شرايين الحياة إلى سيناء    حزب أبناء مصر يدشن الجمعية العمومية.. ويجدد الثقة للمهندس مدحت بركات    كيف أثر مشروع رأس الحكمة على أسعار الدواجن؟ (فيديو)    لميس الحديدي: رئيسة جامعة كولومبيا المصرية تواجه مصيرا صعبا    قطارات السكة الحديد تغطي سيناء من القنطرة إلى بئر العبد.. خريطة المحطات    «القاهرة الإخبارية»: مواجهات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين أمام وزارة الدفاع فى تل أبيب    مصر تواصل الجسر الجوى لإسقاط المساعدات على شمال غزة    تعليق ناري من أحمد موسى على مشاهد اعتقالات الطلاب في أمريكا    رقم سلبي تاريخي يقع فيه محمد صلاح بعد مشادته مع كلوب    محافظ القاهرة: استمرار حملات إزالة التعديات والإشغالات بأحياء العاصمة    "مستحملش كلام أبوه".. تفاصيل سقوط شاب من أعلى منزل بالطالبية    جريمة طفل شبرا تكشف المسكوت عنه في الدارك ويب الجزء المظلم من الإنترنت    "الإسكندرية السينمائي" يمنح وسام عروس البحر المتوسط للسوري أيمن زيدان    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية «بيكلموني» التريند في 3 دول عربية    عزيز الشافعي عن «أنا غلطان»: قصتها مبنية على تجربتي الشخصية (فيديو)    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    "اشتغلت مديرة أعمالي لمدة 24 ساعة".. تامر حسني يتحدث عن تجربة ابنته تاليا    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    افتتاح المدينة الطبية بجامعة عين شمس 2025    غدا.. إعادة إجراءات محاكمة متهم في قضية "رشوة آثار إمبابة"    80 شاحنة من المساعدات الإنسانية تعبر من رفح إلى فلسطين (فيديو)    ما هي مواعيد غلق المحال والكافيهات بعد تطبيق التوقيت الصيفي؟    صور.. إعلان نتائج مهرجان سيناء أولا لجامعات القناة    سمير فرج: مصر خاضت 4 معارك لتحرير سيناء.. آخرها من عامين    حبست زوجها وقدّمت تنازلات للفن وتصدرت التريند.. ما لا تعرفة عن ميار الببلاوي    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    «الحياة اليوم» يرصد حفل «حياة كريمة» لدعم الأسر الأولى بالرعاية في الغربية    أمل السيد.. حكاية مؤسِّسة أول مبادرة نسائية لتمكين المرأة البدوية في مطروح    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    طاقة نارية.. خبيرة أبراج تحذر أصحاب برج الأسد من هذا القرار    أنس جابر تواصل تألقها وتتأهل لثمن نهائي بطولة مدريد للتنس    بالصور.. مجموعة لأبرز السيارات النادرة بمئوية نادى السيارات والرحلات المصري    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    عاجل.. وزير الخارجية الأميركي يتوجه إلى السعودية والأردن وإسرائيل مطلع الأسبوع    بطولة إفريقيا للكرة الطائرة| الأنابيب الكيني يفوز على مايو كاني الكاميروني    ليفربول يُعوّض فينورد الهولندي 11 مليون يورو بعد اتفاقه مع المدرب الجديد    النيابة تطلب تحريات إصابة سيدة إثر احتراق مسكنها في الإسكندرية    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    