ليلة الرعد والأمطار.. توجيهات عاجلة لمحافظ الإسكندرية    بعد انخفاضه.. سعر الذهب اليوم السبت 31-5-2025 وعيار 21 الآن بالصاغة    مواعيد مباريات اليوم السبت 31 مايو 2025 والقنوات الناقلة    رابطة الأندية: انسحاب الأهلي من القمة ليس انتهاكا للوائح    اليوم.. الأهلي يخوض مرانه الأول تحت قيادة ريفيرو    بعد العاصفة التي ضرب المحافظة.. «صرف الإسكندرية» تعلن إجراءات التصدي للأمطار    الجوازات السعودية: وصول 1,330,845 حاجا من الخارج عبر جميع منافذ المملكة    أول تعليق من نقيب الزراعيين عن مزاعم غش عسل النحل المصري    رغم تعديل الطرق الصوفية لموعده...انطلاق الاحتفالات الشعبية بمولد «الشاذلي» والليلة الختامية يوم «عرفة»    ترقب في الأسواق| توقعات بزيادة محدودة.. هل يعود «الأوفر برايس»؟    أخصائية نفسية: طلاب الثانوية العامة قد يلجأون للانتحار بسبب الضغط النفسي    نتيجة الصف الرابع الابتدائي 2025 بالشرقية وخطوات الاستعلام برقم الجلوس (الموعد و الرابط)    اليوم.. انطلاق امتحانات الشهادة الإعدادية بمحافظة القليوبية    ال 7 وصايا| الصيانة الدورية وتخفيف الحمولة.. أهم طرق ترشيد استهلاك وقود السيارة    400 مليون جنيه..الأهلي يتلقى إغراءات ل بيع إمام عاشور .. إعلامي يكشف    «التاريخ الإجرامي» سفر يؤرخ لقصة التناقض البشري بين الجريمة والإبداع    إسرائيل تمنع دخول وزراء خارجية عرب لعقد اجتماع في رام الله    تأخير موعد امتحانات الشهادة الإعدادية بالإسكندرية بسبب العاصفة والأمطار الرعدية    قوات الاحتلال تنفذ عمليات نسف شمالي قطاع غزة    عاصفة الإسكندرية.. انهيار أجزاء خارجية من عقار في سبورتنج وتحطم سيارتين    اليوم.. أولى جلسات محاكمة مدربة أسود سيرك طنطا في واقعة النمر    6 طرق للحفاظ على صحة العمود الفقري وتقوية الظهر    «نريد لقب الأبطال».. تصريحات نارية من لاعبي بيراميدز بعد فقدان الدوري المصري    ترامب يعلن عزمه مضاعفة تعرفة واردات الصلب إلى 50%    وزير الدفاع الإسرائيلي: لن نمنح الحصانة لأحد وسنرد على أي تهديد    ترامب يكشف موعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة    النائب أحمد السجيني يحذر من سيناريوهين للإيجار القديم: المادة 7 قد تكون الحل السحري    ب62 جنيه شهريًا.. أسعار الغاز الطبيعي اليوم وتكلفة توصيله للمنازل (تفاصيل)    «تنسيق الجامعات 2025»: 12 جامعة أهلية جديدة تنتظر قبول الدفعة الأولى    النيابة تستعجل تحريات واقعة مقتل شاب في الإسكندرية    ماس كهربائي يتسبب في نشوب حريق بمنزلين في سوهاج    جدل بين أولياء الأمور حول «البوكليت التعليمى»    بعد تلميحه بالرحيل، قصة تلقي إمام عاشور عرضا ب400 مليون جنيه (فيديو)    أحمد حلمي ومنى زكي وعمرو يوسف وكندة علوش في زفاف أمينة خليل.. صور جديدة    «متقوليش هاردلك».. عمرو أديب يوجه رسائل خاصة ل أحمد شوبير    «القاهرة للسينما الفرانكوفونية» يختتم فعاليات دورته الخامسة    أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة.. ردده الآن للزوج والأبناء وللمتوفي ولزيادة الرزق    «سأصنع التاريخ في باريس».. تصريحات مثيرة من إنريكي قبل نهائي دوري الأبطال    على معلول يودّع الأهلي برسالة مؤثرة للجماهير: كنتم وطن ودفء وأمل لا يخيب    محافظة قنا: الالتزام بالإجراءات الوقائية في التعامل مع حالة ولادة لمصابة بالإيدز    لا تتركها برا الثلاجة.. استشاري تغذية يحذر من مخاطر إعادة تجميد اللحوم    موعد أذان فجر السبت 4 من ذي الحجة 2025.. ودعاء في جوف الليل    لا تضيع فضلها.. أهم 7 أعمال خلال العشرة الأوائل من ذي الحجة    الجماع بين الزوجين في العشر الأوائل من ذي الحجة .. هل يجوز؟ الإفتاء تحسم الجدل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 31-5-2025 في محافظة قنا    مدير «جي إس إم» للدراسات: فرص نجاح جولة المباحثات الروسية الأوكرانية المقبلة صفرية    تغييرات مفاجئة تعكر صفو توازنك.. حظ برج الدلو اليوم 31 مايو    «قنا» تتجاوز المستهدف من توريد القمح عن الموسم السابق ب 227990 طنًا    عاجل|أردوغان يجدد التزام تركيا بالسلام: جهود متواصلة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    «المصري اليوم» تكشف القصة الكاملة للأزمة: زيادة الصادرات وراء محاولات التأثير على صناعة عسل النحل    شريف عبد الفضيل يحكى قصة فيلا الرحاب وانتقاله من الإسماعيلي للأهلى    بدء تصوير "دافنينه سوا" ل محمد ممدوح وطه الدسوقي في هذا الموعد    سعر الذهب اليوم السبت 31 مايو محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. ترامب: سنعلن تفاصيل اتفاق غزة اليوم أو غدا.. إحباط هجوم إرهابى فى روسيا.. وصول مليون و330 ألف حاج للسعودية.. سقوط قتلى فى فيضانات تضرب نيجيريا    وزير التعليم يبحث مع «جوجل» تعزيز دمج التكنولوجيا في تطوير المنظومة التعليمية    تطرق أبواب السياسة بثقة :عصر ذهبى لتمكين المرأة فى مصر.. والدولة تفتح أبواب القيادة أمام النساء    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    الأعلى للجامعات: فتح باب القبول بالدراسات العليا لضباط القوات المسلحة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"همس النوارس" .. وليالي الغربة البديلة
نشر في صوت البلد يوم 09 - 07 - 2017

تطرق الكاتبة السودانية نعمات حمود في روايتها الأولي "همس النوارس" عالم الاغتراب والمغتربين، محملة بمضامين اجتماعية ورسائل إنسانية، أرادت أن تبوح بها عبر هذا الهمس الذي يضج بالأنين والشجن، همس ناعم عن الغربة، وعن الإنسان الذي يعاني ما يعاني ويواجه ما يواجه، لكنه يظل ابنًا وفيًا لبيئته، وللنشأة الأولى التي حفرت في الذاكرة، ورغم ذلك يستطيع بعزيمته أن يطوع المستحيلات.
بنية السرد
بنية السرد في رواية "همس النوارس" بنية وصفية، سهلة ومباشرة، تحوي القليل من الرمزية التي تسعى لاستلهام الدلالة من وراء الألفاظ والمعاني الغامضة المتناثرة بين الشخصيات وأفعالها وتصرفاتها، كما يمتزج النسيج الفني في "همس النوارس" بغرائب وسمات اجتماعية متعددة، يحملها البشر معهم من بيئاتهم الثقافية والاجتماعية إلي أمكنة الاغتراب الجديدة في (دبي) .. حيث العمل والسكن في أروقتها، كما كان الحال في فنادق القاهرة والإسكندرية في روايات نجيب محفوظ، بل إن الغموض الكاشف والتقسيم الدال للأشخاص والحديث عنهم يستدعي في وميض خاطف أسلوب كتابة "ميرمار"، حتي نكاد نظن أن الأمر سوف يسير على هذه الوتيرة، ولكن لا .. هذا لأن "همس النوارس" عمل روائي يتضمن مفردات مثل تلك التي نراها في أعمال روائية معروفة مثل "الطريق المسدود" لإحسان عبدالقدوس، أستاذ الأجيال في فن كتابة القصة الاجتماعية التي تخترق العوالم المغلقة، أو الرحلة في رواية "موسم الهجرة إلي الشمال" للطيب صالح، أو الجد "الأسد" المسيطر على كل من حوله، الذي يذكرك بالسيد أحمد عبدالجواد لدي محفوظ.
