أثار إعلان دولة "إثيوبيا" عزمها إحالة اتفاقية التعاون الإطاري بين دول حوض النيل المعروفة باسم "عنتيبي" إلى البرلمان الإثيوبي للمصادقة عليها لتصبح سارية المفعول، رغم رفض "مصر والسودان" التوقيع عليها، استنكارًا من جانب مسئولي الدولتين؛ نظرًا لأن تعديل الاتفاقية التاريخية يعني اقتطاع ما يزيد عن 15 مليار متر مكعب من حصة مصر في مياه النيل، وعلى الجانب التاريخي والقانوني تستند "دولتا المصب" إلى بعض قواعد القانون الدولي الخاص بحماية الحقوق المكتسبة، التي تنص على أن الدول المتشاركة في مورد مائي واحد لا يمكن لأحدهما أن ينفرد بإقامة مشروعات أو استغلال المورد بصورة تؤثر على بقية الدول دون موافقتها، وأيضًا قواعد "هلسنكي" 1966 الخاصة بالنصيب العادل والمعقول لكل دولة في استخدام واحتياج كل دولة من المياه، فضلًا عن وجود بعض الاتفاقيات الدولية التي وُقعت عام 1891، وهي عبارة عن بروتوكول بين بريطانيا العظمى وإيطاليا، واتفاقية فيينا 1978 الخاصة بتوارث الاتفاقيات، وغيرها من الاتفاقيات التاريخية التي تستند عليها مصر عند الحديث عن حقوقها التاريخية المكتسبة من مياه النيل، وأوضح خبراء سياسيون ومياه أن إسرائيل تستمر في سياساتها التخريبية ضد "القاهرة" وتستغل الأحداث والتوترات السياسية الداخلية، وتعرض خدماتها المالية والعسكرية وخبراءها على دول أفريقيا في جميع المجالات لفتح أبواب للتعاون الزراعي والاقتصادي والاستثماري مع دول الحوض، لتدخل بقوة في قلب القارة الأفريقية لتحقق رغبتها القديمة في الحصول على حصة من مياه النيل؛ نظرًا لأنها معرضة للفقر المائي مستقبلًا وتضغط بكل قوتها للتأثير على حصة مصر. ومؤخرًا وقعت وكالة إسرائيل للتعاون في مجال التنمية الدولية "ماشاف" والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية "USAID" مذكرة تفاهم في واشنطن لتعزيز التعاون الثنائي في مجال الأمن الغذائي المعروفة باسم "مبادرة الغذاء للمستقبل" ويتم التركيز فيه على دول حوض النيل خاصة إثيوبيا، ورواندا، وتنزانيا، وأوغندا، حيث أكدت الوكالة أن مصلحة إسرائيل تكمن في تطوير علاقات أوثق مع دول منطقة القرن الأفريقي. توغل إسرائيلي د. محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق قال: إن التعاون الإسرائيلي موجود وقائم مع دول الحوض الأفريقية برغم ما تقوم به الحكومات المصرية المتعاقبة لتقديم خدماتها للدول الأفريقية، حيث تقوم الحكومة بحفر الآبار في بعض الدول الأفريقية مقابل الحصول على كميات أكبر من المياه، ويتكلف حفر البئر الواحد 100 ألف دولار وهناك تهافت في مدن تنزانيا على الفوز بخبرة المصريين في حفر الآبار، وأيضًا شاركت مصر في بناء خزان أدين في أوغندا، وتحملت تكاليف إنشاء خزان جبل الأولياء في السودان، وقدمت مصر مساعدات ل10 مواقع للمياه الجوفية في كينيا ومثلها في الكونغو، موضحًا أن التوغل الإسرائيلي أثر كثيراً على طلب الخبراء المصريين خلال السنوات الأخيرة، ولكن على الرئيس القادم أن يقوم بتقوية الدور المصري في جميع الجوانب التنموية مع دول حوض النيل؛ لأن المياه ليست فقط قضية الحكومة ووزارة الموارد المائية فقط بل هي بالضرورة من أولويات الشعب المصري ومنظمات المجتمع المدني، لذا فإن مسألة التوعية ونشر الثقافة المائية وترشيد استخدام مياه الشرب أصبح ضرورة وقضية في غاية الأهمية بعد أن انخفض نصيب الفرد حاليًا من حصة مصر من المياه سنويًا إلى 985 متر مكعب، وهو مستوى حد الفقر المائي وهو ما يقل عن الحد