القابضة للمياه: حلول ذكية للتنبؤ بالأعطال وتقليل الفاقد    أفضل طرق استثمار 100 ألف جنيه| شهادة ادخار ولا ذهب؟    أسعار الحديد في مصر تتراجع بشكل ملحوظ بسبب ركود سوق مواد البناء    روسيا: دول غير صديقة قدمت عروضا للتعاون خلال قمة العشرين    من هو الطبطبائي الذي أعلنت إسرائيل اغتياله في بيروت؟    الجزيري يقود الزمالك للتقدم على زيسكو في الشوط الأول    المجلس الأعلى للثقافة ينظم ندوة حول رحلة القطعة الأثرية من الاكتشاف إلى العرض    الإفتاء توضح حكم الشرع في الأخ الذي يحرم أخوته من الميراث    بيطرى القليوبية: ضبط 131 طن لحوم وأسماك فاسدة.. وتحصين 131 ألف رأس ماشية    واشنطن تستعد ل «عمليات عسكرية» ضد فنزويلا    محافظ سوهاج: لجنة حصر الإيجار القديم انتهت من عملها خلال 45 يوما    لليوم ال23.. «البترول» تواصل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر نوفمبر 2025    قيادة الجيش الثانى الميدانى تستقبل شيوخ وعواقل شمال سيناء    نصائح مهمة تحمى طفلك من العدوى المنتشرة فى وقتنا الحالى    هل كان السبت الممتاز..حقًا؟    الطقس غدًا.. شبورة كثيفة على الطرق وتوقعات بهطول أمطار فى الإسكندرية    ردود فعل واسعة بعد حصول صفحة وزارة الداخلية على المركز الثانى عالميًا    «إعدام الأسرى الفلسطينيين».. لماذا الآن؟    تامر عبد المنعم: انزل وشارك صوتك بيفرق فى انتخابات مجلس النواب    «مسعود شومان»: سيناء كنز إبداعي يحتاج إلى رعاية واستثمار ثقافي واع    اتفاقية تعاون بين مهرجاني القاهرة وبغداد لعرض أفلام المهرجانات العربية    نائب بالشيوخ: الانتخابات البرلمانية محطة حاسمة في مسار البناء الوطني    هل يجوز جمع الصلاة مع أخرى بسبب الدروس؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة دمنهور تحصد 12 ميدالية في بارالمبياد الجامعات المصرية بالإسكندرية تحت شعار "أنت الحياة"    نائب رئيس حزب المؤتمر: مشاركة المواطنين في انتخابات النواب 2025 واجب وطني    محافظ بورسعيد: عمليات على مدار الساعة خلال يومي الانتخابات    شيرين عبد الوهاب: لن أعتزل أنا قوية    عودة النصر للسيارات.. انطلاقة صناعية جديدة تقودها الربحية والتطوير الشامل    ضبط سائق ميكروباص خالف الحمولة القانونية بعد تداول فيديو بالفيوم    وزير الصحة يبحث جهود توطين تكنولوجيا الأجهزة الطبية وتطوير الخدمات التشخيصية    الصحة العالمية تكرم الزميلة أمل علام لفوزها بجائزة AMR Media    الجونة يتقدم على الاتحاد السكندري بهدف في الشوط الأول    تأجيل محاكمة 17 متهما بخلية العجوزة    "تصميم وتشييد وتقييم الفاعلية البيولوجية لمشتقات جديدة من البنزايميدازول" رسالة دكتوراه بجامعة بنى سويف    تشكيل إنتر ميلان ضد ميلان المتوقع في قمة الدوري الإيطالي    بأمر النائب العام.. متابعة حالة الطفلة حور ضحية التنمر    متحدثة الحكومة الإسرائيلية: غزة ستكون منزوعة السلاح.. ولن يكون لحماس مستقبل فيها    مركز المناخ بالزراعة يحذر من أمطار تصل لحد السيول يومي الأحد والاثنين    "القاهرة الإخبارية": الغارة الإسرائيلية ببيروت أسفرت عن عدد كبير من الضحايا شهداء ومصابين    الإفتاء تكرم المفتين السابقين وأسر الراحلين في احتفالها بمرور 130 عامًا على إنشائها    أغنية إيطالية عن "توت عنخ آمون" تشعل المنصات وتعيد وهج الحضارة المصرية للعالم    الشروط والمستندات.. وظائف مشروع الضبعة النووي برواتب تصل ل45 ألف جنيه    تعرف على غيابات الزمالك في مواجهة زيسكو الزامبي بالكونفدرالية الليلة    وزارة الصحة: لقاح الأنفلونزا هام لكبار السن لحمايتهم من العدوى    وزير الخارجية يبحث مع رئيس وزراء قطر تطورات الأوضاع في قطاع غزة    موعد ميلاد هلال شهر رجب 1447 وأول أيامه فلكيا . تعرف عليه    ازدحام غير مسبوق للشاحنات الإنسانية عند معبر رفح وسط استمرار الأزمة بغزة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : فانصروا الوطن يرحمكم الله !؟    