تعليم الفيوم يحصد 5 مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية فى المسابقة الثقافية    «مصادرة الآلة وإلغاء مادة الضبط».. إحالة 12 طالبًا ب«آداب وأعمال الإسكندرية» للتأديب بسبب الغش (صور)    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري في أول أيام عمل البنوك    أسعار البيض والفراخ فى الأقصر اليوم الأحد 19 مايو 2024    الاحتلال الإسرائيلي يرتكب 9 مجازر في اليوم ال226 للعدوان على غزة    الدفاعات الجوية الروسية تدمر 61 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليلة الماضية    قبل زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا اليوم    اليوم.. الزمالك يسعى للفوز على نهضة بركان للتتويج بالكونفيدرالية للمرة الثانية في تاريخه    بعد نشرها على «شاومينج».. «التعليم» تكشف حقيقة تداول امتحان اللغة الأجنبية في الإسكندرية    مصرع 6 أشخاص وإصابة 13 آخرين في تصادم أتوبيس على الدائري بشبرا الخيمة    كشف تفاصيل صادمة في جريمة "طفل شبرا الخيمة": تورطه في تكليف سيدة بقتل ابنها وتنفيذ جرائم أخرى    الإثنين المقبل.. إذاعة الحوار الكامل لعادل أمام مع عمرو الليثي بمناسبة عيد ميلاده    دراسة طبية تكشف عن وجود مجموعة فرعية جديدة من متحورات كورونا    ترامب: فنزويلا ستصبح أكثر أمانًا من الولايات المتحدة قريبا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأحد 19 مايو    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    ماس كهربائي وراء حريق أكشاك الخضار بشبرا الخيمة    الأهلي ينشر صورا من وصول الفريق إلى مطار القاهرة بعد التعادل السلبي أمام الترجي    الفنان سامح يسري يحتفل بزفاف ابنته ليلى | صور    حظك اليوم وتوقعات برجك 19 مايو 2024.. مفاجأة للجوزاء ونصائح مهمة للسرطان    جانتس يطالب نتنياهو بالالتزام برؤية متفق عليها للصراع في غزة    تعرف على سعر الدولار اليوم في البنوك    ظاهرة عالمية فنية اسمها ..عادل إمام    بأسعار مخفضة.. طرح سلع غذائية جديدة على البطاقات التموينية    انخفاض أسعار الفائدة في البنوك من %27 إلى 23%.. ما حقيقة الأمر؟    خبير اقتصادي: صفقة رأس الحكمة غيرت مسار الاقتصاد المصري    رامي جمال يتصدر تريند "يوتيوب" لهذا السبب    8 مصادر لتمويل الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وفقًا للقانون (تعرف عليهم)    استهداف قوات الاحتلال بعبوة ناسفة خلال اقتحامها بلدة جنوب جنين    الخارجية الروسية: مستقبل العالم بأسرة تحدده زيارة بوتين للصين    القومي للبحوث يوجه 9 نصائح للحماية من الموجة الحارة.. تجنب التدخين    "التنظيم والإدارة" يكشف عدد المتقدمين لمسابقة وظائف معلم مساعد مادة    بوجه شاحب وصوت يملأه الانهيار. من كانت تقصد بسمة وهبة في البث المباشر عبر صفحتها الشخصية؟    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بن حمودة: أشجع الأهلي دائما إلا ضد الترجي.. والشحات الأفضل في النادي    مع استمرار موجة الحر.. الصحة تنبه من مخاطر الإجهاد الحراري وتحذر هذه الفئات    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في كتابين عن لغة الرئيس.. ولغة الثورة:
جريمة هيكل
نشر في أخبار الأدب يوم 31 - 03 - 2012


»كأننا في مشهد من فيلم زد«
قال هيكل للضابط الذي جاء لإلقاء القبض عليه أثناء أزمة » خريف الغضب« قبل أسابيع من اغتيال السادات.الفيلم الذي يشير إليه هيكل يتناول حسب وصفه » إرهاب حكم الجنرالات بعد انقلابهم العسكري واستيلائهم علي السلطة في اليونان« .. فهل بدأ إرهاب الجنرالات فقط مع هذا المشهد الذي يشرح تفاصيله في كتابه عن السادات » خريف الغضب« أم أن إرهابهم بدأ قبل هذا المشهد بكثير؟
هيكل رجل يقول »كلمته ويمضي« ، حسب العبارة التي يكررها كثيرا. والرجل الذي أعلن اعتزال الكتابة منذ سنوات لم يتوقف يوما عن الحديث. ولكنه يعود هذه الأيام عبر الكتابة والحديث في كتابين. الأولي كتاب عن الماضي الذي ليس ببعيد بعنوان » مبارك وزمنه« في مجلدين صدرا في دار الشروق، والثاني عن اللحظة الحاضرة بكل اشتباكاتها وارتباكاتها والتباساتها بعنوان » هيكل يتكلم« حوار مطول أجراه معه الزميل ياسر رزق رئيس تحرير الأخبار وصدر عن مؤسسة أخبار اليوم.
