«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في كتابين عن لغة الرئيس.. ولغة الثورة:
جريمة هيكل
نشر في أخبار الأدب يوم 31 - 03 - 2012


»كأننا في مشهد من فيلم زد«
قال هيكل للضابط الذي جاء لإلقاء القبض عليه أثناء أزمة » خريف الغضب« قبل أسابيع من اغتيال السادات.الفيلم الذي يشير إليه هيكل يتناول حسب وصفه » إرهاب حكم الجنرالات بعد انقلابهم العسكري واستيلائهم علي السلطة في اليونان« .. فهل بدأ إرهاب الجنرالات فقط مع هذا المشهد الذي يشرح تفاصيله في كتابه عن السادات » خريف الغضب« أم أن إرهابهم بدأ قبل هذا المشهد بكثير؟
هيكل رجل يقول »كلمته ويمضي« ، حسب العبارة التي يكررها كثيرا. والرجل الذي أعلن اعتزال الكتابة منذ سنوات لم يتوقف يوما عن الحديث. ولكنه يعود هذه الأيام عبر الكتابة والحديث في كتابين. الأولي كتاب عن الماضي الذي ليس ببعيد بعنوان » مبارك وزمنه« في مجلدين صدرا في دار الشروق، والثاني عن اللحظة الحاضرة بكل اشتباكاتها وارتباكاتها والتباساتها بعنوان » هيكل يتكلم« حوار مطول أجراه معه الزميل ياسر رزق رئيس تحرير الأخبار وصدر عن مؤسسة أخبار اليوم.
في الكتابين يقول هيكل كلمته، ولكن عندما تأتي الكلمات في غير آوانها فإنها تفقد تأثيرها وأهميتها. الصمت يصبح جريمة في أوقات كثيرة. صحيح أن المجلد الثاني من » مبارك وزمنه« يؤكد أن هيكل لم يشارك في جريمة الصمت، وأنه قال كلمته الشهيرة: »سلطة شاخت في مقاعدها« أثناء أزمة نقابة الصحفيين، وأنه فضح سيناريو التوريث في محاضرة الجامعة الأمريكية. ولكن في مقابل ذلك صمت أيضا في قضايا مثل »جاسوسية« اشرف مروان، بل وبمشاركة شخصيات كبيرة ونافذة في القصر الجمهوري. أي أن كثيرا من المعلومات التي يكشف عنها هيكل لأول مرة في كتابه( تورط مبارك في عملية اغتيال المهدي في السودان أو ما اسماه عملية سلة المانجو، أو جاسوسية أشرف مروان .. أو غيره من المسئولين في مؤسسة الرئاسة) ، هذه المعلومات كان علي علم ومعرفة بها وصمت عنها في حينها، تجعل صمته جريمة!
ينشغل هيكل طوال صفحات الجزء الأول من الكتابة بمحاولة الإجابة علي السؤال: كيف حافظ مبارك علي منصبه الرئاسي طوال ثلاثين عاما؟
يحاول أن يجيب. ولكن السؤال الأهم الذي كان ينبغي ان يجيب عنه : كيف وصل مبارك بالأساس إلي منصبه؟ ليس فقط نائبا للرئيس ثم رئيسا لثلاثين عاما..وإنما بالأساس كقائد للقوات الجوية أيام جمال عبد الناصر.