كلية التمريض بجامعة القاهرة الأهلية تنظم ندوة توعوية بعنوان "السكري والصحة | غدًا    نصر: قيمة رعاية الزمالك لا تصل للربع بالنسبة للأهلي    انتخابات مجلس النواب 2025.. "القومي للمرأة" يعلن تخصيص غرفة عمليات لمتابعة العملية الانتخابية    أسامة الأزهري: الإفتاء تستند لتاريخ عريق ممتد من زمن النبوة وتواصل دورها مرجعًا لمصر وسائر الأقطار    مواجهات مثيرة.. مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة    كمال أبو رية يكشف حقيقة خلافه مع حمادة هلال.. ويعلق: "السوشيال ميديا بتكبر الموضوع"    مركز المناخ يتوقع تقلبات جوية قوية يومى الإثنين والثلاثاء.. وسيول محتملة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 23-11-2025 في محافظة قنا    وزير الري: أي سدود إثيوبية جديدة بحوض النيل ستقابل بتصرف مختلف    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 23 نوفمبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بطولة الهامش: رواية خان زادة للكاتبة لينة كريدية
نشر في نقطة ضوء يوم 08 - 11 - 2010

تعرف الرواية المعاصرة - شأنها في ذلك شأن باقي الفنون الأدبية تحولات هامة تنبئ بأن لا مجال للانضباط للقواعد الثابتة التي ترسخت لمدة طويلة، وأنتجت نمطا واحدا ظل وفيا لهاجس البناء السردي التقليدي، الذي كان يُعدّ الهيكل الذي يلملم مختلف المكونات والبنى الجزئية ( الزمن الفضاء الشخوص - العقدة...)، على خط سردي لا يكاد يتكسر أو ينحني، حتى يعود إلى سابق تدفقه المستقيم. ولم يكن الزمن الروائي يتغير أثناءه بحده التصاعدي إلا ليفسح قليلا لاسترجاعات أو استباقات تفرضها الحكاية، ثم لا يلبث أن يعود إلى لحظته السردية المحكية في الحاضر. ولم يكن الحدث الروائي الرئيسي يحتجب إلا جزئيا ولأسباب فنية مكملة. وهذا النمط ساد طويلا عند الرواد الأوائل، وانتقل منهم إلى تلامذتهم. لكن التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها الحياة العربية أفرزت حساسيات جديدة، انعكست آثارها على جميع الفنون الأدبية ومكنتها من تجديد أشكالها ومكوناتها التعبيرية وإقدارها على التكيف الجمالي والسيميائي مع ما تمور به الحياة اللاهثة من أحداث ومستجدات.
ثم إن المنعطف الذي تمر به الرواية العربية فتح الباب واسعا أمام التجارب دونما أن تسمح بتكريس الأنماط المنمذجة، أو تسعى هي الأخرى لطرح قواعد جديدة تصبح فيما بعد عموداً يحتذى. إن الأمر هنا شبيه بما يتم في حقل الشعر الذي يتخطى الآنية الشائعة بأبنية مفتوحة على الاحتمالات.
مناسبة هذا التمهيد صدور الرواية الأولى للكاتبة اللبنانية لينا كريدية عن دار الآداب في بيروت ( الطبعة الأولى 2010)، عنونتها ب خان زادة. وهي رواية النفس الواحد، لأن الحكي لم يستغرق من الراوية / الساردة سوى سهرة واحدة، تسترجع خلالها حياتها وحياة ثلاث من صديقاتها، وأفراد أسرتها ونماذج أخرى من مواطنيها البيارتة. سهرة واحدة يجزئها الحكي بحسب الوضع الذي توجد عليه الساردة بعد عودة روتينية إلى البيت، حيث ينتظرها كلبها العجوز وزجاجة من النبيذ والمقعد الذي ينافسها عليه الكلب وجهاز الريموت كونترول.. وهذا طقس يومي يوحي بالرتابة والتشابه وغياب الحيوية عن بيت غارق في سكونه، في أجواء تجعل الحدث أو الأحداث تأتي من العوالم الداخلية بحسب ما تقوى الذاكرة على استرجاعه. وفي عمل كهذا يصبح الاستطراد أسلوبا مطورا لتنامي الاسترجاعات وانثيالها الحر، دون حاجة إلى قالب فني يعمل بصرامة على تطوير الأحداث وإنضاجها صوب نهاية ينتظرها القارئ.