المتعارف عليه عالميًّا الذي يقدر ب 1000 متر مكعب سنويًا؛ وهذا نتيجة الإسراف الكبير في استخدام المياه، والكثيرون يعتقدون أن مصر بعيدة عن أي أزمة مائية مع وجود نهر النيل وهذا أمر غير صحيح. معارك خفية ومن جانبه حذر د. ضياء القوصي، مستشار وزير الري المصري السابق، من إهمال السلطات المصرية التلاعب والتوغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية، ولا يجب أن يكون ملف مياه النيل في يد وزارة الموارد المائية وحدها بل على وزارة الخارجية المساعدة والمساندة، وكذلك معهد الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة؛ لأن علاقة مصر بكافة دول الحوض تحتاج إلى تعديلات جوهرية، وأمام مصر فرصة فريدة لإبلاغ العالم وخاصة أفريقيا بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير أن "القاهرة" ستدخل عصرًا جديدًا من التعاون بمفاهيم جديدة وإجراءات جديدة وطي الصفحة السابقة التي لم تكن بكل المعايير في أحسن الأحوال والأوضاع، وعلينا الاستعداد الجيد لمواجهة المرحلة المقبلة التي ستشهد تصعيدًا مستمرًا من جانب دول أفريقيا، وما قامت به "إثيوبيا" من تقديم اتفاقية "عنتيبي" إلى برلمانها الوطني يدل على أن الأمور بدأت تأخذ مسلكًا قانونيًّا وتشريعيًّا؛ نظرًا لأن إسرائيل تدعم الاتفاقية وتحرض إثيوبيا على ضرورة إعادة توزيع الثروة المائية، ومحاولة تقسيم مياه نهر النيل وتهديد حصة مصر التاريخية، لافتًا إلى أن الكيان الصهيوني يطمع في مياه النيل، وطالب مصر قبل ذلك بتحويل مياه النهر من مصبه في البحر الأبيض المتوسط إلى صحراء النقب وعندما باءت محاولاته بالفشل لجأ إلى إثارة الضغائن والأحقاد لدى الدول الأفريقية تجاه القاهرة، وطالبها بإعادة النظر في الاتفاقيات التاريخية الموقعة بينها وبين مصر لإعادة تقسيم المياه لتقليل حصة مصر المائية السنوية، وليس هذا فحسب بل أن دول المنبع تضغط على مصر وتهدد بالتعاون مع الدولة العبرية لإقامة العديد من مشروعات توليد الطاقة الكهربائية والاستثمار الزراعي وبناء السدود، بعد أن كانوا يلجئون إلى الخبرات المصرية لتنفيذ هذه المشروعات، لذلك نحن نمر بمرحلة خطيرة اقتصاديًا وسياسيًا ومائيًا ومعارك خفية في أفريقيا، وعلى القيادة السياسية أن تعمل على إعادة العلاقات ووضع القدم المصري في قلب أفريقيا على أساس التكامل والتعاون بدلًا من التكبر والتعالي. بينما أكد د. هاني رسلان رئيس وحدة دراسات حوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية، أن قيام دولة "جنوب السودان" بالتوقيع على اتفاقية "عنتيبي"، عنادًا في جارتها "الخرطوم" وبسبب تعاونها مع "تل أبيب" جعل دورها مهمًا؛ لأن حوض "بحر الغزال" الذي يقع في الجنوب يوجد به إمكانيات مائية هائلة من الممكن استغلالها، وبما أن القاهرة فشلت في توطيد العلاقات الاقتصادية والسياسية والتنموية مع "جوبا" فإن توقيع جميع الدول باستثناء "دولتي المصب" سيكون بمثابة إحراج لهما أمام العالم الذي لن يسمح بإهدار المياه، في حين وجود بعض الدول مهددة بالفقر المائي، لافتًا إلى أن إسرائيل لا تترك فرصة خلافية بين مصر وإحدى الدول إلا وتسعى لاقتناصها لإشعال الموقف، وعرض خدماتها بطريقتها الصهيونية الناعمة ليتنامى النفوذ الإسرائيلي داخل القارة الأفريقية ويبتعد الدور المصري، حتى أن بعض دول القارة صعدت لهجتها واختلفت طريقتها في الخطاب السياسي مع الحكومة المصرية؛ لأنها ضمنت الدعم المالي والخبرات والمساندة الإسرائيلية التي تفتقر إليها دول القرن