يقول العسكريون أن ملف مبارك كان أثناء الخدمة بعد عام 1963 لدي المخابرات الحربية وهو إجراء يتم اتخاذه عندما يتم الشك في صاحبه، أي أن مبارك كانت تثار حوله الشكوك، وخاصة بعد أن تم اسره بواسطة القوات المغربية والفرنسية في الحرب الشهيرة بين المغرب والجزائر المسماه » حرب الرمال« وحققت معه وقتها المخابرات الفرنسية إذ كانت فرنسا وأمريكا تحاربان إلي جانب المغرب بينما انضمت مصر وكوبا وروسيا إلي الجبهة الجزائرية. ومعروف أن أسر قائد يعتبر عارا شخصيا بالنسبة له، ومعروف أيضا أن القائد الذي يتم أسره لا يتولي مناصب عليا مطلقا..فكيف وصل مبارك إلي أن يكون قائدا للقوات الجوية، بل وأن يصمد مع أربعة قادة لسلاح الطيران بعد »نكسة 1967« صدقي محمود، ومدكور أبوالعز، ومصطفي الحناوي، وعلي بغدادي، ولم يستطع أحد منهم استكمال فترته الطبيعية، وكل واحد منهم أجري تغييرات وتنقلات وبقي مبارك. الإجابة التي يقدمها هيكل في كتابه: »سمعت الفريق محمد فوزي وزير الدفاع، يقدم مبارك عند جمال عبدالناصر عندما رشحه له رئيسا للأركان في سلاح الطيران أثناء حرب الاستنزاف، وكانت شهادة الفريق محمد فوزي تزكيه لما رشح« ، أما السبب الثاني فيأتي من إجابة الفريق محمد أحمد صادق وزير الحربية »التالي لفوزي« علي سؤال لهيكل: »هل يقدر مبارك؟، فكان رد صادق لهيكل: »إنه الضابط الأكثر استعدادا في سلاح الطيران الآن بعد كل ما توالي علي قيادة السلاح من تقلبات، وأول مزايا مبارك أنه مطيع لرؤسائه ينفذ ما يطلبون، ولا يعترض علي أمر لهم« .
ليست القضية هنا هي طاعة مبارك وتنفيذه للأوامر كما يحاول هيكل أن يلمح، ولكن السؤال الأهم: هل كان نظام عبد الناصر نفسه مخترقا؟ عندما ينتقل ملف مبارك من » المخابرات الحربية« إلي قيادة الطيران.. وعندما يصبح السكرتير الأول لعبد الناصر أشرف مروان وزوج ابنته جاسوسا، وعندما تصبح المحاضر الرسمية التي كتبها السفير مراد غالب لجلسات الرئيس السادات ونظيره الروسي بيرجنيف أثناء زيارته لروسيا 1971 لدي إسرائيل، بل وكل وثائق الرئاسة المصرية تقرأها المخابرات الإسرائيلية » علي راحتها« !
لا يبدو الخلاف بين هيكل ومبارك طوال صفحات الكتاب خلافا جذريا علي الأقل في السنوات الأولي، بل كان خلافا علي اللغة التي يستخدمها كلاهما. هيكل » لورد إنجليزي« ينتقي مفرداته ويعرف الأصول، بينما مبارك سوقي تعبيراته غير منتقاه، تدل علي عدم خبرة..
صدم هيكل عندما قال له مبارك : »علي فكرة نحن كنا نتصور أنك تجلس علي حِجْر الرئيس »جمال« ، لكنه ظهر أن الرئيس »جمال« كان هو الذي يجلس علي حِجْرك« . وصدم عندما وصف الصحفيين بأنهم عالم »لبط« ..وعندما أبدي هيكل عدم معرفته بالمعني أجابه مبارك: »لا تعرف معني »لَبَطْ« هل أنت »خواجة« وشرح له: »إن الصحفيين يدَّعون أنهم يعرفون كل شيء، وأنهم »فالحين قوي« ، والأفضل أن ينكشفوا أمام الناس علي حقيقتهم، وأنهم »هجاصين« لا يعرفون شيئا« .؟!
أما حكاية السيجار..فحكاية اخري:..يرويها هيكل علي صفحات كتابه عندما سأله مبارك في حوار الست ساعات بينهما:
ألا تريد أن تدخن سيجارا أنا أعرف أنك من مدخني السيجار، وأنا مثلك.