والاستطراد بهذا المعنى ليس خروجا عن الموضوع، بل يؤدي وظيفة هامة في هذا العمل، إذ هو الوسيلة التي تجدها الساردة مناسبة لاستحضار بعض التفاصيل، وخاصة تفاصيل ترتبط ببعض شخوص الرواية أو بالأجواء الاجتماعية والتاريخية لمدينة بيروت. وهي المدينة التي غطت مراحل ساخنة من تاريخها الاجتماعي والسياسي والحضاري.. مدينة تقف على حافة البحر المتوسط وقد تمزقت بهجتها، محاطة بكل أشكال العنف ( الحروب الطائفية تصفية الفصائل الفلسطينية الاجتياح الإسرائيلي...). هذه الأجواء العنيفة التي عاشتها بيروت، نجحت الكاتبة في أن تجعلها شديدة الصلة بمعاناة الشخوص التي تكتب الرواية سيرتها؛ كشخصية الأب ( أبي الساردة) الذي يحضر كمواطن بيروتي مسالم، ينتزع قوة عياله في ظروف الفوضى وانعدام الأمن مثلما جاء في الرواية كره أبي السياسة سنة 1976، ليصبح أكثر إنهاكا في عمله. أصبحت أمي تعرف متى سيذهب إلى مكتبه في الطريق الجديدة، ولكنها لا تستطيع أن تعرف متى سيعود، وإلى أية ساعة سيأخذه العمل. كان أحيانا يأتي حزينا أكثر منه منهكا. عيناه العسليتان الصغيرتان تنبئاننا بأحواله، فنفهم أنه تلقى زيارة في مكتبه من مسلحين فلسطينيين تابعين لأبي فلان أو أبي علان، يسألونه تبرعا، فيستجيب صامتا، أو يطالبونه ببدل حراسة فيقبل بدون مناقشته. ( ص 101).
ويزداد الوضع تأزما عندما يكتسح الجيش الإسرائيلي المدينة عام 1982، وينزل الجنود الصهاينة لتمشيط الشوارع، فيشتد سخط الأهالي على هذا الوضع المُخزي، فتسوق الساردة ردود فعل المواطنين الغيورين على مدينتهم؛ فتستحضر مشهد نزول الجار ابن عليوان إلى الشارع وشروعه في إطلاق الرصاص من رشاشه الكلاشينكوف، فيردي من يردي، لكنهم يقتلونه بمئات الرصاصات التي انطلقت نحو جسده. لكن هذه الأوضاع العنيفة لم تثْن الساردة عن استحضار الوجه الآخر من الحياة الآمنة لمدينة تضرب عميقاً في طقوسها الحضارية وعاداتها الأصيلة من خلال استعادة سيرة أفراد أسرتها وعلاقات التضامن والتآزر التي كانوا يجدونها في ظلها، بل إنها تعود بهذه السيرة إلى تشكيل خيوطها الأولى منذ الجد الأول الذي شكل مع عائلات قليلة اللبنات الأولى للمجتمع البيروتي الذي يفخر بعراقته وعراقة طقوسه المحافظة، ويستهجن وفادة الدخلاء للإقامة بالمدينة. مجتمع لا يتوانى فردٌ من أفراده عن تطليق زوجته، إذا هي غادرت الحريم وخرجت تجوب الدروب بكعب يوقع خطوها، وبعطر يُحيل على المادة التي صنع منها وعلى البيت الذي خرجت منه. وهذا ما حدث لجد الساردة، الذي أقسم ذات يوم على ألا أمل لزوجته الأولى في العودة إلى البيت لتمردها على نواميس الأسرة وضوابطها، لكنه بالمقابل يَجِدُّ في لم شتات أفراد عائلته تحت سقف واحد، ويحيطها بالرعاية الواجبة. إنها الضوابط التي تهندس العلاقات وترسم الحدود التي لا ينبغي تجاوزها مهما كان السبب، وتظل سارية المفعول ومتوارثة بين أجيال الأسرة الواحدة، صونا للقيم والأخلاق. وهو الشيء الذي ستؤكده الحادثة الثانية في أسرة الساردة، بطلها العم أسامة الذي تفانى إخوته - رغم قلة ذات اليد في التآزر فيما بينهم من أجل تأمين تعليمه في أرقى المدارس، وحتى يكون محط فخر للأسرة؛ لكن أسامة هذا سيخيب آمال إخوانه وأخواته، متبعا أهواءه وملذاته منصرفا عن دروسه، الشيء الذي أهله لأن تسمه الساردة بقولها: عمي أيقونة الحرية والتمرد على التقاليد والموروثات كما أراه ووصمة عار في تاريخ العائلة التي تمنت أن يختفي ويطويه الزمن ( ص71).