بلينكن في الصين.. ملفات شائكة تعكر صفو العلاقات بين واشنطن وبكين    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    ضبط عاطل يُنقب عن الآثار في الزيتون    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    عمرو صبحي يكتب: نصائح لتفادي خوف المطبات الجوية اثناء السفر    أستاذ «اقتصاديات الصحة»: مصر خالية من شلل الأطفال بفضل حملات التطعيمات المستمرة    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي خيري شلبي‏:‏ الكل يعمل‏(‏ بلقمته‏)!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 07 - 2010

شأن الفحم الأصيل القابل للاشتعال بأقل مجهود يصوغ الروائي المبدع خيري شلبي من تجاربه الذاتية وطفولته الشقية عالما سحريا من الحكي‏. عالم يحفل بالكتابة عن الأرض والفلاح وأصحاب الحرف بلغة طازجة تنتفض مع الأحداث وتراعي مقتضي الحال‏..‏ فالكاتب هذه المرة وبعد طول انتظار لا يستدعي التجربة بالإلهام الفني فقط ولكنه متورط في الحكي مشارك في الوقائع‏..‏ متجذر في أعماقها فالهوية ريفية وهو حريص علي ذلك‏,‏ كتبت البرجوازية والارستقراطية عن القرية مرارا لكن الانصهار التام بغرض النقاء والتخلص من الشوائب والمعايشة الحقيقية كان رائدها خيري شلبي عن جدارة كما شهد بذلك نجيب محفوظ‏..‏ استثمر الروائي الكبير لحظات الحزن والشقاء المزمن في حياته وحولها إلي قصص وروايات تحكي عن قاع القاع في الريف والأحياء الشعبية‏,‏ أما محور أدبه فيكشف ان الكدح هو الوعد والمكتوب وأن اهتمامه بالمهمشين ليس لانهم مهمشون فحسب ولكن من منطلق اعتبارات عديدة في مقدمتها العدالة الاجتماعية حرصا علي ما تبقي داخلهم من مبادئ‏..‏ فالحياة هيصة كما جسدها في رواية صالح هيصة وياتلحق‏..‏ يامتلحقش فكيف ينجو الانسان بنفسه يوميا من هذا الصراع المرير وهل الحياة المقرونة بهذا القلق الوجودي لم ينج منها الريف أيضا؟ أبطاله في المقابل خليط متنوع من البشر معظمهم من البسطاء يلهجون بالرضا والحمد‏,‏ ويتسع المدي في حواراته حيث يجد العامة متعتهم وخاصة الخاصة ضالتهم‏,‏ فالموروث الشعبي الذي يتكئ عليه متعدد التفسيرات‏,‏ خيري شلبي بيانه ملك بنانه كما يقول حافظ ابراهيم‏.‏ فهو يكتب بسلاسة متفردة‏..‏ بطل خيري شلبي مصري أصيل دائم البحث عن العدل في الأرض والخلاص في السماء‏..‏ صبور يؤمن بتعاقب الليل والنهار لكنه عندما يهان يثور‏..‏ انه الفلاح الأصيل كما صوره أيوب الرواية العربية خيري شلبي فيما يقرب من سبعين رواية ترجمت إلي عدة لغات
قال سقراط أعرف نفسك بنفسك وقد فعلتها كثيرا في رواياتك‏'‏ الأوباش الوتد وكالة عطية وغيرها‏'‏ فلتحدثنا عن سيرتك الذاتية باعتبارها من أهم ينابيع إبداعك؟