وأبديت الدهشة، فقال إنه لا يظهر في الصور بالسيجار لكي يتجنب »القرشنة« ! لكنه يدخن سيجارا واحدا كل يوم، ثم ضغط علي جرس يطلب صندوق السيجار.
وجاء الصندوق مع أحد الضباط، وطلب »مبارك« تقديمه إلي بالإشارة، وأخذت منه سيجارا، وأخذ هو سيجارا.
ثم سألني وهو يراني أشعل عود كبريت: »سيجار كويس« ؟!!
ولم أقل شيئا، ويظهر أنه أحس أنني لا أشاركه الرأي.
وقلت: بكل احترام الحقيقة أنه مقبول.
وقال باستنكار: إيه؟! هذا »روميو وچولييت« .
وقلت: الشركة التي تنتج سيجار »روميو وچولييت« تنتج أكثر من 75 نوعا بعلامتها، وكل نوع منها مختلف عن الآخر.
وسأل »مبارك« باهتمام:أُمال إيه بقي السيجار الكويس؟
وقلت بإذنك في سيارتي علبة صغيرة فيها سيجار، ولم أدخل بها لأني لم أتصور أنك تدخن، وإذا وافقت نطلبه.
وجاءت العلبة، وعرضت علي الرئيس »مبارك« أن يتفضل، فأخذ واحدا منها وأشعله، وكانت ملاحظته: والله أحسن فعلا غريبة جدا!!
وقال وهو يستعيد الذكريات:
عندما كنا نتدرب في الاتحاد السوڤييتي كطيارين، كنا نشتري هذا السيجار (الذي لم يعجبك!!) ونبعث به إلي قادة السلاح، وكانوا يعتبرون ذلك فخفخة.
ثم عاودته الذكريات فقال: أيام التدريب في الاتحاد السوڤييتي كنا في قاعدة جوية قرب »خاركوف« ، وفي الإجازة ننزل إلي »موسكو« ،وكنا نخفي الورقة »أم مائة دولار« تحت الشراب بعد أن نغطيها بقطعة من ورق التواليت، (أضاف أن ورق التواليت في روسيا سميك وخشن مثل الخيش)، ثم نغيرها في السوق السوداء عن طريق موظف في مكتب الملحق العسكري بمبلغ كبير من الروبلات، ونشتري علبا من هذا السيجار ونشحنها إلي قادة السلاح في مصر. واستطرد: كان »الروبل« بالسعر الرسمي يساوي أكثر من دولار واحد، لكن السعر في السوق السوداء كان 21 روبلا
لكل دولار، فارق كبير، أضاف، »لكن الواد بتاع المكتب العسكري كان جن« .
وعاد »مبارك« فجذب نفسا من السيجار الذي قدمته له، وقال: »فعلا لك حق هذا أحسن جدا« ، ولكنهم (يقصد القادة الذين كان يرسل لهم السيجار) كانوا يعتقدون أن الاتحاد السوڤييتي يأخذ سيجار كوبا مقابل السلاح، وقلت: »ذلك صحيح إلي حد ما، لكن أفضل أنواع السيجار الذي تنتجه كوبا كانت للتصدير بالعملة الصعبة إلي الغرب، وما تبقي من الدرجة الثالثة والرابعة يذهب إلي الاتحاد السوڤييتي ويشتريه الزوار بحُسن نية.
ومد الرئيس »مبارك« يده إلي جرس، فدعي أحد الضباط، ثم التفت وقال:
»محمد« بيه ملِّي عليه كل أنواع السيجار الكويس!
وقلت ما مؤداه »أن لكل نوع من السيجار مذاقا، وأن كل مذاق مسألة اختيار، ولذلك فإنه من الصعب علي مدخن أن يوصي غيره بنوع معين« .
وقال: معلش »ملِّيه« الأنواع »الأبهة« !
وكان الضابط قد أسرع وجاء بورقة وقلم مستعدا لكي أمليه.
وعاد إلي تجربة »السيجار« الذي قدمته له، وقال:
فعلا كويس جدا.