ورغم أن كل تلك المفردات تستدعي للذاكرة صورا بعينها، فإننا نجد أن التشابه أو التناص يقف عند هذه العتبة الفنية ولا يتجاوزها، وأعتقد أن الكاتبة نعمات حمود قصدت تلك اللمحات الخاطفة لكي تعطي روايتها وأسلوبها الخاص شيئا من الزخرفة والحيوية التي لا غني عنها للقارئ حتى يكمل ما بدأته الكاتبة من قص، وهذا في ظني يشي بأمرين مهمين من زاوية الناقد الأول: أن القاصة ذات إطلاع وثقافة لغوية وأسلوبية عميقة، وسواء عندي أكانت مكتسبة أو أصيلة أو أن تكون موهبة تلقائية، فذلك أمر لا يحسمه الجدل حول هذه الرواية بل متابعتها في أعمال إبداعية أخرى قد تكون كاشفة؟
والأمر الثاني: أن الكاتبة تمتلك موهبة حقيقية في وضع الحكي أو القص في قالب روائي لطيف وليس خشنا، على الرغم من أن العمل يسرد تفاصيل مازالت حية وتجارب شخصية جدا، الأمر الذي يلفت الانتباه إلى قدرة فنية ومهارة واضحة في الصياغة والتعبير، قلما تجدهما في التجارب الإبداعية الأولى، فقد تخلصت الكاتبة إلى نحو الثلثين من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها معظم الأدباء الشباب مثل التكرار، المباشرة، الشطط، والتفرعات الزائدة ... الخ.
وهذان الأمران يشكلان إلى حد بعيد الروح السائدة في هذا العمل الروائي، وهما لا يصدران إلا عن تجربة متنامية قابلة للاستخدام والتأكيد؟
النورس / رفيق الغربة
نعود إلي "همس النوارس" .. والنورس طائر عادة ما يصدر أصواتا تتجاوز أصداؤها الفضاء، يعيش بين البحر والبر والميناء .. ويظهر أن الكاتبة قصدت ذلك الطائر بالتحديد، بعدما أودعت نفسها داخل الطائرة التي تقلها إلي دبي "درة الخليج"، وكأنها تريد أن تتبع مسار الطيور المهاجرة والمحلية، وهي ترتحل حاملة حقيبتها المحشوة برائحة موطنها "السودان" إلى هناك، مسافرة لأول مرة في حياتها إلى سوق العمل، فتاة من أصل وفصل عريق، تربت بالقرب من ميناء بور سودان الذي أنشأه الاحتلال الانجليزي أبان حقبة الاستعمار، وبذلك ترسم لنا معالم الجو القصصي أو ملامح العالم الخيالي الذي يتماس مع الواقع الافتراضي لتلك المنطقة الجغرافية التي جاءت منها بطلة القصة.
وها نحن نلاقي المراكب النيلية والوابورات والبنطون جوارحي ومشرع البقاري، ثم تدخلنا بكل سلاسة إلى عالم نعمات حمود، فيصح لك الوقوف للحظات عند أبطالها الثانويين الذين يفتحون الطريق للبطلة الرئيسية الساردة / العالمة، حيث يقوم التمهيد القصصي بدوره بداية من عبارات الغزل والمجاملة – ست الناس، بت سيدي، الملكة – حتى تأثر الجد بالمستعمر الانجليزي في الفخامة واستخدام الطوب الأحمر والتربية والعادات، وهو الأمر الذي سيكون حاضرا في ذهن المتلقي حين يلم بكل تفاصيل الرواية، فما من هدف وراء العمل الإبداعي بتفاصيله المتعددة سوى الإمتاع والمؤانسة.