ولدت في أسرة كبيرة فوالدي كان لديه‏17‏ ابنا نعيش في قرية شباس عمير بدمنهور جدي كان يعمل ناظرا لأرض الخديو ومنح أرضا زراعية من السرايا كان نصيب والدي منها قطعة أرض معظمها بور فتزايدت الأعباء علي أبي يوما بعد يوم وكان لابد أن أعمل أثناء فترة الدراسة وأنا في العاشرة من العمر‏..‏ تنحدر عائلتي من أصول تركية ومصرية وشركسية وأمي تنتمي للعرق الأخير لذلك كانت عائلتي بها ازدواجية لونية الأشقر الفاتح أو عدو الشمس كما يقال والأسمر فأخي‏(‏ علي‏)‏ وهو اصغر مني بثمانية عشر عاما أسمر للدرجة التي تشكك من يراه في ارتباطه الأخوي بنا وقد عثرت علي صورة لي بالصدفة واعتقدت للوهلة الأولي أن صورتي المنشورة في أحدي المجلات لأخي علي منذ ذلك اليوم تأكد لي أن الملامح الأصلية تكمن تحت لون البشرة ولكن كلما تقدمنا في العمر ينهزم لون البشرة وتنتصر الملامح والتقاطيع فالمضمون الاجتماعي والنفسي والثقافي والمهني لاي إنسان هو الذي يشكل ملامحه بنسبة‏90%‏ فالنجار مثلا قوي الساعد وقد تتقلص عضلات وجهه في أثناء نشر الخشب وتكرار هذه الحركات يصيب الملامح بصفات جديدة لأنه يثبتها علي أوضاع بعينها فالملامح الخارجية قد تكون مفتاحا من مفاتيح النفاذ لأعماق الإنسان وأستكشافها‏.‏
كيف سارت بك الحياة وأنت تمتلك هذه الحساسية الفطرية وتمكنت من النفاذ بموهبتك متخطيا المصاعب العامة والخاصة آنذاك؟
عندما بلغت العاشرة قررت الالتحاق بعمال التراحيل وسافرت معهم في هذه السن الصغيرة أحمل زادي من الذكريات الغضة البريئة و‏(‏زوادي‏)‏ من العيش والقراقيش ومصروف ربع جنيه لمدة‏15‏ يوما وكانت التجربة ثرية جدا غيرت مجري حياتي وفتحت لي آفاقا جديدة فالعمال والأنفار معظمهم لا يقرآون ولا يكتبون فكنت أقوم بكتابة الخطابات لهم وأدركت منذ تلك اللحظة أن الحكي أداة سحرية للتواصل والالتحام بين البشر فالإنسان كلما توغل في العلم يتقوقع داخل ذاته ولم يكونوا كذلك بالطبع لقد تعلمت من هؤلاء الأنفار ما لم أتعلمه من بطون الكتب والمراجع تعلمت منهم الفلكلور واللغة الحقيقية المعبرة عن القاع الاجتماعي وبعد حصولي علي الابتدائية وكنت من العشرة الأوائل علي القطر التحقت بمعهد المعلمين بدمنهور وكرهت الدراسة به لأن المدرسين كانوا منحازين لابناء البلدة ولم يكونوا فقراء مثلنا لكننا كنا متفوقين وتدريجيا كرهت الدراسة بالمعهد نتيجة للشعور بالتفاوت الطبقي؟
هل كان هذا التفاوت الطبقي خفيا لم تشعر به من قبل؟
التفاوت الطبقي كان متجذرا في المجتمع المصري بصورة تدعو للتأمل فقد آتت الصدمة الأولي من مكمن المعاناة والقهر حيث اكتشفت أن عمال التراحيل لديهم ميراث راسخ في الطبقية والتراتبية؟‏!‏ فالأنفار كانوا ينقسمون إلي فئتين‏:‏ الفئة الأولي تسمي‏(‏ القيدة‏)‏ أي الأنفار الأصحاء المدربون القادرون علي تحمل المشاق والعمل في العزيق وتطهير المصارف وما إلي ذلك من أعمال مرهقة وأجورهم مرتفعة نسبيا والفئة الثانية تسمي‏(‏ الساقة‏)‏ أي الأنفار الأضعف بنية الذين يساقون إلي العمل ويعهد اليهم بجمع الثمار والتقاط اللطع وحين نضجت اكتشفت أن مفهوم الأنفار يتسع ويشمل المجتمع المصري بأكمله فكلنا أنفار نعمل في معية الدولة ينطبق علينا نفس الترتيب الطبقي والجميع يعمل‏(‏ بلقمته‏).‏
ما هي العوامل البيئية والعائلية التي ساهمت في تشكيل موهبتك الأدبية التي يغلب عليها الطابع الشعبي والمفردات القروية الأصيلة؟