ثم أضاف ضاحكا:
يا أخي عاوزين نتعلم »العز« .
القصة طويلة، ولكنها قبل أن تكون كاشفة عن لغة الرئيس، ربما تحمل إجابة علي السؤال: كيف وصل مبارك إلي منصبه؟ هل هي هدايا » السيجار لقادة الطيران في عهد عبد الناصر؟!
ربما..وربما كان هناك ما هو أكبر وأفخم من السيجار!

في الكتاب الثاني« هيكل يتكلم« يتضمن الحوار الطويل الذي أجراه الزميل ياسر رزق حول أوضاع مصر وأحوالها بعد ثورة يناير، كما يتضمن ردود الأفعال التي جرت في أعقاب الحوار.
يتخذ هيكل وضع الحكيم الذي يمتلك القدرة علي إدانة كل أطراف الثورة.. الذين » ارتطموا بالقدر« حسب تعبير أحمد شوقي في مسرحيته الشهيرة« مجنون ليلي« . الحوار الطويل يكشف أن هيكل يؤمن أن السياسة تصاغ في القصور لا الميادين.. وأن الثورات يصنعها »الزعماء« لا » الشعوب« . فهو هو ابن دولة الوصاية الأبوية أو هو أحد صناعها، صائغ إيديولوجيتها.. وثورة يناير في عمقها هي النقيض لدولة الوصاية الأبوية، الدولة التي تظن أنها تعرف مصلحة الشعب أكثر من الشعب نفسه، وأن من حقها أن تفكر بدلا من المواطن...ولكن لا يعترف هيكل أن دولة العسكر التي صنعها جمال عبد الناصر بانقلاب عسكري وصلت إلي درجة كبيرة من الإفلاس الفكري، وأن هذه الدولة لم يكن لها هما سوي تجريف البلد ومصادرة السياسة فيها، وأن ما وصلنا إليه لم يكن سوي نتيجة لهذه السياسات. وعندما يقف » الناصريون« في ميدان التحرير يحملون صور عبد الناصر فإنهم لا يقولون بما قاله عبد الناصر لا بتحالف قوي الشعب العامل، ولا بأن الحزبية هي سبب كل الكوارث المصرية، ولا أن التنظيم الواحد هو المنجي من المهالك. لم يعد يتبقي من » الناصرية« عندهم سوي الأغاني وبعض الشعارات، ونوع من الارتباط بفكرة الجيش أو »القلب الصلب« .
كانت » وعود« جمال عبد الناصر كثيرة، وكانت » أحلام« المواطنين تحت ولاية أيضا كبيرة..ولكن لا الوعود تحققت ولا الأحلام.. انكسرت الدولة » الأبوية« أو الدولة الأمنية مع هزيمة 67، وظلت الدولة تقاوم الرحيل طويلا..يعمل بمسكنات أحيانا، وبمحاليل ملحية أحيانا أخري..وعندما وصل الفساد فيها إلي نهاياته كانت لابد أن تسقط » الدولة« ..لتأتي دولة اخري.. ما حققته ثورة يناير لم يكتمل حتي الآن الدولة الأمنية الأبوية تمارس كل آلاعيبها من أجل البقاء..حتي ولو كلف ذلك طوابير من الضحايا بلا عدد...
في الحوار يقول هيكل أن الشباب والمجلس العسكري كلاهما ارتطم بالقدر، ولكن » العسكري« من وجهة نظره:« مثقل، فالقيود كلها عليه والمحاذير كلها أمامه، وللأمانة فإن العسكري وجد نفسه في موقف لم يكن من صنع أعضائه، ولا تم بحضورهم ورضاهم، وإنما هم وجدوا أنفسهم أمامه، ولعلهم أحسوا انهم من ضحاياه وليسوا شركاء فيه.. ».