شفرة النص
يجدر بنا هنا أن نتوقف قليلا عند ما يمكن أن نسميه ب "رموز وشفرات" النص والتي تصطنعها الكاتبة في صبر وتؤده، وبالتحديد ذلك الرابط أو الحبل السري الذي تريده الكاتبة من همسات النوارس، حتي تنتهي من تشكيل الخيوط العامة إلى الخاصة بداية من العنوان الفرعي – زواج كعكية، ثم زواج الرحمة (ص 20)، كما أنها تغير الاسم من "سرة" إلى "سارة"، حينئذ ندرك أن التغير والتبدل رمز للمستقبل، فضلا عن توظيف الرؤية الحديثة التي أخذت الشابة سارة إيقاعاتها من الرموز المحيطة بها وحولتها لصالحها، وهي تجري لتصل إلى تحقيق ذاتها وقدرها في الدنيا.
تتجه الكاتبة، بعد ذلك، ساردة بشغف وعفوية ما وعته وحفظته ذاكرة البطلة عن أشكال وصور الشر لدى الآخرين، وهو ما أعطاها جرس إنذار مبكر تستخدمه في المواقف التي تتطلب منها ذلك، ولما كان قرار السفر والعمل في الخارج ليس سهلا لرجل .. فما بالنا بالنساء؟
ومن دون شك فإن الشكل التقليدي للرواية الواقعية تلك التي تتوافق مع مجتمعاتنا الشرقية ليس له محل هنا، فالتغير الاجتماعي الذي حل بالمجتمعات العربية بعد تدفق أموال النفط وانتقال مراكز العمل والأسواق إلى أطرافها، مما جعلها تنهض وتصوغ قوانينها الاستثمارية (أكثر من مئتي جنسية مختلفة .. ص 54)، هذه اللحظات الحضارية لم تجد أحدا يسجلها اجتماعيا ولا مسها اقتصاديا وسياسيا، وبالتالي فإن نعمات حمود خلصت إلى تجربتها الروائية، مركزة أو جاعلة محور فكرتها انطلاقا من مجتمع العاملات والموظفات الآتيات من بلدانهن مثلهن مثل الرجال، يحاولن تكوين أنفسهن للزواج وبناء أسرة ... عازبات تماما، لهن أخلاق معقولة، ولسن بخلفيات منحلة أو ضائعة، ولا يصح لهن ذلك .. متغيرات تبعا لديناميكية المجتمعات التي تحتضن هذا النوع من العمالة، وتسمح قوانينها بحرية الحركة والعمل، ليست انغلاقية بصورة تامة.
على هذا النحو إذن يتضح الهدف من عملية نقل أو تصوير مجتمع العاملات في الرواية، واللاتي يسكن مع بعضهن البعض. من تعول أطفال، ومن لازالت تبحث عن زوج، ومن تصدق أن نصيبها سيأتيها في غربتها تلك، والكاتبة في ذلك الرصد تحاول قدر الإمكان تجهيل الأسماء وتنكيرها ليس بغرض الاحتقار أو التهميش بقدر ما في طباعها وثقافتها التقليدية من حرمة للحياة الخاصة، وهو ما يدفعنا إلى الشك في مدى خيالية تلك الأحداث، بل والاعتقاد بأن بعض التفاصيل الواردة في الرواية هي وقائع شهدتها الكاتبة أو عاصرتها، وتعرف بالقطع من تتحدث عنهم / أو عنهن من شخوص روايتها، وبالتالي يبدو أن إغفال ذكر الأسماء لم يكن خيارا حصيفا، إذ أن إعطاء أسماء بديلة ليس سترا علي الدوام! بل ربما يكون كشفا يتجاوز منظومة التضاد والثنائيات.
