مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    نشرة التوك شو| الوطنية للانتخابات تعلن جاهزيتها لانتخابات الشيوخ وحقيقة فرض رسوم على الهواتف بأثر رجعي    سكان الجيزة بعد عودة انقطاع الكهرباء والمياه: الحكومة بتعذبنا والقصة مش قصة كابلات جديدة    هولندا تمنع الوزيرين المتطرفين سموتريتش وبن غفير من دخول البلاد وتستدعي السفير الإسرائيلي    بسبب حسن شحاتة.. اتحاد الكرة يشكر الرئيس السيسي    6 صور لشيما صابر مع زوجها في المصيف    "الحصول على 500 مليون".. مصدر يكشف حقيقة طلب إمام عاشور تعديل عقده في الأهلي    علاء عبد الغني: على نجوم الزمالك دعم جون إدوارد.. ومشكلة فتوح يجب حلها    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 29-7-2025    السيطرة على حريق بمولدات كهرباء بالوادي الجديد.. والمحافظة: عودة الخدمة في أقرب وقت- صور    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    سميرة صدقي تكشف حقيقة زواجها من معمر القذافي (فيديو)    تغيير في قيادة «إجيماك».. أكرم إبراهيم رئيسًا لمجلس الإدارة خلفًا لأسامة عبد الله    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    الاندبندنت: ترامب يمنح ستارمر "الضوء الأخضر" للاعتراف بدولة فلسطينية    الرئيس الفلسطيني يثمن نداء الرئيس السيسي للرئيس الأمريكي من أجل وقف الحرب في غزة    وزير الخارجية السعودي: لا مصداقية لحديث التطبيع وسط معاناة غزة    3 شهداء جراء استهداف الاحتلال خيمة نازحين في مواصي خان يونس    وزير الخارجية السعودي: لن نفيم علاقات مع إسرائيل دون إعلان دولة فلسطين    عبور قافلة مساعدات إنسانية إلى السويداء جنوب سوريا    تعرّضت للسرقة المنظمة بمحور "موراج".. معظم المساعدات المصرية لم تصل إلى قطاع غزة    «طنطاوي» مديرًا و «مروة» وكيلاً ل «صحة المنيا»    سوبر ماركت التعليم    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    تنسيق الجامعات 2025.. موقع التنسيق يفتح باب التقديم بالمرحلة الأولى    الأهلي يضغط على نجمه من أجل الرحيل.. إبراهيم عبدالجواد يكشف    أحمد فتوح يتسبب بأزمة جديدة في الزمالك.. وفيريرا يرفض التعامل معه (تفاصيل)    قرار مفاجئ من أحمد عبدالقادر بشأن مسيرته مع الأهلي.. إعلامي يكشف التفاصيل    أسعار الفاكهة والموز والمانجو بالأسواق اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 بالصاغة.. وعيار 21 الآن بعد الانخفاض الكبير    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 29 يوليو 2025    النجاح له ألف أب!    «قد تُستخدم ضدك في المحكمة».. 