وفي الحوار ذاته يري هيكل: أن مقولة الجيش ينبغي أن يعود إلي ثكناته تنتمي إلي القرن التاسع عشر.. أو أن يعود إلي مهامه علي الحدود ولايسأل أحد: أي حدود بالضبط؟. ويعتبر أن خروجهم من العمل الوطني السياسي نوع من الاستهتار...
يدافع هيكل إذن عن دولة يوليو الأمنية..بقوة، يريدها أن تزاحم المشهد وأن تحتله..حتي وإن لم يكن لها شرعية رغم أنه يقول في موضع آخر« الغلطة الكبري أن الجميع تصوروا أن مرحلة الانتقال وكأنها من سلطة لي سلطة وليس من دولة إلي دولة« .. هيكل يتهرب من أن يجيب علي السؤال: هل كانت ثورة يناير ضد دولة يوليو؟
عندما تنحي مبارك عن الحكم.. حمل الشباب » مقشاتهم« ... ليكنسوا شوارع ميدان التحرير، بل كل شوارع مصر. لم يكن هذا الفعل سوي رمز لكنس الماضي: هزائمه وإحباطاته، بل وانتصاراته المحدودة أيضاً.. كان يبدو أن الشباب يريد أن يدخل معمدانية يتطهر فيها، من ذلك الماضي الذي لم يحقق وعده ب » لبن العصفور في ورق سلوفان« .
لهذا لم تكن ثورة يناير مجرد ثورة ضد مبارك وحفنة من رجاله أفسدوا الحياة السياسية، بقدر ما كانت ضد »دولة يوليو« ، دولة الوصاية الأبوية، التي صادرت المجال السياسي، وخنقت مؤسسات المجتمع المدني، بل وكل المؤسسات التي يمكن أن تعارض عندما تكون قوية وتعمل في مناخ من الحرية:( الصحافة- النقابات المهنية- أساتذة الجامعات).
الثورة كانت بالأساس ضد الدولة الأبوية وأسلحتها الفاسدة: ديمقراطية زائفة، فساد سياسي ومالي وثقافي، أجهزة أمن وقمع سياسي تراقب وتلفق وتعتقل من تشاء وقتما تشاء، سلطات قضائية وتشريعية تنتظر- بجوار الهاتف- أوامرها من السلطة التنفيذية. لا نريد جنرالاً جديداً ولا فقيها يتحكم في مصائرها ويرسم لها المستقبل.. ولا أباً غيابه يعني التيه والضلال، إنها دولة تبحث عن ثقافة أخري، ومثقف لا يري نفسه ضمير الجماعة والمتحدث الرسمي باسمها.. لا تريد فرزاً علي أساس أن »الوطنية« هي أن تفكر كما نريد لك، لا تحاول أن تخرج علي » المازورة« المحددة سلفا لتصبح من هؤلاء »غير الشرفاء« . دولة، الشعب فيها هو الخط الأحمر، هوالنواة الصلبة لا السلطة ومؤسستها القمعية الحاكمة.
أستاذ هيكل هل تذكر المشهد الأخير في فيلم » زد« الذي اشرت إليه في »خريف الغضب« : هذا وقد قام العسكر أيضا بحظر إطالة الشعر و الميني جوب و حظر تولستوي و سوفوكليس ويوريبيدس والنماذج الروسية والإضرابات, الحريات النقابية و مارك توين و أرسطو و تروتسكي و يونيسكو ولوركا وسارتر وألبي وبنتر و تشيكوف و جوركي و البيتلز و أسخيلوس و أريستوفان و سقراط ونقابة المحامين و حرية الصحافة وعلم الإجتماع و بيكيت وديستويفسكي والموسيقي الشعبية والموسيقي الحديثة والرياضيات الحديثة وموسوعة بريتانيكا وحرف زد الذي يعني في اللغة اليونانية القديمة »إنه لا يزال حيا« ..هذا ما فعله الجنرالات في اليونان..وفي كل مكان حكموه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.