ذروة الحكي
وتتصاعد ذروة الحكي وبنيته الدرامية كلما وجهت الساردة بصرها بعيدا عن ذاتها، فهناك مثلا شخصيات قهرتها ظروف بلدانها، وجاءت إلى دبي للعمل بلا محرم ولا رعاية، نساء مكافحات، بعضهن عطلا من الأنوثة أصلا، أو أخريات لسن جاذبات للأعين أو الشهوات، وطريقتهن لا تسمح بذلك النوع من العلاقات، إنهن يضربن كل ثوابت القصص الدرامية المؤلفة والخيالية، وذلك لأن الموضوع في دنيا الواقع يختلف بشدة، فكل واحدة منهن (بنت ناس ص 68)، تاهت بعضهن، وضلت أخريات .. لكن هناك من ارتقين وأثبتن أنفسهن، بالعمل والسعي دون حامي أو راعي.
وقد لا ينظر البعض لذلك الأمر بأنه شيء مهم أو جيد دراميا، ولكن الكاتبة تمجده عبر رضا بطلتها سارة عن نفسها، وإيمانها بمستقبلها وبما أحدثته من تحولات فيه، أغناها عن أن تكون في علاقة زوجية غير منصفة، أو سيدة الدار التي طلقت بعد عشرين عاما من العشرة بلا مبرر معقول، إذن فالحرية والتفرد والمبادرة وتجربة الخروج إلى سوق العمل ليست تمردا على الأخلاق والأعراف بقدر ما هي تجربة صمود لذلك الموروث الثقافي والأخلاقي عند التجربة الحية، والاحتكاك الفعلي وبيان مدى فعاليته حقا وصدقا، فالمبادئ لا قيمة لها إلا حين تختبر ويؤمن بها الآخرون، بل ويتخذونها عملا ومنهاجا في حياتهم الخاصة، ومرشدا في الملمات من الشدائد.
المهم أن الكاتبة نعمات حمود عملت على بلورة هذا الطرح معلية من قيمة أخلاق الفرد في مقابل نظام القطيع ومشكلات الحياة اليومية الصعبة، فأطاحت بهدوء بكل تفاهات الموروثات وقيودها من أول فكرة الطهارة والختان إلى الرجل ناقص الرجولة في أفعاله وتصرفاته سواء ما عاصرته في عملها أو ما شهدته في بداياتها، وحتى فكرة العدل والحرص عليه بين النساء، وكيف أنها قبلت ذلك دون تعقيب جارح فاضح على أساس نسبية كل ذلك، فإذا كان الواقع يتحمل هذه المرونة ... فعلام التشدد إذن؟ بل وكيف يستقيم ذلك في أمور ولا يكون في أمور مثلها، تلك كانت تجربة منفى عمل اختياري ورحيل إلى مرافئ بعيدة، فيها قوانين جديدة قد لا تكون ممتازة ولا مثالية، ولكنها أكثر مرونة وتسمح بالعيش، وتعد بإعطاء الفرصة لو أحسنتم القياس، وفرد الأجنحة للطيران بحرية الشراعي المنزلق على سطح الماء..؟!
إنها همسة في آذاننا من لون "نعمات حمود" الروائية الصاعدة، والتي تهوى الخط القصير المنمق والأبيض الممزوج بالأسود، همسة يأتي بها طائر أبيض شفاف بمنقار معقوف يدعى النورس صديق البحار ومستوطن كل ميناء يعرج إليه الرحالة ... وما أكثرهم.
تطرق الكاتبة السودانية نعمات حمود في روايتها الأولي "همس النوارس" عالم الاغتراب والمغتربين، محملة بمضامين اجتماعية ورسائل إنسانية، أرادت أن تبوح بها عبر هذا الهمس الذي يضج بالأنين والشجن، همس ناعم عن الغربة، وعن الإنسان الذي يعاني ما يعاني ويواجه ما يواجه، لكنه يظل ابنًا وفيًا لبيئته، وللنشأة الأولى التي حفرت في الذاكرة، ورغم ذلك يستطيع بعزيمته أن يطوع المستحيلات.