7 أشياء لا تُخبر بها الذكاء الاصطناعي بعد تحذير مؤسس «ChatGPT»    6 مصابين في حريق شقة سكنية بالمريوطية بينهم شرطي (تفاصيل)    ضبط 400 علبة سجائر مجهولة المصدر بمركز المنشاة فى سوهاج    محمد معيط: العام المقبل سيشهد صرف شريحتين متبقيتين بقيمة تقارب 1.2 مليار دولار لكل شريحة    أخبار 24 ساعة.. انطلاق القطار الثانى لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    نوسة وإحسان وجميلة    تعرف على برجك اليوم 2025/7/29.. «الحمل»: تبدو عمليًا وواقعيًا.. و«الثور»: تراجع معنوي وشعور بالملل    أحمد صيام: محبة الناس واحترامهم هي الرزق الحقيقي.. والمال آخر ما يُذكر    أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. الرئيس اللبنانى يمنح زياد الرحبانى وسام الأرز الوطنى رتبة كومندور.. وفاة شقيق المخرج خالد جلال.. منح ذوى القدرات الخاصة المشاركة بمهرجان الإسكندرية مجانا    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    من تنظيم مستويات السكر لتحسين الهضم.. تعرف على فوائد القرنفل الصحية    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تُقدم خدماتها الطبية ل 476 مواطناً    حزب مستقبل وطن بالبحيرة يدعم المستشفيات بأجهزة طبية    حرائق الكهرباء عرض مستمر، اشتعال النيران بعمود إنارة بالبدرشين (صور)    16 ميدالية، حصاد البعثة المصرية في اليوم الثاني من دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الوزراء يتابع مع وزيرة التخطيط استعدادات إطلاق السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطيب صالح .. هجرة النص وعودته
نشر في صوت البلد يوم 12 - 05 - 2012

صباح تلك الجمعة الحزينة، وقبل أن تشرق الشمس، كنا حشداً كبيراً ومتبايناً من الأهل والأقارب والأصدقاء في إحدى صالات مطار الخرطوم المعدة لكبار الزوار..نمتلئ مغصاً وحزناً وتوتراً، ننتظر عودة النص الصامت من مصبه البعيد إلى منبعه الذي لم يكن في تلك اللحظة صافياً أبداً، ولكن متعكراً إلى أقصى حد.كان بعضنا يملك اسماً وموقعاً أو سلطة وبعضنا لا يملك سوى دمع غزير جاء يبكي به، كان بعضنا كهلاً يتوكأ على عصا السنوات، وبعضنا يافعاً أو متوسطاً في العمر.الصحافة.. الكاميرات، التقارير الإخبارية، بذور اللمعان والشهوة، ولكن الطعم مر، والذي نستقبله في ذلك الزمان والمكان، لن يمد يداً مبدعة يصافح بها، لن يفرد صدراً كبيراً يحتضن به كما اعتاد دائماً، ولكن سينساب خفيفاً بين أيدٍ ستحمله، سيلتف بالعلم الأخضر الذي طرز خصيصاً للفه.. سيمكث على مقطورة من الحديد لعشر دقائق، يتزاحم فيها الناس يبحثون عن وجهه ورائحته، وسيحمل في عربة إسعاف صغيرة هي آخر مطية، يمتطيها النص الذي امتطى الشهرة والمجد لسنوات طويلة ملأ فيها الدنيا وشغل الناس.
في التاسعة تماماً من صباح نفس الجمعة، وفي مقبرة البكري العتيقة في مدينة أمدرمان، بجوار أم الحسن، وسكينة القروية، وسعيد ود أحمد، وموسى وأبي القاسم، دفنا الطيب.. دفنا النص المبدع الموحي، الرجل القامة القمة، الخال الذي كل نساء السودان أخوات له، وكل أبنائهم أبناء أخوات.. ولكن هل دفناه حقاً.. هل يمكن أن يدفن نص بهذا الحجم؟