يجيب خيري شلبي علي الفور‏:‏ لأنني قرأت واستمعت في منزل والدي لكل ما هو أصيل فقد كان يمتلك مكتبة كبري تحوي ما يقرب من ثلاثة آلاف كتاب وكان لديه جرامفون واسطوانات لأعلام الغناء وكان عضوا بحزب الوفد وخرج علي المعاش من عمله في هيئة المواني في سن مبكرة لكن البيئة التي نشأت فيها ثقافيا كانت غنية جدا بسير العظماء والمأثور والأمثال الشعبية والحكايات مثل أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة وألف ليلة وليلة ودواوين الشعر والكنوز الصوفية منه وأمهات الكتب والأدب الروسي القيصري فتشكل وجداني من هذه النفائس وأصبحت كتاباتي جدائل من هذا المخزون الشعبي والخبرة الحياتية فقد عملت في مختلف المهن فكنت بائعا لزهرة الغسيل وعامل انفار وصبي ترزي ونجارا ولم استقر في واحدة لأنني كنت بحكم تكويني النفسي متمردا علي الحياة في القرية صحيح أن أسرتي لها تاريخ فوالدي عاش حياة رغد في الماضي وألقي كل ذلك بظلاله علي شخصه ولكن بالإضافة لتغير وضعه المالي وكثرة أولاده وظروف البلاد في الحرب العالمية الثانية في ظل الاحتلال وكانت تشعر الأغلبية بالضيق إضافة ليقين كان يراودني بأنه ثمة حياة أفضل تنتظرني‏..‏ حياة أكثر إشراقا واحتراما وكان هذا الشعور يدفعني دوما للتمرد وقد بدأت بشائر الموهبة وأنا في الخامسة من العمر فكنت ذا خيال خصب اختلق بعض الحكايات ولم أبلغ الثانية عشر بعد حين أكملت قصة‏'‏ المأساة الخالدة‏'.‏
في حياة كل منا مشاهد لا تنمحي والعمل الحرفي يتطلب قدرة خاصة لأنه مضن تصحبه معاناة فما الذي استقطرته من خلاصة هذه التجارب في بداية حياتك؟
يأخذ عم خيري نفسا عميقا من سيجارته ويصمت ثواني وكأنه يرتحل في الزمان مرة أخري ولكن بعد أن انفض السامر واستقرت الدروس المستفادة في اعماقه قال‏:‏ توجد قيمة جدلية من التأثير والتأثر بلاشك يوجد مشهد وأنا أتعلم الخياطة كنت في العاشرة حين تعلمت صنع العراوي يدويا وكيفية تركيب الزراير ثم تعلمت تركيب القطان علي الجلابية واعتدل عم خيري ووضع ساقه اليمني علي اليسري وشرح لي كيف يتم وضع الثوب بطريقة معينة وتثبيته تمهيدا لتركيب القفطان الذي يتكون من أربع أو ست أضلاع في مكانه الصحيح بإبرة صغيرة تسمي السنيورة بحيث تمر بخفة ودقة من تحت الضلع فتختفي الغرزة ولكن إذا أخطأ الصبي ورحل الإبرة للضلع المجاور فالقطان يلف معه ويصبح عيب صنعة لا يقبله الأسطي الكبير الجالس بجوار بنك الخياطة فيقوم علي الفور بضرب الصبي بالمتر الخشب لكي ينتبه ويستعدل القطان حتي لا يهرب منه مرة أخري وقد عانيت من تلك الدقة المطلوبة في الصنعة وضربت مرتين ضربا قاسيا‏,‏ هذه التجربة تحولت إلي خبرة خاصة في الكتابة ناتجة عن خوفي من هروب الضلع وتأكدت أن قدرتي علي التركيز في موضوع بعينه لاعتيادي المحافظة علي ضلع القطان والضلع الأصلي للموضوع عندما أصبحت كاتبا وقد دونت هذه التجربة في روايتي التي تحمل اسم‏(‏ العراوي‏)‏ وكان الخط الرئيسي للرواية يدور حول عدم تواصل الأجيال وافتقاد الحكي من الأجداد إلي الآباء ثم الأبناء فنحن