في الكتابين يقول هيكل كلمته، ولكن عندما تأتي الكلمات في غير آوانها فإنها تفقد تأثيرها وأهميتها. الصمت يصبح جريمة في أوقات كثيرة. صحيح أن المجلد الثاني من » مبارك وزمنه« يؤكد أن هيكل لم يشارك في جريمة الصمت، وأنه قال كلمته الشهيرة: »سلطة شاخت في مقاعدها« أثناء أزمة نقابة الصحفيين، وأنه فضح سيناريو التوريث في محاضرة الجامعة الأمريكية. ولكن في مقابل ذلك صمت أيضا في قضايا مثل »جاسوسية« اشرف مروان، بل وبمشاركة شخصيات كبيرة ونافذة في القصر الجمهوري. أي أن كثيرا من المعلومات التي يكشف عنها هيكل لأول مرة في كتابه( تورط مبارك في عملية اغتيال المهدي في السودان أو ما اسماه عملية سلة المانجو، أو جاسوسية أشرف مروان .. أو غيره من المسئولين في مؤسسة الرئاسة) ، هذه المعلومات كان علي علم ومعرفة بها وصمت عنها في حينها، تجعل صمته جريمة!
ينشغل هيكل طوال صفحات الجزء الأول من الكتابة بمحاولة الإجابة علي السؤال: كيف حافظ مبارك علي منصبه الرئاسي طوال ثلاثين عاما؟
يحاول أن يجيب. ولكن السؤال الأهم الذي كان ينبغي ان يجيب عنه : كيف وصل مبارك بالأساس إلي منصبه؟ ليس فقط نائبا للرئيس ثم رئيسا لثلاثين عاما..وإنما بالأساس كقائد للقوات الجوية أيام جمال عبد الناصر.
يقول العسكريون أن ملف مبارك كان أثناء الخدمة بعد عام 1963 لدي المخابرات الحربية وهو إجراء يتم اتخاذه عندما يتم الشك في صاحبه، أي أن مبارك كانت تثار حوله الشكوك، وخاصة بعد أن تم اسره بواسطة القوات المغربية والفرنسية في الحرب الشهيرة بين المغرب والجزائر المسماه » حرب الرمال« وحققت معه وقتها المخابرات الفرنسية إذ كانت فرنسا وأمريكا تحاربان إلي جانب المغرب بينما انضمت مصر وكوبا وروسيا إلي الجبهة الجزائرية. ومعروف أن أسر قائد يعتبر عارا شخصيا بالنسبة له، ومعروف أيضا أن القائد الذي يتم أسره لا يتولي مناصب عليا مطلقا..فكيف وصل مبارك إلي أن يكون قائدا للقوات الجوية، بل وأن يصمد مع أربعة قادة لسلاح الطيران بعد »نكسة 1967« صدقي محمود، ومدكور أبوالعز، ومصطفي الحناوي، وعلي بغدادي، ولم يستطع أحد منهم استكمال فترته الطبيعية، وكل واحد منهم أجري تغييرات وتنقلات وبقي مبارك. الإجابة التي يقدمها هيكل في كتابه: »سمعت الفريق محمد فوزي وزير الدفاع، يقدم مبارك عند جمال عبدالناصر عندما رشحه له رئيسا للأركان في سلاح الطيران أثناء حرب الاستنزاف، وكانت شهادة الفريق محمد فوزي تزكيه لما رشح« ، أما السبب الثاني فيأتي من إجابة الفريق محمد أحمد صادق وزير الحربية »التالي لفوزي« علي سؤال لهيكل: »هل يقدر مبارك؟، فكان رد صادق لهيكل: »إنه الضابط الأكثر استعدادا في سلاح الطيران الآن بعد كل ما توالي علي قيادة السلاح من تقلبات، وأول مزايا مبارك أنه مطيع لرؤسائه ينفذ ما يطلبون، ولا يعترض علي أمر لهم« .