أول مرة التقيت بالطيب، كان في عام 1972، العام الذي مات فيه والده محمد صالح، وعمه إمام صالح، وآخرون من أهل قرية كرمكول، سقطوا بأمراض بسيطة، لكن لم تكن القرية بمستشفاها الريفي المتواضع الذي يحوي طبيباً واحداً، ومساعدي تمريض وعدة حقن من حقن الملاريا، تملك علاجاً لهم.. سافرنا من مدينة بورسودان الساحلية حيث نقيم، إلى تلك القرية، لنتلقى العزاء في فقد الجد الذي كان أيضاً علامة من علامات القرية، ورجلاً محباً للعلم والتعليم، وجاهد جهاداً مستميتاً حتى تعلم الطيب وتعلم أخوه بشير، وأبي الذي هو ابن أخته، وكثير من أبناء القرية كان ينتزع لهم مقاعد في فصول المدارس التي كانت محدودة بشدة في تلك الأيام ولا تتوفر إلا لأبناء النخب. كان الجميع مشغولين بالفقد، وكنت تلميذاً ابتدائياً، لا أعرف الفقد، ولا أحس بمرارته، ولكن أعرف الشهرة وأن لي خالاً يملكها وسأراه لأول مرة وقد هاجر إلى بعيد حتى قبل أن تتزوج أخته، وصنع ذلك المجد الذي لم يصنعه أحد.. كنت أرسم الطيب في خيالي، أرسمه نجماً من أولئك الذين كنت أشاهدهم في سينما الخواجة المجاورة لبيتنا في مدينة بورسودان.. هو بلا شك يشبههم، أحاور والدي المشغول في العزاء ووالدتي التي تبكي أباها، أسألهم عن الطيب ولا يرسمون ملامح محددة ولكن بعض ملامح لا تشبع فضولي. وحين توقفت عربة من تلك التي تنقل الناس والبضائع بين القرى والعاصمة في سكة الوحل ولا توجد مواصلات غيرها في ذلك الزمان، أسرعت برفقة الجميع لاستكشافها، وفوجئت حين هبط المسافر الوحيد..وأسرع الجميع لتعزيته أو البكاء معه، لم يكن ذلك الذي رسمته نجماً بالبدلة ورباط العنق والبريق الذي يشع ويغمر، ولكن كان مواطناً عادياً، قروياً بسيطاً يشبه الذين أحاطوا به في كل شيء، يرتدي الجلباب والعمامة، وينتعل حذاء بنياً من الجلد، ويتلقى العزاء من أناس كان يعرفهم تماماً، يسألهم عن حياتهم وأخبارهم، واستغربت بشدة.. كيف يكون النجم قروياً بهذه البساطة، وكيف يأتي حامل الشهرة هكذا على عربة يقودها (ختوم حسن)، الذي كان واحداً من سائقي السفر المعتمدين في خيالات الفقراء، يبهر القرويين بشدة حين يقهر تلاًّ رملياً أو يخرج من طين ووحل، لكنه لا يبهر أبناء المدن بأي حال من الأحوال.. هكذا هو
الطيب..الذي أزعم أنه صادق السائق في رحلة السفر تلك، وأزعم أن السائق قد اعتمده خالاً.. وأصبح يزهو به كما يزهو الآخرون.
قدمني والدي للطيب حين سنحت فرصة التقديم، قال له.. إنه ولدي الكبير الذي يقرأ كثيراً، ويحاول كتابة الشعر ويفاخر بك بين زملائه في المدرسة، وأكرمني الطيب بشدة، وقَّع لي على كراستين مدرسيتين، إهداءً مجاملاً.. كتب فيه.. إلى أمير تاج السر.. إبن أختي علوية.. عربون محبة من خالك الطيب.. وقع بقلم الحبر الرخيص الذي قدمته له، وأحسست أنني قد حصلت على كنز، وقد كان بالفعل كنزاً ظللت أحتفظ به لسنوات طويلة، أحمله إلى المدرسة حيث يطالعه التلاميذ ويحسدون، يطالعه المدرسون ويغتاظون، ثم ليتفتت الورق، ويضيع الكنز، لكن لا يضيع عربون المحبة الذي قدم لي في تلك السنة.. وطوال وجود الطيب في العزاء الذي كان ثلاثة أيام، كنت لصيقاً به.. أستمع إلى صوته المميز وأتمنى لو امتلكته، أسمعه يحاور شخوصه القرويين، يعد بعضهم بكتابته في رواية جديدة، ويجامل البعض مؤكداً لهم بأنهم من ظهروا في رواياته، وكانوا في الغالب أميين لا يعرفون عن تلك الروايات إلا رذاذاً وصفه لهم بعض المتعلمين.