بنية السرد
بنية السرد في رواية "همس النوارس" بنية وصفية، سهلة ومباشرة، تحوي القليل من الرمزية التي تسعى لاستلهام الدلالة من وراء الألفاظ والمعاني الغامضة المتناثرة بين الشخصيات وأفعالها وتصرفاتها، كما يمتزج النسيج الفني في "همس النوارس" بغرائب وسمات اجتماعية متعددة، يحملها البشر معهم من بيئاتهم الثقافية والاجتماعية إلي أمكنة الاغتراب الجديدة في (دبي) .. حيث العمل والسكن في أروقتها، كما كان الحال في فنادق القاهرة والإسكندرية في روايات نجيب محفوظ، بل إن الغموض الكاشف والتقسيم الدال للأشخاص والحديث عنهم يستدعي في وميض خاطف أسلوب كتابة "ميرمار"، حتي نكاد نظن أن الأمر سوف يسير على هذه الوتيرة، ولكن لا .. هذا لأن "همس النوارس" عمل روائي يتضمن مفردات مثل تلك التي نراها في أعمال روائية معروفة مثل "الطريق المسدود" لإحسان عبدالقدوس، أستاذ الأجيال في فن كتابة القصة الاجتماعية التي تخترق العوالم المغلقة، أو الرحلة في رواية "موسم الهجرة إلي الشمال" للطيب صالح، أو الجد "الأسد" المسيطر على كل من حوله، الذي يذكرك بالسيد أحمد عبدالجواد لدي محفوظ.
ورغم أن كل تلك المفردات تستدعي للذاكرة صورا بعينها، فإننا نجد أن التشابه أو التناص يقف عند هذه العتبة الفنية ولا يتجاوزها، وأعتقد أن الكاتبة نعمات حمود قصدت تلك اللمحات الخاطفة لكي تعطي روايتها وأسلوبها الخاص شيئا من الزخرفة والحيوية التي لا غني عنها للقارئ حتى يكمل ما بدأته الكاتبة من قص، وهذا في ظني يشي بأمرين مهمين من زاوية الناقد الأول: أن القاصة ذات إطلاع وثقافة لغوية وأسلوبية عميقة، وسواء عندي أكانت مكتسبة أو أصيلة أو أن تكون موهبة تلقائية، فذلك أمر لا يحسمه الجدل حول هذه الرواية بل متابعتها في أعمال إبداعية أخرى قد تكون كاشفة؟
والأمر الثاني: أن الكاتبة تمتلك موهبة حقيقية في وضع الحكي أو القص في قالب روائي لطيف وليس خشنا، على الرغم من أن العمل يسرد تفاصيل مازالت حية وتجارب شخصية جدا، الأمر الذي يلفت الانتباه إلى قدرة فنية ومهارة واضحة في الصياغة والتعبير، قلما تجدهما في التجارب الإبداعية الأولى، فقد تخلصت الكاتبة إلى نحو الثلثين من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها معظم الأدباء الشباب مثل التكرار، المباشرة، الشطط، والتفرعات الزائدة ... الخ.
وهذان الأمران يشكلان إلى حد بعيد الروح السائدة في هذا العمل الروائي، وهما لا يصدران إلا عن تجربة متنامية قابلة للاستخدام والتأكيد؟
النورس / رفيق الغربة
نعود إلي "همس النوارس" .. والنورس طائر عادة ما يصدر أصواتا تتجاوز أصداؤها الفضاء، يعيش بين البحر والبر والميناء .. ويظهر أن الكاتبة قصدت ذلك الطائر بالتحديد، بعدما أودعت نفسها داخل الطائرة التي تقلها إلي دبي "درة الخليج"، وكأنها تريد أن تتبع مسار الطيور المهاجرة والمحلية، وهي ترتحل حاملة حقيبتها المحشوة برائحة موطنها "السودان" إلى هناك، مسافرة لأول مرة في حياتها إلى سوق العمل، فتاة من أصل وفصل عريق، تربت بالقرب من ميناء بور سودان الذي أنشأه الاحتلال الانجليزي أبان حقبة الاستعمار، وبذلك ترسم لنا معالم الجو القصصي أو ملامح العالم الخيالي الذي يتماس مع الواقع الافتراضي لتلك المنطقة الجغرافية التي جاءت منها بطلة القصة.