ليست القضية هنا هي طاعة مبارك وتنفيذه للأوامر كما يحاول هيكل أن يلمح، ولكن السؤال الأهم: هل كان نظام عبد الناصر نفسه مخترقا؟ عندما ينتقل ملف مبارك من » المخابرات الحربية« إلي قيادة الطيران.. وعندما يصبح السكرتير الأول لعبد الناصر أشرف مروان وزوج ابنته جاسوسا، وعندما تصبح المحاضر الرسمية التي كتبها السفير مراد غالب لجلسات الرئيس السادات ونظيره الروسي بيرجنيف أثناء زيارته لروسيا 1971 لدي إسرائيل، بل وكل وثائق الرئاسة المصرية تقرأها المخابرات الإسرائيلية » علي راحتها« !
لا يبدو الخلاف بين هيكل ومبارك طوال صفحات الكتاب خلافا جذريا علي الأقل في السنوات الأولي، بل كان خلافا علي اللغة التي يستخدمها كلاهما. هيكل » لورد إنجليزي« ينتقي مفرداته ويعرف الأصول، بينما مبارك سوقي تعبيراته غير منتقاه، تدل علي عدم خبرة..
صدم هيكل عندما قال له مبارك : »علي فكرة نحن كنا نتصور أنك تجلس علي حِجْر الرئيس »جمال« ، لكنه ظهر أن الرئيس »جمال« كان هو الذي يجلس علي حِجْرك« . وصدم عندما وصف الصحفيين بأنهم عالم »لبط« ..وعندما أبدي هيكل عدم معرفته بالمعني أجابه مبارك: »لا تعرف معني »لَبَطْ« هل أنت »خواجة« وشرح له: »إن الصحفيين يدَّعون أنهم يعرفون كل شيء، وأنهم »فالحين قوي« ، والأفضل أن ينكشفوا أمام الناس علي حقيقتهم، وأنهم »هجاصين« لا يعرفون شيئا« .؟!
أما حكاية السيجار..فحكاية اخري:..يرويها هيكل علي صفحات كتابه عندما سأله مبارك في حوار الست ساعات بينهما:
ألا تريد أن تدخن سيجارا أنا أعرف أنك من مدخني السيجار، وأنا مثلك.
وأبديت الدهشة، فقال إنه لا يظهر في الصور بالسيجار لكي يتجنب »القرشنة« ! لكنه يدخن سيجارا واحدا كل يوم، ثم ضغط علي جرس يطلب صندوق السيجار.
وجاء الصندوق مع أحد الضباط، وطلب »مبارك« تقديمه إلي بالإشارة، وأخذت منه سيجارا، وأخذ هو سيجارا.
ثم سألني وهو يراني أشعل عود كبريت: »سيجار كويس« ؟!!
ولم أقل شيئا، ويظهر أنه أحس أنني لا أشاركه الرأي.
وقلت: بكل احترام الحقيقة أنه مقبول.
وقال باستنكار: إيه؟! هذا »روميو وچولييت« .
وقلت: الشركة التي تنتج سيجار »روميو وچولييت« تنتج أكثر من 75 نوعا بعلامتها، وكل نوع منها مختلف عن الآخر.
وسأل »مبارك« باهتمام:أُمال إيه بقي السيجار الكويس؟
وقلت بإذنك في سيارتي علبة صغيرة فيها سيجار، ولم أدخل بها لأني لم أتصور أنك تدخن، وإذا وافقت نطلبه.
وجاءت العلبة، وعرضت علي الرئيس »مبارك« أن يتفضل، فأخذ واحدا منها وأشعله، وكانت ملاحظته: والله أحسن فعلا غريبة جدا!!
وقال وهو يستعيد الذكريات:
عندما كنا نتدرب في الاتحاد السوڤييتي كطيارين، كنا نشتري هذا السيجار (الذي لم يعجبك!!) ونبعث به إلي قادة السلاح، وكانوا يعتبرون ذلك فخفخة.
ثم عاودته الذكريات فقال: أيام التدريب في الاتحاد السوڤييتي كنا في قاعدة جوية قرب »خاركوف« ، وفي الإجازة ننزل إلي »موسكو« ،وكنا نخفي الورقة »أم مائة دولار« تحت الشراب بعد أن نغطيها بقطعة من ورق التواليت، (أضاف أن ورق التواليت في روسيا سميك وخشن مثل الخيش)، ثم نغيرها في السوق السوداء عن طريق موظف في مكتب الملحق العسكري بمبلغ كبير من الروبلات، ونشتري علبا من هذا السيجار ونشحنها إلي قادة السلاح في مصر. واستطرد: كان »الروبل« بالسعر الرسمي يساوي أكثر من دولار واحد، لكن السعر في السوق السوداء كان 21 روبلا
لكل دولار، فارق كبير، أضاف، »لكن الواد بتاع المكتب العسكري كان جن« .