كان من أهم ما لاحظته على الطيب في تلك الفترة، هو موهبة الإنصات.. الإنصات الواعي والصابر لأناس يتعذب الصبر من الإنصات إليهم.. تجتمع المجالس وتنفض وهم يثرثرون، تجتمع وتنفض مرة أخرى، وما زالوا يثرثرون.. والطيب ينصت..كان يعتبرهم كما أخبرني بعد ذلك، رواة شفاهيين كان يمكن أن يبدعوا لو نالوا قسطاً قليلاً من التعليم، وقد كان أحد أعمامه واسمه حمزة، يملك موهبة رص الكلام في جمل ممتلئة بالحكم، وكانت في أغلبها جملاً هجائية أو تصف حالة من حالات عدم رضائه،.كان الطيب ينصت إلى عمه ولا يمل.. يقول إنه كان يمكن ان يصبح شاعراً هجاء، تماماً كالفرزدق لو تعلم.. أيضاً كان يوجد اسماعيل، حكاء المغامرات الغريبة في صحارى لم يزرها، وبحار لم يصارع موجهاً، والدافئ في أحضان نساء لم يعرف دفئهن أبداً، الرجل الذي التقى بالممثل عبد الوارث عسر وصادقه، ولم يزر مصر أبداً في حياته، ولا زار عبد الوارث قرية كرمكول بالطبع.. كان اسماعيل في عرف الناس.. حكاء كاذباً يفرون من مجالسه.. وفي عرف الطيب روائياً فذاً تنقصه حروف الكتابة والقراءة.
في إحدى السنوات زارنا الطيب في بورسودان، نزل في بيتنا المتواضع، وتقاطرت عليه الناس.. بعضهم يعرفه وبعضهم ينساق خلف شهرته ويود معرفته، وأذكر أنني قدت إليه صحفياً مغموراً أراد أن يجري معه حديثاً لإحدى المجلات الفقيرة، قدمت له الرجل على استحياء وتوقعت أن يرفضه، وقد غضب والدي لكن الطيب لم يغضب، وجدته يجلس إلى الرجل الذي لم يكن قد قرأه أبداً ولايعرف عنه سوى ما يكتبه الآخرون عن أدبه وفنه.. ولا كان يفهم حتى ذلك الذي يكتب.. سأله أسئلة سطحية جداً.. وأجاب الطيب عنها بعمق غطى على سطحيتها، وحين نشر ذلك الحوار.. أصبح الصحفي علماً من أعلام المدينة، يحمل مجلته في كل مكان.. يزهو بما حوته، ويضيف صداقة حميمة جمعته بالطيب، لم تكن في الواقع موجودة، لكنه استخلصها من حفاوة الراحل العظيم.. كان يقول لي.. إنني قضيت يومين كاملين أطارد أحد المغنين الذين لا يملكون ربع ما يملكه الطيب، ليمنحني كلمة ولم يمنحني، وظننت أنني سأطرد من بيتكم.. أهنئكم على هذا الرجل العظيم. وفي تلك الأيام أيضاً، كانت موهبة الإنصات عند الطيب عظيمة، ذلك حين التصق به أحد الحزبيين المعروفين بكثرة الكلام، ولم يكن يترك فرصة لأحد، لكن الطيب لا يقاطعه.. ينصت وينصت حتى يتعب حلق الكلام عند ذلك الحزبي الغريب.
ماذا كان يدور بين الطيب وأخويه..وليس لديه من الإخوة سوى علوية وبشير..
كان بشير في الواقع صديقاً حميماً للطيب، القاضي الرسمي الذي انتهج الصراحة مسلكاً طوال حياته، هو أيضاً مثقف كبير، وقارئ واعٍ للآداب والعلوم، وشاعر أحياناً حين يصفو مزاجه، وبهذه الخاصية لم يكن أخاً فقط للطيب، ولكن صديقاً ومحاوراً، وحين يلتم شمل أولئك الإخوة، لا تبدو الأخت علوية التي لم تتعلم، بعيدة عن الطقس أو دخيلة عليه، لأن الحوار كان قريباً منها والطيب بثقافة الريف هو أخوها القديم نفسه، أخوها الذي يحتفي بالأساطير وحكايات الجن المبذورة في تراث القرويين، حكاية الشيخ (ود دوليب وأولاده الستة) المدفونين في كرمكول، صلاحهم وتقواهم وغبار أضرحتهم الذي يعتبر بركة يتبرك بها الناس.. هنا تواضع الطيب وإخلاصه للقرابة والقرية، وتفرد ذلك الكبير الذي لا يشبه أي تفرد آخر.