وها نحن نلاقي المراكب النيلية والوابورات والبنطون جوارحي ومشرع البقاري، ثم تدخلنا بكل سلاسة إلى عالم نعمات حمود، فيصح لك الوقوف للحظات عند أبطالها الثانويين الذين يفتحون الطريق للبطلة الرئيسية الساردة / العالمة، حيث يقوم التمهيد القصصي بدوره بداية من عبارات الغزل والمجاملة – ست الناس، بت سيدي، الملكة – حتى تأثر الجد بالمستعمر الانجليزي في الفخامة واستخدام الطوب الأحمر والتربية والعادات، وهو الأمر الذي سيكون حاضرا في ذهن المتلقي حين يلم بكل تفاصيل الرواية، فما من هدف وراء العمل الإبداعي بتفاصيله المتعددة سوى الإمتاع والمؤانسة.
شفرة النص
يجدر بنا هنا أن نتوقف قليلا عند ما يمكن أن نسميه ب "رموز وشفرات" النص والتي تصطنعها الكاتبة في صبر وتؤده، وبالتحديد ذلك الرابط أو الحبل السري الذي تريده الكاتبة من همسات النوارس، حتي تنتهي من تشكيل الخيوط العامة إلى الخاصة بداية من العنوان الفرعي – زواج كعكية، ثم زواج الرحمة (ص 20)، كما أنها تغير الاسم من "سرة" إلى "سارة"، حينئذ ندرك أن التغير والتبدل رمز للمستقبل، فضلا عن توظيف الرؤية الحديثة التي أخذت الشابة سارة إيقاعاتها من الرموز المحيطة بها وحولتها لصالحها، وهي تجري لتصل إلى تحقيق ذاتها وقدرها في الدنيا.
تتجه الكاتبة، بعد ذلك، ساردة بشغف وعفوية ما وعته وحفظته ذاكرة البطلة عن أشكال وصور الشر لدى الآخرين، وهو ما أعطاها جرس إنذار مبكر تستخدمه في المواقف التي تتطلب منها ذلك، ولما كان قرار السفر والعمل في الخارج ليس سهلا لرجل .. فما بالنا بالنساء؟
ومن دون شك فإن الشكل التقليدي للرواية الواقعية تلك التي تتوافق مع مجتمعاتنا الشرقية ليس له محل هنا، فالتغير الاجتماعي الذي حل بالمجتمعات العربية بعد تدفق أموال النفط وانتقال مراكز العمل والأسواق إلى أطرافها، مما جعلها تنهض وتصوغ قوانينها الاستثمارية (أكثر من مئتي جنسية مختلفة .. ص 54)، هذه اللحظات الحضارية لم تجد أحدا يسجلها اجتماعيا ولا مسها اقتصاديا وسياسيا، وبالتالي فإن نعمات حمود خلصت إلى تجربتها الروائية، مركزة أو جاعلة محور فكرتها انطلاقا من مجتمع العاملات والموظفات الآتيات من بلدانهن مثلهن مثل الرجال، يحاولن تكوين أنفسهن للزواج وبناء أسرة ... عازبات تماما، لهن أخلاق معقولة، ولسن بخلفيات منحلة أو ضائعة، ولا يصح لهن ذلك .. متغيرات تبعا لديناميكية المجتمعات التي تحتضن هذا النوع من العمالة، وتسمح قوانينها بحرية الحركة والعمل، ليست انغلاقية بصورة تامة.
