بكل تأكيد حماس هي السبب فيما يجري الآن في غزة من قتل وتدمير يقوم به الجيش الإسرائيلي، هذه حقيقة لا يماري فيها إلا مماحك، ولكن السؤال هو: هل تتحمل حماس مسؤولية ما يحدث؟ هناك فرق بين السببية والمباشرة، كون أن حماس والمقاومة التي تبديها غزة هي السبب في شراسة الهجوم الإسرائيلي لا يعني بالضرورة أنها تتحمل مسؤولية ما يجري لها، هذه بديهية عقلية قبل أن تكون مبدأً قانونيًّا وأخلاقيًّا أساسيًّا، وهي تندرج تحت قاعدة: المباشرة تقضي على أثر التسبب.
من يباشر القتل والتدمير هو من يتحمل المسؤولية الكاملة عن جرائمه، ولا تتحمل الضحية أي مسؤولية أخلاقية أو قانونية. وكمثال توضيحي على هذا المبدأ: هل يتحمل المتظاهرون الذين خرجوا في ثورة ليبيا؛ قتلهم وجرحهم الذي باشرته أجهزة الأمن والمرتزقة؟ هم تسببوا بتظاهرهم في مقتل وجرح عدد منهم، فهل يتحملون مسؤولية ما جرى؟ بلا شك أنهم لا يتحملون أي مسؤولية، ومن يتحملها هو من باشر قتلهم وجرحهم، فهم مارسوا حقًّا من حقوقهم المشروعة، والذي واجههم هو المتحمل للمسؤولية كاملةً عن قتلهم وجرحهم.
التبعات القانونية يتحملها الفاعل المباشر للفعل الجرمي، ولا ينظر هنا هل الضحية بسبب طبيعتها أو قيامها بفعل مشروع تسببت بحصول الجريمة، فالتسبب ليس جريمة، وإنما مباشرة الفعل الجرمي أو التحريض عليه أو تبريره هو الجريمة بذاته ونوعه، والقبول بفكرة تحميل الضحية المسؤولية فكرة خطير تهدد قيمة العدالة في المجتمعات، سيصبح المقتول والمسروق والمغتصب مجرمًا؛ لأنه تسبب بشكل أو بآخر في وقوع الجريمة.
لا شكّ أن اسرائيل حريصة على تدمير حماس والمقاومة والقضاء عليها قضاءً مبرمًا، وفي المقابل فإنّ المقاومة تعدّ ما باستطاعتها لمواجهة الجيش الاسرائيلي، وهذا سبب رئيس وأساسي لنشوب الحرب. فإسرائيل لا تريد وجودًا لمقاومة فلسطينية تواجهها وتهددها، فكون أنّ المقاومة سببٌ في نشوب الحروب لا يحملها مسؤولية التضحيات التي يبذلها الشعب الفلسطيني، من يتحمل الوزر والمسؤولية هي إسرائيل المحتلة الغاصبة لأرض فلسطين، السافكة لدماء الشعب الفلسطيني.
2
هل المقاومة فعل مشروع؟ هل تستحق بذل كل هذه التضحيات؟ هذه الأسئلة التي ينبغي إجابتها عند من حمّل حماس مسؤولية العدوان على غزة، فإن كانت المقاومة فعلًا مشروعًا وتستحق بذل هذه التضحيات فلا يمكن تحميلها مسؤولية العدوان؛ لأنها تمارس حقًّا طبيعيًّا وتقوم بواجب وتضحّي في سبيل ذلك، وهذه التضحيات لا مفر ولا مهرب منها. وقد قدمت الشعوب في تاريخها الكثير من التضحيات في سبيل التحرر من الاحتلال والاستبداد، أما من يعيش حالة “دياثة” ولا يعرف شرف المقاومة والجهاد، وأجاب بأن المقاومة ليست فعلًا مشروعًا أو أنها ليست حقًّا للشعوب تحت الاحتلال، فلا شك أنه سيبني على هذه المقدمة تحميلًا لحماس والمقاومة وزر ومسؤولية الخسائر البشرية والمادية في غزة؛ وقد يصل به الحال إلى اعتبارها معتدية على إسرائيل وأنّ الأخيرة في موقف الدفاع عن نفسها من صواريخ حماس “العبثية”. وهذا مشكلته ليس في الموقف، وإنما في المنطلقات التي أسس عليها موقفه من العدوان على غزة؛ وهي ذات المنطلقات التي برر العملاء والخونة بها مواقفهم في أحلك الظروف التي مرّت بها بلدانهم تحت الاحتلال، وهم في كل المجتمعات محل للاحتقار.