هكذا تتبع الساردة خيط الحكي وملاحقة تفاصيل العلاقات التي جمعت بين أفراد هذه الأسرة الكبيرة التي تجسد نموذجا دالا على المجتمع البيروتي المثقل بمعاناة الوضع السياسي لمدينة تظهرها الرواية كما لو كانت سفينة تمخر العباب بلا قبطان ولا سلطة، وإنما سلطة الأعراف والقيم التي توارثها السكان هي الكفيلة بتنظيم الحياة، وبسط النظام في أجواء يغلب عليها منطق التطاحن والحروب الطائفية التي تنشب لأسباب تعصبية، وحروب أخرى تفرضها مصالح إسرائيل في الاستقرار على حساب الآخرين.
لكن، وبالنظر إلى القوى العاملة في هذه الرواية، وخاصة الشخصيات التي تمت إحاطتها بهالات خاصة، وبفيض وجداني واضح، تثور أسئلة، ويتملكنا الفضول كمتلقين للبحث عن أجوبة لها، من قبيل:
- لماذا آثرت الكاتبة أن تنتخب لروايتها اسم شخصية خان زادة وهي التي لم تنل نصيبا كافيا على الأقل ورقيا من الحكي؟
- ثم، ما السر في التركيز على شخصيتين نسويتين هما ( جيهان) و( روعة) صديقتا الساردة؟
في الأعراف الفنية الحديثة، لم يعد الكم معياراً للحكم على أهمية الشخصية داخل العمل الروائي، ومثل ذلك ينطبق على الأدوار السينمائية، إذ أن شخصية جزئية داخل العمل قد تحتكر كثيرا من الأبعاد الدلالية، وتحوز انتباها خاصاً من المتلقي لا تحظى به شخصيات تحضر في أكثر من فصل أو مشهد. وينطبق هذا الكلام على شخصية خان زادة في رواية لينة كريدية.
فهذه الشخصية لم تشغل من الكتاب كله إلا حيزا ضئيلا، إلا أنها استحقت تعميد الرواية باسمها. فهي امرأة جمعت فيها الساردة كل الأوصاف المفتقدة في الشخصيات الأخرى، زاهدة منصرفة عن الحياة، شديدة التدين، محبة للآخرين مهما كانوا سيئين، تحرص على طهارة روحها وبدنها، كما أنها لم تنعم بتجربة الزواج.. إننا أمام قديسة حقيقية، لعلها تمثل الوجه المفارق لشخصية الساردة وصديقتيها جيهان وروعة. ولعل هذا هو السرّ في تعلق الساردة بها. فهي تلجأ إليها وإلى بركاتها كلما أمعنت في الشعور بالخواء الوجداني، أو ساورها شعور بالإحباط جراء تذكر الخيبات والتجارب العاطفية الفاشلة. إنها الوجه الخيّر في رواية تؤرخ لمدينة تفتقد الفرح، وتكبلها العادات ويسحقها الصراع. من هنا تُجسد شخصية خان زادة المثل الأعلى لدى الساردة والكاتبة على حدّ سواء.