وعاد »مبارك« فجذب نفسا من السيجار الذي قدمته له، وقال: »فعلا لك حق هذا أحسن جدا« ، ولكنهم (يقصد القادة الذين كان يرسل لهم السيجار) كانوا يعتقدون أن الاتحاد السوڤييتي يأخذ سيجار كوبا مقابل السلاح، وقلت: »ذلك صحيح إلي حد ما، لكن أفضل أنواع السيجار الذي تنتجه كوبا كانت للتصدير بالعملة الصعبة إلي الغرب، وما تبقي من الدرجة الثالثة والرابعة يذهب إلي الاتحاد السوڤييتي ويشتريه الزوار بحُسن نية.
ومد الرئيس »مبارك« يده إلي جرس، فدعي أحد الضباط، ثم التفت وقال:
»محمد« بيه ملِّي عليه كل أنواع السيجار الكويس!
وقلت ما مؤداه »أن لكل نوع من السيجار مذاقا، وأن كل مذاق مسألة اختيار، ولذلك فإنه من الصعب علي مدخن أن يوصي غيره بنوع معين« .
وقال: معلش »ملِّيه« الأنواع »الأبهة« !
وكان الضابط قد أسرع وجاء بورقة وقلم مستعدا لكي أمليه.
وعاد إلي تجربة »السيجار« الذي قدمته له، وقال:
فعلا كويس جدا.
ثم أضاف ضاحكا:
يا أخي عاوزين نتعلم »العز« .
القصة طويلة، ولكنها قبل أن تكون كاشفة عن لغة الرئيس، ربما تحمل إجابة علي السؤال: كيف وصل مبارك إلي منصبه؟ هل هي هدايا » السيجار لقادة الطيران في عهد عبد الناصر؟!
ربما..وربما كان هناك ما هو أكبر وأفخم من السيجار!

في الكتاب الثاني« هيكل يتكلم« يتضمن الحوار الطويل الذي أجراه الزميل ياسر رزق حول أوضاع مصر وأحوالها بعد ثورة يناير، كما يتضمن ردود الأفعال التي جرت في أعقاب الحوار.
يتخذ هيكل وضع الحكيم الذي يمتلك القدرة علي إدانة كل أطراف الثورة.. الذين » ارتطموا بالقدر« حسب تعبير أحمد شوقي في مسرحيته الشهيرة« مجنون ليلي« . الحوار الطويل يكشف أن هيكل يؤمن أن السياسة تصاغ في القصور لا الميادين.. وأن الثورات يصنعها »الزعماء« لا » الشعوب« . فهو هو ابن دولة الوصاية الأبوية أو هو أحد صناعها، صائغ إيديولوجيتها.. وثورة يناير في عمقها هي النقيض لدولة الوصاية الأبوية، الدولة التي تظن أنها تعرف مصلحة الشعب أكثر من الشعب نفسه، وأن من حقها أن تفكر بدلا من المواطن...ولكن لا يعترف هيكل أن دولة العسكر التي صنعها جمال عبد الناصر بانقلاب عسكري وصلت إلي درجة كبيرة من الإفلاس الفكري، وأن هذه الدولة لم يكن لها هما سوي تجريف البلد ومصادرة السياسة فيها، وأن ما وصلنا إليه لم يكن سوي نتيجة لهذه السياسات. وعندما يقف » الناصريون« في ميدان التحرير يحملون صور عبد الناصر فإنهم لا يقولون بما قاله عبد الناصر لا بتحالف قوي الشعب العامل، ولا بأن الحزبية هي سبب كل الكوارث المصرية، ولا أن التنظيم الواحد هو المنجي من المهالك. لم يعد يتبقي من » الناصرية« عندهم سوي الأغاني وبعض الشعارات، ونوع من الارتباط بفكرة الجيش أو »القلب الصلب« .
كانت » وعود« جمال عبد الناصر كثيرة، وكانت » أحلام« المواطنين تحت ولاية أيضا كبيرة..ولكن لا الوعود تحققت ولا الأحلام.. انكسرت الدولة » الأبوية« أو الدولة الأمنية مع هزيمة 67، وظلت الدولة تقاوم الرحيل طويلا..يعمل بمسكنات أحيانا، وبمحاليل ملحية أحيانا أخري..وعندما وصل الفساد فيها إلي نهاياته كانت لابد أن تسقط » الدولة« ..لتأتي دولة اخري.. ما حققته ثورة يناير لم يكتمل حتي الآن الدولة الأمنية الأبوية تمارس كل آلاعيبها من أجل البقاء..حتي ولو كلف ذلك طوابير من الضحايا بلا عدد...