لقد أصبحت كاتباً روائياً فجأة.. لم أخرج من عباءة الطيب حقيقة كما يروج بعض الكتاب، لكنني تمنيت لو خرجت من تلك العباءة، وهي عباءة ظليلة كانت ستظلني بلا شك كما أظلت آخرين.. كتبت كرمكول ونشرتها عام 8891 وعرضتها على الطيب الذي أبدى بعض الملاحظات، لكنه لم يقل أبداً إنها تشبه أعماله.. كان يشجعني على الاستمرار وأحسبني استمررت بذلك التشجيع.
والآن مضى زمن طويل..آخيت فيه الكتابة بشدة، كنت أرى الطيب باستمرار.. أجالسه جلسة الصديق ورفيق الكتابة، أهديه ما كتبت ونشرت، وأسمع مايزودني به وبذلك الصوت الذي لم يتغير أبداً منذ سمعته في تلك الهيئة القروية في ذلك العزاء البعيد.
الآن أود الحديث قليلاً عما قدمه الطيب للكتابة السودانية والعربية، وجعله ذلك الشامخ الذي وصف بالعبقرية، وتذوقته الشعوب بمختلف أذواقها ورطاناتها، خاصة في رائعته موسم الهجرة إلى الشمال التي عُدّت واحدة من أفضل مائة عمل روائي كتب في القرن العشرين وعرس الزين، أشهر الأعراس المكتوبة روائياً.
في الواقع، كان حال الكتابة السودانية قبل ظهور الطيب في منتصف ستينيات القرن الماضي، حالاً (مائلاً) كما يقولون.. لم تكن ثمة كتابة حقيقية، أي كتابة بنيت على موهبة كبيرة، أو ثقافة شاملة كثقافة الطيب، كانت ثمة رواية اسمها الفراغ العريض كتبتها (ملكة الدار محمد)، وانتهت في نعاسات المراهقين وعشاق تسلية ما قبل النوم، كان يوجد أبو بكر خالد بثلاث روايات كتبت بمحدودية، وقرئت بمحدودية، ولا يتذكرها أحد الآن، يوجد آخرون لم يرتفعوا إلى أكثر من آخرين، وكانت ثمة مجلة وحيدة تُعنى بشؤون القصة، يشرف عليها أحد المثقفين، تقدم نماذج لقصص موغلة في المحلية، وضعيفة في صياغاتها، ولم يخرج من بين صفحاتها اسم لامع برغم استمرارها لزمن ليس بالقصير..ومن المفارقات أن الطيب نفسه قدم لتلك المجلة قصته المعروفة (نخلة على الجدول) المنشورة في مجموعته دومة ود حامد، لكن المجلة لم تنشرها، وكانت نصيحة بتكثيف القراءة وإعادة المحاولة، تلقاها من محرر المجلة.. ذلك الوقت، هاجر الطيب إلى بريطانيا للعمل في الإذاعة البريطانية وكان يحمل مخطوطاً لرواية عرس الزين التي كتبها أولاً، هناك في غربة الثلج والصقيع ومعتمداً على صراع الغربة، وذاكرة المبدعين التي لا تنسى، كتب موسم الهجرة ونشرها، ومن هناك وصلت الهجرة معكوسة إلى بلاده، ليكتشف الذين كانوا يرافقونه في مشوار حياته في السودان، أنهم كانوا يرافقون نهراً من دون أن يدروا لتكتشف مجلة القصة، ضعفها ومسكنتها، ويبدأ العزّ الذي ستناله الكتابة السودانية والعربية بعد ذلك.ما قدمه الطيب في موسم الهجرة وعرس الزين وبقية أعماله القليلة، في رأيي، هو الاكتشاف، هو التقاط العوالم المدهشة من الريف، وتوظيفها أكثر إدهاشاً، فشخصية الزين المستوحاة من شخصية (الفضل طه)، عم والدي، هي شخصية قد يوجد مثلها في جميع الأرياف، شخصية كانت تعيش غريبة وموحية بين الناس، من دون أن يحس أحد بغرابتها، وإيحائها، لقد التقط الطيب تلك الشخصية، أخذ من غناها وأغناها ليكتب لنا رواية ما زالت تعيش في الوجدان، أيضاً شخصيات أخرى مثل شخصيات سعيد عشا البايتات، ومحجوب، والطاهر ود الرواس وغيرهم، هي شخصيات عاشت في الريف ولا تزال شخصيات تشبهها تعيش هناك حتى بعد أن تمدن الريف، وما كانت ستلفت النظر لولا بهارات الطيب وموهبته في الكتابة، ولو دققنا في عوالم الطيب، لعثرنا على تراثنا وأساطيرنا وتاريخنا وسحرنا وغموضنا، موجوداً بواقعية سحرية لعلها سبقت سحرية اللاتينيين التي هزت التذوق العالمي بعد ذلك.