أما بخصوص شخصيتي جيهان وروعة، وبناء على الرؤية الفنية لهذا العمل، فإنه يمكن اعتبارهما مرآتيْن للساردة، بهما ومن خلالهما تُبنى الأحداث ويتطور خيط السرد، إلا أنه خيط يستمد وجوده من الذاكرة، وبالنظر إلى نقطة الانطلاق فقد كان بالإمكان أن تكون جيهان في وضع اجتماعي وسياسي مهم، لأنها ابتدأت مسارها الحيوي مناضلة في الجامعة تأخذ المبادرة، وتتقدم صفوف المظاهرات.. إلا أن الخيبات المتتالية على المستوى الذاتي والجماعي جعلتها تعود إلى نقطة الصفر، فأصبحت تترحم على أيام غيفارا، حين ترى الدولار عملة متداولة في كوبا، كما أن عودتها السلبية هاته مبررة بالعدوان الثلاثي والنكسة وخيبة أملها في حبيب البدايات سمير. وهذا في نظر الساردة كاف ليجعلها منكفئة على ذاتها، مغرقة في تعاطي الكحول، كارهة لكل الوافدين على بيروت، شاغلة وقتها في تحضير وصفات التجميل والعطور. وجيهان بذلك تمثل نموذجا لفئات عريضة من الشباب البيروتي الذي انفلتت أحلامه وتكسرت على صخرة الواقع المر.
من جهة أخرى، تقدم الكاتبة نموذجا آخر لمعاناة المرأة البيروتية من خلال شخصية روعة الشابة الصغيرة، حيث تبرزها كمخلوقة لطيفة مثيرة للشفقة، تعيش حياة معتادة وتفتقد القدرة على الإقدام على المغامرة. وقد ساهم ضعف تكوينها وما تعرضت له من تحرشات جنسية من قبل أصدقاء والدها في تعميق مأساتها، فعاشت بسبب ذلك منطوية على نفسها.
لقد نجحت لينة كريدية من خلال عملها الروائي الأول في كشف المحجوب، وإماطة اللثام عن كثير من خبايا التصدعات التي عاشها المجتمع البيروتي، مركزة في ذلك على وضعية المرأة فيه، منكلة بالشخصيات الذكورية التي ترد في معظم الأحيان كقوى فاعلة مؤثرة بشكل سلبي في المسار الحيوي لمجتمع كان بالإمكان أن يكون أفضل، ويمكن تجسيد ذلك من خلال هذه الترسمية:
الجد الأكبر: تقليدي مذعن للعادات: طلق زوجته الأولى لسبب تافه.
العم أسامة: متمرد سلبي، عبدٌ لأهوائه ونزواته.
سمير: متملص من نضاليته، ومدمر لعلاقة الحب والوفاء.
الأستاذ راتب: شاذ، يتحرش بالصغيرات.
باسم: مخنث، وعاطل وكاذب.
هكذا تحضر الشخصيات الذكورية في وضعها السلبي المضاعف لمعاناة الشخصيات النسائية، وربما كان والد الساردة هو الاستثناء الوحيد بينها، إذ تبرزه الرواية مثالا للرجل المكافح من أجل ضمان عيش كريم لأسرته، وبذلك استحق حب الأسرة كلها وعشق الزوجة التي لم تصدق وفاته فاستمرت تعيش على ذكرياته كأنه لا يزال حيا. تقول الساردة:
أمي المغرمة بوالدي. الوفية له، لم تبدأ حكايتها معه بقصة حب، بل بزواج تقليدي جدا، لتتحول العلاقة إلى غرام وشراكة جهاد. هو ليس والد أطفالها فقط، بل المثل الأعلى والحبيب، والرجل الأول والأخير... وعندما تشتاق إليه تدخل غرفة نومها لتشم فرشاة شعره، وما بقي عالقا فيها من شعره الأشقر الناعم، ثم تعاود وضعها قرب زجاجة عطره الكارتييه الأخير... ( ص106).
ثم إن إيثار شخصية الأب بهذا الاستثناء لا يمكن تفسيره ببقايا آثار عقدة إلكترا في لا شعور الساردة، بدليل أن صورة الأم تحظى في الرواية بغير قليل من نزوع الإعجاب والاحترام..
وخلاصة القول، إن رواية خان زادة للكاتبة اللبنانية لينة كريدية إبحار حكائي في الشخوص والمكان وروائح الذكريات، إبحارٌ بمجاذيف اجتُرحتْ من فيض لغة هادئة ومكثفة، تتيح التجذيف الشعري عند القرب من مناطق الذات والوجدان، وتتيح التجذيف النثري والتفصيلي عند التعليق على الأحداث بواسطة الاستطراد. وبذلك يكون هذا العمل إضافة نوعية في جنس الرواية العربية المعاصرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.