في الحوار يقول هيكل أن الشباب والمجلس العسكري كلاهما ارتطم بالقدر، ولكن » العسكري« من وجهة نظره:« مثقل، فالقيود كلها عليه والمحاذير كلها أمامه، وللأمانة فإن العسكري وجد نفسه في موقف لم يكن من صنع أعضائه، ولا تم بحضورهم ورضاهم، وإنما هم وجدوا أنفسهم أمامه، ولعلهم أحسوا انهم من ضحاياه وليسوا شركاء فيه.. ».
وفي الحوار ذاته يري هيكل: أن مقولة الجيش ينبغي أن يعود إلي ثكناته تنتمي إلي القرن التاسع عشر.. أو أن يعود إلي مهامه علي الحدود ولايسأل أحد: أي حدود بالضبط؟. ويعتبر أن خروجهم من العمل الوطني السياسي نوع من الاستهتار...
يدافع هيكل إذن عن دولة يوليو الأمنية..بقوة، يريدها أن تزاحم المشهد وأن تحتله..حتي وإن لم يكن لها شرعية رغم أنه يقول في موضع آخر« الغلطة الكبري أن الجميع تصوروا أن مرحلة الانتقال وكأنها من سلطة لي سلطة وليس من دولة إلي دولة« .. هيكل يتهرب من أن يجيب علي السؤال: هل كانت ثورة يناير ضد دولة يوليو؟
عندما تنحي مبارك عن الحكم.. حمل الشباب » مقشاتهم« ... ليكنسوا شوارع ميدان التحرير، بل كل شوارع مصر. لم يكن هذا الفعل سوي رمز لكنس الماضي: هزائمه وإحباطاته، بل وانتصاراته المحدودة أيضاً.. كان يبدو أن الشباب يريد أن يدخل معمدانية يتطهر فيها، من ذلك الماضي الذي لم يحقق وعده ب » لبن العصفور في ورق سلوفان« .
لهذا لم تكن ثورة يناير مجرد ثورة ضد مبارك وحفنة من رجاله أفسدوا الحياة السياسية، بقدر ما كانت ضد »دولة يوليو« ، دولة الوصاية الأبوية، التي صادرت المجال السياسي، وخنقت مؤسسات المجتمع المدني، بل وكل المؤسسات التي يمكن أن تعارض عندما تكون قوية وتعمل في مناخ من الحرية:( الصحافة- النقابات المهنية- أساتذة الجامعات).
الثورة كانت بالأساس ضد الدولة الأبوية وأسلحتها الفاسدة: ديمقراطية زائفة، فساد سياسي ومالي وثقافي، أجهزة أمن وقمع سياسي تراقب وتلفق وتعتقل من تشاء وقتما تشاء، سلطات قضائية وتشريعية تنتظر- بجوار الهاتف- أوامرها من السلطة التنفيذية. لا نريد جنرالاً جديداً ولا فقيها يتحكم في مصائرها ويرسم لها المستقبل.. ولا أباً غيابه يعني التيه والضلال، إنها دولة تبحث عن ثقافة أخري، ومثقف لا يري نفسه ضمير الجماعة والمتحدث الرسمي باسمها.. لا تريد فرزاً علي أساس أن »الوطنية« هي أن تفكر كما نريد لك، لا تحاول أن تخرج علي » المازورة« المحددة سلفا لتصبح من هؤلاء »غير الشرفاء« . دولة، الشعب فيها هو الخط الأحمر، هوالنواة الصلبة لا السلطة ومؤسستها القمعية الحاكمة.
أستاذ هيكل هل تذكر المشهد الأخير في فيلم » زد« الذي اشرت إليه في »خريف الغضب« : هذا وقد قام العسكر أيضا بحظر إطالة الشعر و الميني جوب و حظر تولستوي و سوفوكليس ويوريبيدس والنماذج الروسية والإضرابات, الحريات النقابية و مارك توين و أرسطو و تروتسكي و يونيسكو ولوركا وسارتر وألبي وبنتر و تشيكوف و جوركي و البيتلز و أسخيلوس و أريستوفان و سقراط ونقابة المحامين و حرية الصحافة وعلم الإجتماع و بيكيت وديستويفسكي والموسيقي الشعبية والموسيقي الحديثة والرياضيات الحديثة وموسوعة بريتانيكا وحرف زد الذي يعني في اللغة اليونانية القديمة »إنه لا يزال حيا« ..هذا ما فعله الجنرالات في اليونان..وفي كل مكان حكموه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.