريدها أن تزاحم المشهد وأن تحتله..حتي وإن لم يكن لها شرعية رغم أنه يقول في موضع آخر« الغلطة الكبري أن الجميع تصوروا أن مرحلة الانتقال وكأنها من سلطة لي سلطة وليس من دولة إلي دولة« .. هيكل يتهرب من أن يجيب علي السؤال: هل كانت ثورة يناير ضد دولة يوليو؟
عندما تنحي مبارك عن الحكم.. حمل الشباب » مقشاتهم« ... ليكنسوا شوارع ميدان التحرير، بل كل شوارع مصر. لم يكن هذا الفعل سوي رمز لكنس الماضي: هزائمه وإحباطاته، بل وانتصاراته المحدودة أيضاً.. كان يبدو أن الشباب يريد أن يدخل معمدانية يتطهر فيها، من ذلك الماضي الذي لم يحقق وعده ب » لبن العصفور في ورق سلوفان« .
لهذا لم تكن ثورة يناير مجرد ثورة ضد مبارك وحفنة من رجاله أفسدوا الحياة السياسية، بقدر ما كانت ضد »دولة يوليو« ، دولة الوصاية الأبوية، التي صادرت المجال السياسي، وخنقت مؤسسات المجتمع المدني، بل وكل المؤسسات التي يمكن أن تعارض عندما تكون قوية وتعمل في مناخ من الحرية:( الصحافة- النقابات المهنية- أساتذة الجامعات).
الثورة كانت بالأساس ضد الدولة الأبوية وأسلحتها الفاسدة: ديمقراطية زائفة، فساد سياسي ومالي وثقافي، أجهزة أمن وقمع سياسي تراقب وتلفق وتعتقل من تشاء وقتما تشاء، سلطات قضائية وتشريعية تنتظر- بجوار الهاتف- أوامرها من السلطة التنفيذية. لا نريد جنرالاً جديداً ولا فقيها يتحكم في مصائرها ويرسم لها المستقبل.. ولا أباً غيابه يعني التيه والضلال، إنها دولة تبحث عن ثقافة أخري، ومثقف لا يري نفسه ضمير الجماعة والمتحدث الرسمي باسمها.. لا تريد فرزاً علي أساس أن »الوطنية« هي أن تفكر كما نريد لك، لا تحاول أن تخرج علي » المازورة« المحددة سلفا لتصبح من هؤلاء »غير الشرفاء« . دولة، الشعب فيها هو الخط الأحمر، هوالنواة الصلبة لا السلطة ومؤسستها القمعية الحاكمة.
أستاذ هيكل هل تذكر المشهد الأخير في فيلم » زد« الذي اشرت إليه في »خريف الغضب« : هذا وقد قام العسكر أيضا بحظر إطالة الشعر و الميني جوب و حظر تولستوي و سوفوكليس ويوريبيدس والنماذج الروسية والإضرابات, الحريات النقابية و مارك توين و أرسطو و تروتسكي و يونيسكو ولوركا وسارتر وألبي وبنتر و تشيكوف و جوركي و البيتلز و أسخيلوس و أريستوفان و سقراط ونقابة المحامين و حرية الصحافة وعلم الإجتماع و بيكيت وديستويفسكي والموسيقي الشعبية والموسيقي الحديثة والرياضيات الحديثة وموسوعة بريتانيكا وحرف زد الذي يعني في اللغة اليونانية القديمة »إنه لا يزال حيا« ..هذا ما فعله الجنرالات في اليونان..وفي كل مكان حكموه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.