نربي أولادنا ولا ننقل لهم تاريخ عائلاتهم أو أصولهم ومنابتهم فتتسع الفجوة وتقطع الخيوط بحجة ضيق الوقت لذلك أصبح النسيج الاجتماعي مهترئا بالرغم من وجود العراوي والزراير التي تضمن وضع الأمور في نصابها الصحيح لكننا لا نفعل علي المستوي الفردي والعام ولا نحاول تجميع الخيوط من أجل السلامة الاجتماعية يوجد مشهد آخر مؤثر أيضا وأنا أتعلم النجارة استلهمت منه قصة‏(‏ عدل المسامير‏)‏ وكانت تلك مهمتي في البداية فالنجار قد يشتري أنقاضا من الأبواب والشبابيك ويقوم باستخراج المسامير ويعهد إلي مساعديه باستعدالها بالشاكوش لم أكن أتجاوز الحادية عشر حين تعلمت هذه الصنعة وكنت أخرج مع النجار في بعض الأعمال وذات يوم صحبته في مهمة لتركيب سقف لدار في القرية ومن أساسيات الصنعة تركيب لوحين من الخشب طوليا لكي يجلس عليها النجار ومن يعاونه ويستكمل من خلالهما بقية السقف وكان لابد من الانتهاء من التركيب في نفس اليوم وأدركنا الوقت فاستعان النجار بكلوب جاز برتينة وكنت معه في ذلك اليوم أناوله العدة المطلوبة بسرعة أربكتني فخبطت يدي رتينة الكلوب وانكسر وظللنا ساعتين بدون إضاءة نبحث عن رتينة وبعد أن أنتهينا من تركيب السقف فوجئت به يمسكني من طرف الجلابية ويقوم ببرمها حول قدمي ودق مسامير في أطرافها وغادر المكان وتركني مقلوبا معلقا في السقف رأسي متجهة علي الأرض والناس حولي خائفون من سقوطي علي رأسي‏..‏ أما مشاعر الخوف والذعر التي استقرت في وجداني فإنها لا تحتاج لمزيد من التوضيح‏..‏ فقد أصبحت منذ ذلك اليوم وحتي هذه الساعة أشعر بأنني معلق في السماء في نفس هذا الوضع واهوي دراسة الأوضاع المقلوبة رأسا علي عقب فهي تشدني وتجتذبني بغرض عدلها‏..‏ فالحياة حولنا مليئة بأناس يستحقون أوضاعا معدولة فلماذا يعيشون هذه الحياة رءوسهم منكسة في الأرض وأرجلهم في السماء‏.‏
هل لابد أن تكون التجربة عملية وبهذه القسوة والعمق لكي تترك أثرا في النفس ؟
لا‏.‏ ليس بالضرورة بالطبع فهناك بعض المهن التي نتعلم من أدبياتها مثل‏(‏ الحدادة‏)‏ فهي تعلمنا كيف نطرق الحديد وهو ساخن مثلا‏..‏ واستغلال الفرصة السانحة واللحظة المناسبة للحصول علي ما نريد من الطرف الآخر‏..‏ وهذه ميزة المأثور الشعبي الذي يحمل تفسيرات متعددة‏.‏
ما هي المواقف الهامة في حياتك التي طرقت فيها الحديد وهو ساخن ؟
يبتسم عم خيري ويقول‏:‏ للأسف لم أكن موفقا في معظم الأحيان في طرقه لأن طبيعتي ليست‏(‏ نفعية‏)‏ فأنا أشبه بأصحاب الرسالات الذين يريدون إفادة غيرهم وذاتي تكاد تكون منفية‏..‏ فأنا بدأت الكتابة دون أن أفكر من الذي سيتولي النشر ولم أرتب لمستقبلي وكنت أفاجأ بصدور كتاب جديد لي بالأسواق‏..‏ فأفرح لمدة دقائق معدودة اختلسها من استغراقي بكتابة عمل آخر‏..‏ فأنا من مواليد برج الدلو وهو معطاء بطبعه‏..‏ لذلك لا أتردد أبدا في الوقوف بجوار الأدباء الشبان خصوصا من أشتم فيهم عطر الموهبة‏.‏
فن‏(‏ البورتريه‏)‏ الذي تجلي في كتاباتك في وصف شخصيات العظماء والأفذاذ‏..‏ ما هو الزاد الأدبي الذي أمدك بهذا الفن الراقي الذي يشبه اللوحات التشكيلية‏..‏ ؟
