الأمر الذى أثار الشجن والحيرة أن يخرج علينا بعض رجال الحكومة ليتهموا الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وعصره، بالتسبب في سوء العلاقات المصرية العربية لاهتمامه بالعرب على حساب الأفارقة، فى الوقت الذى طالب فيه خبراء ومحللون سياسيون مصريون بالعمل على استعادة فلسفة ثورة 23 يوليو 1952 واستراتيجية الزعيم الراحل "عبد الناصر"، التي ركزت على التواجد الفعال في الدوائر العربية والإسلامية وكذلك الإفريقية والحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الدول في هذه الدوائر، وشددوا على أهمية إعادة التوازن في السياسات الخارجية المصرية بما يُحقق عودة الدور المصرى في الوطن العربى وأفريقيا وإنشاء وزارة للتعاون الإفريقي تضطلع بمسئولية إدارة العلاقات مع دول القارة. فلو عُدنا لمفكرة التاريخ وأخذنا نبحث داخل أوراقها سنجد أن هناك اتفاقيات تمت فيما يخص حوض النيل والدول العشر التى يمر بها المجرى حيث سنجد أنه فى 1929 أبرمت الحكومة البريطانية، نيابة عن عدد من دول حوض النيل "أوغندا وتنزانيا و كينيا"، اتفاقية مع الحكومة المصرية تتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وإن لمصر الحق في الاعتراض (الفيتو) في حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده، وتبع هذا اتفاقية عام 1959 تعطي لمصر حق استغلال 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل من أصل 84 مليار متر مكعب تصل إلى السودان ليتبقى للخرطوم 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل.. وقد تضمنت اتفاقية عام 1959 بند الأمن المائي، الذي يقضي بعدم السماح بإقامة مشروعات على حوض النيل إلا بعد الرجوع إلى دولتي المصب "مصر والسودان"، على عكس ما تطلع إليه دول حوض النهر الآن، وتحديدًا فى منطقة حوض فيكتوريا، التى وقّعت اتفاقية فيما بينها وبدون مصر والسودان لإعادة تقسيم المياه. وفى 1999 تم توقيع مبادرة حوض النيل بين دول حوض النيل العشر، بهدف تدعيم أواصر التعاون الإقليمي (سوسيو- اجتماعي) بين هذه الدول.. وتم توقيها في تنزانيا.. و2009، عقد اجتماع وزاري لدول حوض النيل في كينشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية لبحث الإطار القانوني والمؤسسي لمياه النيل، ورفضت مصر والسودان التوقيع على الاتفاقية بدون وجود بند صريح يُحافظ على حقوقها التاريخية في مياه النيل. وفى مايو 2010 وقعت خمس دول من دول حوض النيل "إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا" على الاتفاقية الإطارية، وقد رفضت دولتا المصب "مصر والسودان"، التوقيع على الاتفاق لأنه ينهى الحصص التاريخية للدولتين "55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان"، كما تطالب مصر بإخطارها قبل إقامة أى مشاريع مائية مثل السدود على نهر النيل، وتطالب أيضًا بضرورة الحصول على موافقة بالإجماع أو بالأغلبية قبل إقامة أي سدود ومشاريع مائية على نهر النيل، وهو مالم يتضمنه نص الاتفاق الذى وقع في "عنتيبى" الذى ركز على أن مرتكزات التعاون بين دول مبادرة حوض النيل تعتمد على الاستخدام المنصف والمعقول للدول، بأن تنتفع دول مبادرة حوض النيل انتفاعاً منصفاً ومعقولاً من موارد مياه المنظومة المائية لنهر النيل، على وجه الخصوص الموارد المائية التى يمكن تطويرها بواسطة دول مبادرة حوض النيل وفق رؤية لانتفاع معقول.. وهذه هي أول مرة في التاريخ تجتمع فيها دول المنبع وتوقع اتفاقًا ضد مصر والسودان دولتي المصب. ذكر المهندس حسن الشامى، رئيس الجمعية المصرية للتنمية العلمية والتكنولوجية، أن هناك مخاوف لدى مصر من التطلعات لدى دول حوض النهر، وتحديدًا فى منطقة حوض فيكتوريا، التى وقّعت اتفاقية فيما بينها وبدون مصر والسودان لإعادة تقسيم المياه. وأشار إلى أن هناك ضرورة لأن تعيد مصر النظر فى سياستها تجاه دول حوض النيل، لاسيما أن التقارير العلمية تتوقع أزمة نقص مياه حقيقية يمكن أن تتعرض لها مصر بحلول عام 2017م. حيث ستقل موارد مصر عن 71 مليار متر مكعب من مياه النيل فى الوقت الذى ستكون احتياجاتها الفعلية للزراعة والصناعة والاستخدامات البشرية تزيد على 86 مليار متر مكعب سنويًا. وشدَّد على ضرورة التعامل مع هذه المنطقة بمنظور استراتيجى شامل يعتمد على ربط المصالح المشتركة لدول حوض النيل العشر بمعنى تعظيم استفادة كل دولة من مياه النيل وإقامة المشروعات التى تُحقق هذه الاستفادة. ولفت إلى أنه نظرًا لما تتمتع به مصر من ثقل