3
حين وقف المقاوم للاحتلال الفرنسي لسوريا المناضل إبراهيم هنانو أمام محكمة الاحتلال، طلب المدعي الفرنسي الحكم عليه بالإعدام، وقال: “لو أن لهنانو سبع رؤوس لطالبت بقطعها كلها”. لكن المحكمة الفرنسية لم تستمع للمدعي العام الفرنسي واعتبرت هنانو يمارس حقه الطبيعي في مقاومة الاحتلال الفرنسي لبلاده، وحكمت ببراءته لأنها لا تستطيع أن تجرم فعله في المقاومة والنضال، وبعد الحكم بالبراءة حاول إبراهيم هنانو الوصول إلى القاضي لشكره، لكن القاضي اعتذر وقال: “أنا لا أصافح رجلًا تلوثت يداه بدماء الفرنسيين، عند الحكم كنت على منصة القضاء، أما الآن فأنا مواطن فرنسي”.
فكرة المقاومة عند كل الشعوب ترتقي لمقام القدسية؛ فهي حق أصيل، وكل الشعوب التي تعرضت للاحتلال بما فيها شعوب أوروبا -التي تعرض بعضها للاحتلال النازي- ما زالت تتغنى بأمجادها في مقاومته، بل وتحترم جيوش الاحتلال حق الشعوب في مقاومتها، فكيف يستكثر على الشعب الفلسطيني مقاومة جيش وكيان غاصب ليس غرضه احتلال الأرض فحسب، بل إحلال شعب مكان شعب، وتهجير عرقي للعرب من أرضهم التاريخية، وممارسة حصار خانق عليهم وشن الحروب والعمليات العسكرية والأمنية ضدهم بصورة مستمرة لا تتوقف، بل لا أولى بالجهاد والمقاومة من الشعب الفلسطيني الذي يعاني كل هذا.
4
من يحمّل حماس مسؤولية العدوان على غزة يعتبرها هي المعتدية، وقبل البحث في التسلسل الزمني للأحداث، أطرح هذا السؤال: هل يمكن أن تكون حماس والمقاومة الفلسطينية يومًا ما هي المعتدية؟
بداهةً، إنّ المقاومة الفلسطينية لم ولن تكون المعتدية في أي حرب بينها وبين إسرائيل، لسبب واضح؛ أنّ فلسطين تحت الاحتلال، فكل مقاومة للاحتلال هي رد لعدوان مستمر على الشعب الفلسطيني. هب أن المقاومة الفلسطينية هي التي بادرت بإطلاق الصواريخ وأسرت جنودًا إسرائيليين، فإن فعلها هذا لا يعد اعتداءً بأي حالٍ من الأحوال، فكيف إذا كان تسلسل الأحداث يثبت أن الاعتداء إسرائيلي حتى بمفهوم من لا يرى حقًّا للشعب الفلسطيني في الجهاد والمقاومة.
قُتل ثلاثة مستوطنين في الضفة الغربية، في مكان ليس لحماس فيه سلطة أو سلاح أو أنفاق، وقد أنكرت حماس بعد الحادث أي دور لها في عملية الأسر والقتل، ومع ذلك بادرت إسرائيل إلى شن حرب على غزة، وقصفت ودمرت البنية التحتية وقتلت المئات وتحاول اجتياحها بريًّا، فهل يمكن بعد فهم هذا التسلسل الزمني للأحداث تحميل حماس أيّ مسؤولية؟
أتفهم الانحياز اللاأخلاقي للغرب إلى إسرائيل ولا أبرره؛ لأنه حتى بقيمهم وثقافتهم يحق لغزة أن تقاوم، لكن العجب أن نجد ألسنة عربية تبرر الحرب على غزة، وتحمل حماس كامل المسؤولية، ولا يمكن وصفها بغير الخيانة لدينها وأمتها.