فن البورتريه في الكتابة يخضع لمعارف عديدة وثقافات متنوعة ودراية بعلم النفس والفراسة ودراسة أعمال هؤلاء المبدعين لكي يتسني للكاتب قراءة ملامح الشخصية التي يرسمها بالكلمات‏..‏ فأنا قارئ نهم أقرأ يوميا في المتوسط سبع ساعات وأكتب بحد أقصي ساعتين وإذا أمتد زمن الكتابة أكون حريصا علي أخذ فترات راحة فيما يتعلق بمستوي اللغة ومدي ملاءمتها للبيئة التي تعبر عنها‏..‏ فتأتي ضعيفة مثلا إذا كانت البيئة متواضعة كما يعتقد‏.‏ فهذا خطأ فادح لأن اللغة الضعيفة عاجزة دائما عن التعبير‏..‏ وربما كان الدافع الأساسي لكتابة هذا البورتريه الأدبي وطنيا خالصا‏..‏ فمنذ عقد السبعينيات والشخصية المصرية أصبحت تجنح للانتحار الذاتي وأصبح لدي الناس استجابة سريعة لدعاوي التشويه التي طالت كل الرموز والقمم خاصة بعد كامب ديفيد وقطع العلاقات مع الدول العربية التي رأت أن ضرب مصر بالثقافة والفن باعتبارهما نتاج العقلية المصرية هو الحل الأمثل لتقزيمها وأصبحت هناك حالة مسعورة لتشويه بعضنا البعض وانسحب الأمر علي المجتمع بأكمله‏..‏ فانعزلت اجتماعيا حرصا علي سلامة وجداني الأدبي والفني وقررت أن أبحث في الذاكرة عن عظمائنا وما تركوه من أثر إيجابي بداخلي وبدأت هذا اللون في أوائل التسعينيات واكتشفت أن الشخصية المصرية عامرة فيها قوام الشرف والوطنية والحب الحقيقي لمصر وحديث القيمة عن هؤلاء الرموز أمر مفروغ منه فبدأت أفتش عن منابع الجمال من خلال عدسة نافذة تخترق الحجب والأقنعة التي تختبئ وراءها الشخصية وصولا إلي أعماقها‏..‏ بعض الشخصيات لامتني لأنني أعرفها ولم أكتب عنها وغاب عن فطنتهم أنهم لم يتركوا أثرا داخلي أو أن أعمالهم لا تؤهلهم لذلك‏.‏
أنت الآن شيخ حكائي القرية المصرية وأبرز الروائيين الذين تطرقوا للعشوائيات والمهمشين‏..‏ كيف تري المشهد السينمائي الآن بعد أن تم التجارة بمتاعب الناس وهمومهم بحجة الواقعية‏..‏ حتي أصبح معظم أنتاجنا السينمائي عشوائيات تتخللها بعض الأفلام الاستثنائية ؟
بادئ ذي بدء فإن تقديم بعض الأفلام عن المهمشين لا يعني أن هذه هي صورة مصر فتجاهل هذا الواقع يعتبر خيانة للواقع والفن أيضا‏..‏ فالكتابة لها أخلاقيات ومعالجة هذه القضية لابد أن تكون من منطلق وجود فلسفة ما تحكم العمل الأدبي والفيلم السينمائي فدائما أنصح الأدباء الشبان بحتمية وجود فلسفة ما للكتابة‏..‏ فليس كل ما يعرف يقال وكل ما هو واقع لا يصلح فنا‏..‏ فالفن اختيار وانتقاء ولابد أن يكون الفنان حساسا للغاية في التقاط المشاهد المعبرة دون ابتذال ففي عهد الدولة الفاطمية في مرحلة التحول من المذهب السني للشيعي كان بعض أئمة المساجد يسبون عمر بن الخطاب علي المنابر فانتشر تعبير‏(‏ يا عوومر‏)‏ الشهير وحولته نساء مصر الشعبيات بفطنتهن لسلاح مضاد تصيب به المرأة جارتها إذا كانت سليطة اللسان وتهاجمها دائما فتقول لها يا عوومر فتذكرها بأنها مثل هذا الخطيب الشيعي المتطاول فترتدع في الحال‏..‏ فلماذا غابت هذه الفطنة المتوارثة عن الفن‏..‏ فلو اكتفينا بتصوير العشوائيات والفساد وألقينا عليهما سحر الفن فكأننا نكرس لهذه الأوضاع ونعيد إنتاجها من جديد ونلقي في روع الشباب أن الأمور هكذا ولا سبيل لتغييرها‏.‏