وأعتقد أن ما قدمه الطيب، أو ما كشفه الطيب من ذلك الإدهاش، أصبح عائقاً أمام الكتابة السودانية، خاصة لدى أولئك الذين يستوحون كتاباتهم من شمال السودان، هم يسيرون على درب عُبِّد سلفاً، ويجتهدون في محاولة اكتشاف حفرة لم يردمها الطيب، أو جدولاً لم يغرف من مائه، أو ساقية كانت تنوح على النيل ولم يسكت نواحها، وفي الغالب يكتشفون في النهاية (تطيبهم)، أي أنهم يتبعون آثار كتابة حفرت بعمق وردمت بعمق أيضاً.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً، توقف الطيب عن الكتابة، ولعله توقف في سن يبدأ منها الكثيرون، بينما مجايلوه في أماكن أخرى، لم يهجروا الدرب أبداً، وظلوا يسيرون عليه حتى بعد أن تقطعت أنفاسهم وأضحى فعل الكتابة خيانة للجسد والذهن معاً. الذين علقوا على هذا الموضوع، رددوا أن الطيب عرف متى يتوقف، لاعب الكرة الماهر الذي لم يرد أن يسقط في مباراة حاشدة، الذي لم يود أن يكرر محاوراته وتمريراته، وفضّل أن يحتفظ بمجده متفرجاً على اللعبة من بعيد. هذا الرأي قد يكون صائباً إلى حد ما، خاصة أنني قرأت أعمالاً أخيرة لكتّاب مثل الكولومبي ماركيز، لم تكن بعيدة عنهم فقط، لكني أخالها مزعاً ظاهراً في قميص المجد الزاهي الذي صنعوه، وسميت ذلك في إحدى مقالاتي بشيخوخة الكتابة، أو (الزهايمر) الكتابة، حين ينسى المبدع مفرداته ويكتب بمفردات الزهايمر. لكن الطيب وفي حواراته المتعددة معي أو مع غيري، كان يردد دائماً، إنه لم يكن في الأصل كاتباً، إنه رجل عادي، مزارع من الشمال أصيب بمرض مؤقت اسمه مرض الكتابة وشفي منه منذ وقت طويل، وحين ألححت عليه بزيارة السودان بعد غيبته الطويلة، والجلوس إلى أحفاد شخوصه ومحاورتهم في قرية كرمكول الحديثة، لعل المرض ينشط في دمه مرة أخرى، ويتحفنا بنص ننتظره، ذهب بالفعل، جلس وحاور، لكنه عاد إلى غربته بلا نص، وفوجئت به في آخر حوار أجراه معه تلفزيون السودان، في الصيف الماضي، يتحدث في السياسة بإسهاب، ويتحدث بلا اقتناع حقيقي، إنه سيكتب عملاً جديداً إذا مد الله في عمره وكانت جملته تلك بلا شك، جملة رددها حلق الموت الذي كان يرفرف حوله، ويعرف الطيب ذلك عن يقين. شخصياً أميل إلى ذكاء لاعب الكرة الماهر، إلى فعل المصالحة الذي ينشأ بين المبدع وإبداعه، واتحادهما معاً، لقهر الزهايمر الكتابي.
الآن رحل الطيب صالح. الطيب محمد صالح أحمد، كما وثقت الشهادة الرسمية، ووثق شاهد القبر.. هو ترك باب الكتابة لغيره مفتوحاً، لم يغلقه ويحمل مفتاحه معه، وفي نفس الوقت ترك على الباب شعلتين، إحداهما مضيئة جداً، والأخرى متروكة لمن يستطيع أن يضيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.