الأفريقي، مؤكدًا أن الدولة العبرية المهددة بالفقر المائي لن تترك "نهر النيل" يمر أمام أعينها في قلب القارة الأفريقية دون أن تأخذ نصيبًا سواء بإقامة مشاريع استثمارية في بعض الدول الأفريقية الفقيرة مقابل الحصول على المياه أو بتفعيل مبدأ "السلاح مقابل الماء". تهويل هش وفي رأي د. عباس الشراقي، الخبير المائي بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية، أن التهويل والضجة الهشة التي أحدثها سد النهضة الإثيوبي المزمع إنشاؤه على النيل الأزرق بالقرب من الحدود السودانية لتخزين 67 مليار متر مكعب في غير محلها، لوجود مشاكل جغرافية حقيقية، وسوف تواجه السد عوامل جيولوجية وجغرافية تقف حائلًا أمام كثير من المشروعات المائية في دول المنبع، بسبب انتشار الصخور البركانية البازلتية، والتوزيع غير المتجانس للأمطار سواء الزمني أو المكاني، وارتفاع معدلات البخار وانجراف التربة نتيجة انتشار الصخور الضعيفة، بالإضافة إلى تكلفته المادية العالية والتي لن تستطيع أي دولة معادية للقاهرة مثل "إسرائيل" أن تدفع أكثر من 6 مليارات دولار للتغلب على المشاكل الجيولوجية فقط، فضلًا عن تكلفة المشروع المادية، ولو حدث ذلك فإن "أديس أبابا" ستخسر كثيرًا لأنها ستهدر ما يزيد عن نصف مليون فدان من أجود أراضيها الزراعية، وإغراق مناطق التعدين الجيولوجية مثل "الذهب والبلاتين والحديد"، فضلًا عن احتمالية تعرض السد للانهيار نتيجة وجود عوامل طبيعية وسرعة اندفاع مياه النيل الأزرق، مطالبًا السلطات المصرية إمداد جسور التعاون مع جميع دول المنبع ومحاولة إصلاح الخلل الناتج عن غياب الدور المصري منذ تعرض الرئيس السابق "حسني مبارك" لمحاولة اغتيال فاشلة في "أديس أبابا"، وتنشيط دور الدبلوماسية المصرية داخل القارة الأفريقية، بدلًا من الهرولة السياسية لأمريكا وأوروبا والغرب. واتفق في الرأي د. مغاوري شحاتة الخبير المائي مؤكدًا، أن التغيرات المناخية تضر إقامة السد أكثر من نفعه على أثيوبيا، والدول المتشاركة في مورد مائي واحد لا يمكن لأحدهما أن ينفرد بإقامة مشروعات أو استغلال المورد بصورة تؤثر على بقية الدول دون موافقتها، ولهذا لن تقوم "مصر والسودان" بتغير موقفهما تجاه قضية إعادة توزيع المياه، ولن يسمحا باستغلال ظروفهما السياسية الداخلية وتقوم دول المنبع باستغلال الموقف من خلال التوقيع على اتفاقية "عنتيبي"، مؤكدًا أن الاتفاقيات التاريخية حق أصيل وسند قانوني يمكن الرجوع إليه في حال تصاعد الأزمة، ويمكن اللجوء للمنظمات الدولية مثل "محكمة العدل" أو "مجلس الأمن" لشكوى هذه الدول وطرح القضية عليهم وتقديم الوثائق والمعاهدات التي تضمن حقوق دول المصب في الحصول على حقوقهما المائية كاملة، مضيفًا أن القاهرة لم تعد تعطي اهتمامًا بدول أفريقيا، ولا يصح أن نقول غياب الدور المصري بل تخاذل وتكبر وعنجهية في التعامل مع أفريقيا بأكملها، حتى أن بعض دول المنبع أصبحت تتعامل مع "مصر" باعتبارها عدوًا؛ بسبب التهديد الدائم والمستمر باللجوء للحل العسكري في تسوية القضية، الأمر الذي دفعهم إلى اللجوء لحليفهم الجديد الدولة العبرية، لدرجة أن "سلفاكير" رئيس دولة جنوب السودان حين طلب التعاون والدعم من الدول العربية للمساعدة في بناء وإعمار دولته بعد الانفصال، لم تستجب سوى "إسرائيل وقطر والصين" الذين يتحدثون بلغة المال وتبادل المصالح، واستمرت مصر في نومها العميق وتركت الاستثمارات الزراعية والاقتصادية في أيدي الغير ينهب من خير وثروات الدولة الشقيقة.