وما الذي أوصلنا إلي هذه الحالة من اليأس من وجهة نظرك ؟
غياب النقد وضعفه فالإبداع والنقد طرفان أساسيان في قيام أي فكر حقيقي‏..‏ فلدينا كتابات تتمسح بالنقد وتتبادل الشتائم أو تكتفي بالتوصيف الإخباري للأشياء يضيع في براثنها الموهوبون الحقيقيون وتتحقق فيها المقولة الخالدة‏(‏ العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الأسواق‏)..‏ والعامل الجماهيري الأكبر الذي لابد أن نذكره في تلك القضية يتمثل في الفضائيات فقد نشرت السواد بين الناس بتركيزها علي السلبيات والمناظر المؤذية الأمر الذي أفقد الناس تماسكهم وشعورهم بالأمل في الإصلاح لأنهم يكتفون بمهاجمة الحكومة واتهام المسئولين بالتراخي فالإصلاح لا يبدأ أبدا بالسب والطعن ولكن بمخاطبة العقل فهو المرجعية الفاصلة‏..‏ فربنا عرفوه بالعقل‏..‏ علينا الآن العمل علي تجميع أشلاء الروح المصرية كما فعلت إيزيس حين جمعت أشلاء أوزوريس فعم الرخاء والنماء في البلاد وحركة التاريخ تؤكد أنه في كل مرة تستقر المنظومة الأخلاقية تتقدم مصر الجميع وتتبوأ مكانتها الجديرة بها‏.‏
هل تشعر بأنك امتداد لمدرسة أدبية بعينها وهل من المفارقات أنك تشبه يحيي حقي شكلا وموضوعا؟
أنا ابن أربع مدارس أسلوبية عقدت تصالحات كبري مع العامية ومعظم كتاباتي العامية أصولها فصيحة لها محل من الأعراب لقد تأثرت بالمازني ويحيي حقي وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس واستفدت أيضا من شعر فؤاد حداد الذي كنت اعتبره القطب الصوفي الأكبر وكنت مريديا وأخذت العهد علي يديه كشاعر مقاومة لديه القدرة علي مواجهة الصعاب حين أقرأ شعره تنتعش أعطافي وتشرق نفسي وكان يشعرني صلاح جاهين بأن الكون بأكمله يغني بينما انفرد عبد الرحمن الأبنودي بأنه جسد تجربتي الشخصية فقد بدأت شاعرا وكنت اكتب الأغاني في الإسكندرية في بدايات حياتي وكنت حريا علي أن أواصل شعر الأبنودي لو لم يظهر في أفق الحياة الثقافية فقد كتب كل ما كنت أريد أن أقوله وأعبر عنه بسهولة وعمق حتي أصبح شعر الأبنودي هو وجداني حتي ولو كان باللهجة الصعيدية فأنا استشهد بشعره في كتاباتي واحاديثي فهو يشع وطنية لكنه دائما متأججا فيه قدر من‏'‏ النزق الجميل‏'‏ فقد يكتب قصيدة تغضب المسئولين أو الأصدقاء بلا تريث ولا حسابات مسبقة وهذا ما لم يكن يفعله غيره من الشعراء الذين يتصفون بالحكمة لأن الحكمة تعتقل المشاعر أحيانا‏.‏
وما هي أبرز ذكرياتك مع يحيي حقي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس؟