فى علاقاتها مع دول حوض النيل بصفة عامة ومع أثيوبيا والسودان بصفة خاصة وتنمية علاقاتها على المستوى الثنائى مع كل دولة فى مجالات عديدة أخرى يحكمها إيجاد آليات للتعاون تدعمها المنفعة الاقتصادية المتبادلة لدفع عجلة التنمية وتعظيم التجارة البينية.. وتشكيل مصالح مشتركة وتكامل وثيق فى جميع المجالات بين دول حوض النيل، وزيادة حجم التجارة البينية، وتعزيز التواجد المصرى فى دول حوض النيل... وذلك من خلال التواجد السلعى للمنتج المصرى فى أسواق الدول مع عدم إغفال استيراد مواد الخام المتاحة وذلك لزيادة اعتماد دول حوض النيل على السوق المصرية كمتنفس رئيس لسلعهم.. وأشار إلى أن معظم دول الخليج تتكالب حاليًا على المشروعات الزراعية فى السودان وحوض النيل، ففى شمال أثيوبيا، يساهم الصينيون بمشروعات مائية وكهربائية.. كما أن إسرائيل تساهم فى مشروعات زراعية لاستقطاب مياه الرواسب العليا لنهر العطار، كما يستعدون لبناء سد خاص بمزارعهم فى شمال شرق أثيوبيا.. وطالب مصر بمد دول حوض النيل بالخبرة والعنصر البشرى وهو الجانب الذى يمكنها استغلاله لتفعيل استثماراتها بدول حوض النيل.. لاسيما أن زيارات المسئولين فى كينيا والكونغو للقاهرة، والحديث عن ضمانات بعدم الإضرار بمصالح مصر أو السودان بسبب إعلان "عنتيبي".. لا تعدُّ سوى تطمينات وتهدئة للأزمة السياسية، بهدف إلغاء اتفاقية 1929م والتى تشكل الأساس القانونى الذى تتمسك به مصر والسودان ولكن رغم هذه التطمينات فإن المؤامرة على حصة مصر من المياه لاتزال مستمرة وينبغى اتخاذ الاجراءات العاجلة والفعالة للتصدى لها. وأختتم الشامى مطالبا وزارات التعاون الدولي، والتجارة والصناعة، والاستثمار بتحديد محاور التحرك لتعزيز التعاون التجارى مع دول حوض النيل. وكشف د. السيد فليفل، عميد معهد الدراسات الأفريقية السابق، أن مصر واجهت كثيرًا من الصعوبات بشأن التفاوض حول مبادرة مياه النيل منذ أن قبلت بشركاء خارجيين بينهم البنك الدولي والولايات المتحدة في التفاوض حول المبادرة والاتفاقية الإطارية، مشيرًا إلى أن هؤلاء الشركاء هم أنفسهم من وضعوا مخططات التقسيم في السودان، ولفت إلى أن ذلك واكبته حملة إعلامية منسقة من دول منابع النيل حول الحقوق التاريخية اعتمدت على إطلاق ادعاءات بأن الاتفاقيات السابقة تم توقيعها منذ زمن الاستعمار، ودعا إلى إعادة التوازن الاستراتيجي للسياسة الخارجية والاهتمام بالدائرة الأفريقية كما كانت في عهد "عبدالناصر". وأوضح، د. محمد صابر عرب، رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية، أن قضية مياه النيل يجب أن يتم وضعها في مقدمة الاهتمامات، مشيرًا إلى أن الدولة اتسمت في السابق بقدر من الوعي في إدارة الأزمة، وفق المصالح المشتركة والمنفعة العامة مع دول حوض النيل، ودعا إلى إعادة تقدير واقع العلاقات المصرية مع دول حوض النيل وصياغة رؤية تقدر أهمية التفاهم والمصالح المشتركة والتحلي بقدر كبير من الدبلوماسية الناعمة. أما د. فتحي أبو عيانة، أستاذ الجغرافيا بجامعة الإسكندرية، فأشار إلى أن طبيعة نهر النيل الجغرافية شديدة الانحدار، بما لا يمكن معه تغيير مساره، معتبرًا أن النيل عامل وصل وليس فصل بين أطرافه، ومن ثم فإن دول الحوض يمكن أن تشكل مدخلاً للتعامل الإقليمي . وحذَّر د. أحمد شحاتة، الخبير بالشئون الإفريقية، من تحديات التواجد الأجنبى التى تواجهها مصر في دول المنبع ما يصعب معه العودة إلى نفس مكانتها السابقة بعد اتجاهها عبر العقود الثلاثة الماضية نحو الأورمتوسطية والغرب، على حساب الظهير الأفريقي الاستراتيجي الجنوبي، مشددًا على ضرورة العودة إلى فلسفة ثورة يوليو التي ركزت على الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية . وأوضح د.أحمد الرشيدى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن اهتمام مصر بنهر النيل يكمن في كونه شريان الحياة والمصدر الوحيد للحضارة المصرية والمشروعات الاقتصادية.. ولفت إلى أن حالة الاستعلاء المصرى على دول حوض النيل دفعتها إلى اللجوء لدول أخرى مثل الصين والولايات المتحدة وإيطاليا وإسرائيل، بهدف ضخ استثمارات بها . وذكر د. علي بركات، الخبير بمعهد الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، أن مصر تميزت خلال ستينيات القرن الماضي باستراتيجية حققت كثيرًا من الاستقرار في العلاقات مع دول حوض النيل، إذ ساعدت تلك الدول في التحرر من منطلق إيمانها بأن أفريقيا ظهير استراتيجى . [email protected]