على هذا النحو إذن يتضح الهدف من عملية نقل أو تصوير مجتمع العاملات في الرواية، واللاتي يسكن مع بعضهن البعض. من تعول أطفال، ومن لازالت تبحث عن زوج، ومن تصدق أن نصيبها سيأتيها في غربتها تلك، والكاتبة في ذلك الرصد تحاول قدر الإمكان تجهيل الأسماء وتنكيرها ليس بغرض الاحتقار أو التهميش بقدر ما في طباعها وثقافتها التقليدية من حرمة للحياة الخاصة، وهو ما يدفعنا إلى الشك في مدى خيالية تلك الأحداث، بل والاعتقاد بأن بعض التفاصيل الواردة في الرواية هي وقائع شهدتها الكاتبة أو عاصرتها، وتعرف بالقطع من تتحدث عنهم / أو عنهن من شخوص روايتها، وبالتالي يبدو أن إغفال ذكر الأسماء لم يكن خيارا حصيفا، إذ أن إعطاء أسماء بديلة ليس سترا علي الدوام! بل ربما يكون كشفا يتجاوز منظومة التضاد والثنائيات.
ذروة الحكي
وتتصاعد ذروة الحكي وبنيته الدرامية كلما وجهت الساردة بصرها بعيدا عن ذاتها، فهناك مثلا شخصيات قهرتها ظروف بلدانها، وجاءت إلى دبي للعمل بلا محرم ولا رعاية، نساء مكافحات، بعضهن عطلا من الأنوثة أصلا، أو أخريات لسن جاذبات للأعين أو الشهوات، وطريقتهن لا تسمح بذلك النوع من العلاقات، إنهن يضربن كل ثوابت القصص الدرامية المؤلفة والخيالية، وذلك لأن الموضوع في دنيا الواقع يختلف بشدة، فكل واحدة منهن (بنت ناس ص 68)، تاهت بعضهن، وضلت أخريات .. لكن هناك من ارتقين وأثبتن أنفسهن، بالعمل والسعي دون حامي أو راعي.
وقد لا ينظر البعض لذلك الأمر بأنه شيء مهم أو جيد دراميا، ولكن الكاتبة تمجده عبر رضا بطلتها سارة عن نفسها، وإيمانها بمستقبلها وبما أحدثته من تحولات فيه، أغناها عن أن تكون في علاقة زوجية غير منصفة، أو سيدة الدار التي طلقت بعد عشرين عاما من العشرة بلا مبرر معقول، إذن فالحرية والتفرد والمبادرة وتجربة الخروج إلى سوق العمل ليست تمردا على الأخلاق والأعراف بقدر ما هي تجربة صمود لذلك الموروث الثقافي والأخلاقي عند التجربة الحية، والاحتكاك الفعلي وبيان مدى فعاليته حقا وصدقا، فالمبادئ لا قيمة لها إلا حين تختبر ويؤمن بها الآخرون، بل ويتخذونها عملا ومنهاجا في حياتهم الخاصة، ومرشدا في الملمات من الشدائد.
المهم أن الكاتبة نعمات حمود عملت على بلورة هذا الطرح معلية من قيمة أخلاق الفرد في مقابل نظام القطيع ومشكلات الحياة اليومية الصعبة، فأطاحت بهدوء بكل تفاهات الموروثات وقيودها من أول فكرة الطهارة والختان إلى الرجل ناقص الرجولة في أفعاله وتصرفاته سواء ما عاصرته في عملها أو ما شهدته في بداياتها، وحتى فكرة العدل والحرص عليه بين النساء، وكيف أنها قبلت ذلك دون تعقيب جارح فاضح على أساس نسبية كل ذلك، فإذا كان الواقع يتحمل هذه المرونة ... فعلام التشدد إذن؟ بل وكيف يستقيم ذلك في أمور ولا يكون في أمور مثلها، تلك كانت تجربة منفى عمل اختياري ورحيل إلى مرافئ بعيدة، فيها قوانين جديدة قد لا تكون ممتازة ولا مثالية، ولكنها أكثر مرونة وتسمح بالعيش، وتعد بإعطاء الفرصة لو أحسنتم القياس، وفرد الأجنحة للطيران بحرية الشراعي المنزلق على سطح الماء..؟!
إنها همسة في آذاننا من لون "نعمات حمود" الروائية الصاعدة، والتي تهوى الخط القصير المنمق والأبيض الممزوج بالأسود، همسة يأتي بها طائر أبيض شفاف بمنقار معقوف يدعى النورس صديق البحار ومستوطن كل ميناء يعرج إليه الرحالة ... وما أكثرهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.