هؤلاء القمم تعلمت منهم كل ما هو جميل فيحيي حقي كان يشبهني بالفعل وقد تندهشين إذا قلت إنه كان يشبه جدتي أيضا في شكلها ونبرات صوتها واعتقد أن ثمة صلات قرابة بعيدة جدا ربما تربط بيننا فهو أبي الشرعي أدبيا تأثرت به واعتبر نفسي امتدادا له وهو من المشائين الذين يلتقطون كل ما في الشارع من لمحات كان يهوي عد عربات الكشري اعطاني درس العمر حين مزقت قصة اطلعته عليها ولم تعجبه فسألني عنها لاحقا وعلمني أنها تأريخ للأفكار الإبداعية وربما كانت مشاريع قادمة لا يصح تمزيقها فهي ورقة لن تأكل أو تشرب ومنحني يوسف إدريس الجرأة في التقاط الشخصيات التي كنت أتردد في تقديمها في أدبي وقال لي بل أن هذه الشخصيات هي التي يتسع لها مجال الأدب لكنه اعتقل اسلامي حين اصدر روايته الرائعة الحرام وكنت أنوي تقديمها من خلال تجربتي الفعلية كعامل أنفار حيث تهيأ لي التعبير عن هذه الطبقة من مستوي أقرب لطبيعتها ولكن يوسف إدريس كتب عنهم من شرفة أعلي لأنه ابن الطبقة المتوسطة لكنه كان أول كاتب روائي يصبح نجما من أدبه وكان ذلك يرضي غروري فقد أضفي علي الروائي هالة من الشهرة والتقدير أما كبير الكبراء نجيب محفوظ كان أسرع من التقدم التكنولوجي ذاته وأنهي حياته بالقصة التي لا تتجاوز خمسين كلمة اتساقا مع ظروفه الصحية واستشرافا لاختزال زمن القراءة تدريجيا‏,‏ فقد حالفني الحظ أن اعترافه بأدبي جاء في وقت مبكر منذ نشرت روايتي‏(‏ رحلات الطرشجي الحلوجي‏)‏ وهي رحلة عبر الأزمنة المختلفة أشبه بالفانتازيا التاريخية وفوجئت بأنه يتابع روايتي الجديدة الأوباش وكانت تنشر مسلسلة في مجلة الإذاعة والتلفزيون التي كنت أعمل بها وأهداني كتابه صباح الورد وجاء فيه‏(‏ هذه أول مرة أهديك كتابي بعد أن تذوقتك وأمنت بك فنانا كبيرا‏)‏ وحين سئل لماذا لا يكتب عن القرية المصرية قال أن خيري شلبي قام بهذه المهمة وكتب كما لم يكتب عنها من قبل‏.‏
لماذا جعلت الراوي كلبا في روايتك الشطار؟
الرواية كتبت في بداية عصر الانفتاح وظاهرة بيع مصر وظهور النكات الكاريكاتورية التي تتساءل‏:‏ متر مصر بكام النهاردة وكنا صحبة من الأصدقاء نجلس في مندرة بزقاق المدق وكان صديقنا إبراهيم منصور هو الوحيد الذي ينبح كلب صاحب المندرة حين يراه لأنه كان يخاف فيزيد الأدرينالين في دمائه وكان يمسك عصا والكلاب كما هو معروف تخشاها واستهوتني القراءة عن الكلاب وكل ما يتعلق بها واكتشفت أن الكلب هو آخر من يغادر المكان ولو حدث فسيكون جثة هامدة‏,‏ فقد روي نجيب محفوظ أنهم كانوا يمتلكون كلبا في منزلهم بالجمالية وسربوه في الكيت كات وحين عادوا وجدوه ينتظرهم وتوصل للمنزل وحده بدون خريطة فالكلب هو المواطن المثالي الذي يتشبث بالمكان ليتنا نصبح مثله في وفائه للأشخاص والمكان‏.‏
ما هو أجمل تعبير ريفي يشعرك بعطره وأجوائه التي ذهبت ولن تعود؟
يبتسم عم خيري في حنين ويقول‏:‏ غسيل الهدوم المنشور علي الترعة فالملابس كانت تأخذها نصيبها من النظافة كنا نقول عنها فلان هدومه يشرب من عليها العصفور كناية عن نظافتها حتي ولو كان الشخص يمتلك جلابية واحدة فدائما الملابس تشف وترف ونشم فيها رائحة الأنثي سواء كانت زوجة أو أما أو ابنة تدعك في طشت الغسيل واحمد الله أنني امتلك ذاكرة وجدانية تمدني بتلك المشاهد لأنني الآن لا أشم إلا رائحة صابون الغسيل الاتوماتيك‏.‏
‏..‏ كله أوتوماتيك
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.