نظرة إلي جنوبنا منذ آلاف السنين سارت مياه واحدة ودماء واحدة في عروق شعب واحد سكن شمال الوادي "المصريون" وجنوبه "السودانيون"، ورغم الانفصال سياسيا، وما قد يظهر ابتعادا بين الجانبين، ومهما طال هذا الابتعاد، هناك رابط خاص سحري يجمعهما معا مرة أخري، بعد ثورة "25 يناير" بدا ملحا إعادة النظر في علاقتنا مع جنوبنا، وفرض سؤال ماملامح العلاقات الثقافية بين الشقيقتين نفسه علينا، لذا حاولنا أن نلتمس هذا الرابط في "الأدب"، أحد أهم أوجه العلاقة بين البلدين من خلال هذا الملف. القارئ لأعمال الروائي السوداني أمير تاج السر، هو المحب للغذاء الروحي المتجانس العناصر والمكتمل غذائيا، لأنه يعرف كيف يعيش ويصف بلا تعقيد "الإنسان" بأشكاله المتنوعة في رواياته، آلامه وعقدته القدرية التي تفوق قوته الإنسانية الناقصة، لكنه يعرف كيف يمتلك قارئه حتي النهاية من خلال المعلومات التاريخية المتدفقة والعالم الأسطوري الذي يغلف عمله الروائي، رغم مناقشته لأوجاع الوطن العربي ومشاكله التاريخية التي أدت به لواقعه المعيش ونتج عنها ثوراته المشتعلة الآن. يعد تاج السر من أهم الروائيين السودانيين المعاصرين من بعد خاله الروائي "الطيب صالح"، له ما يقرب من ثماني روايات كان آخرها "صائد اليرقات" كتبها خلال رحلته المهنية كطبيب تنقل فيها بين بعض البلدان العربية، حول أعماله والأدب السوداني بشكل عام والعلاقات الثقافية كان هذا الحوار.. ما مدي تأثير دراستك للطب علي كتاباتك الأدبية؟ - في الواقع ليس هناك تأثير مباشرا، ودائما ما أقول إن الطب دراسة أكاديمية بحتة تعتمد علي التحصيل، بعكس الكتابة التي هي جرثومة يصاب بها الشخص، ولا يستطيع التخلص منها. لكن إذا حاولنا الربط، نجد أن عالم الطبيب غني بالشخوص والمواقف والحكايات التي يمكن استلهامها فيما بعد لو أن الطبيب كاتب، وقد ظهرت بالفعل كثير من شخصيات عالمي المهني في عالمي الروائي، وهناك نماذج لم أكن لأحصل عليها لو لم أكن طبيبا مثل شخصية كاتيا كادويلي الفرنسية، في "العطر الفرنسي"، وهي مستوحاة من شخصية ممرضة فرنسية عملت معي في مجال الإغاثة في شرق السودان في أوائل التسعينيات، وشخصية زيتون في "زحف النمل" هي مستوحاة من شخصية دخلت حياتي من باب الطب أيضا، وعدد كبير آخر من الشخصيات. ظلت الرواية السودانية حبيسة لفترة رغم "الهجرة للشمال"، ما سبب حبسها هذه الفترة؟ - هذا السؤال ردد كثيرا، وأجاب عنه الزملاء الذين سئلوا إجابات روتينية عن غياب الدعم للكاتب السوداني، وضعف الإعلام في بلادنا وعدم اهتمامه بالثقافة، لكني أقول إن الأمر ليس كذلك، ولكن الكتاب الإبداعي السوداني مثله مثل أي كتاب عربي آخر، ينتج في بيئته، ويفترض أن يخرج من تلك البيئة إلي العالم، لكن تجاهل العالم الخارجي هو ما خفض عدد الأعمال المعروفة خارجيا، خاصة للكتاب الذين لا يتعاطون التكنولوجيا لتسويق أنفسهم. إنها مشكلة كانت مزمنة وبدأت بوادر علاجها حين عاد الناس يلتفتون مرة أخري للأدب السوداني، والآن بدأت أسماء أخري تحتل مكانا مرموقا في خارطة الأدب العربي. كنت أحد من قفزوا بالرواية خارج الأسوار، كيف استطعت فك أسرها؟ - بمجهودي وبما قدمته من أعمال، وبالصبر والجلد علي الكتابة في كل الأحوال، وأيضا لأنني نشرت منذ البداية في دور نشر عربية معروفة، ولم أعاني من مشقة انتظار أن ينقب أحد في العتمة ليستخرجني، وكما قلت لك فإن الناس وكما اهتموا بآداب أخري، كان يجب أن يهتموا بالأدب السوداني، وفيه أعمال كبيرة ومهمة وكتاب مثل إبراهيم اسحق، وبشري الفاضل وعبد العزيز بركة وأحمد الملك والحسن بكري جديرون بالاهتمام، وأعتقد أن بثينة خضر مكي نجحت أيضا في الخروج من عزلة السودانيين، وطارق الطيب مثلي عاش خارجا ونشر خارجا. الخط البياني لتاريخك الروائي متأرجح ما بين الصعود والهبوط.. كيف تعاملت كروائي مع فترات الخمول الأدبي خاصة أنها كانت تلحق لحظات نجاح وتألق أدبي؟ - هذا لم يحدث، نشرت روايتي الأولي "كرمكول، وتوقفت نحو تسع سنوات، عن الكتابة ثم نشرت "سماء بلون الياقوت"، ومنذ ذلك التاريخ لم أنقطع عن الكتابة، ويتهمني السودانيون بأنني غزير الإنتاج، والعادة أن يكون الكاتب السوداني مقلا، حتي الطيب صالح لم يكتب كثيرا. هل كثرة تنقلك بالبلاد العربية كان له الأثر الإيجابي في شهرتك الأدبية عربيا؟ - ممكن طبعا، كثرة التنقلات والاحتكاكات، واكتساب الأصدقاء، ومعرفة الزملاء معرفة شخصية، ربما ساهم في انتشاري، لكن ما قدمته كان في نظري يستحق أن يتعاطف معه الناس. فترة الثمانينيات كانت فترة الازدهار الشعري لديك، لماذا توقفت عن الشعر؟ - أنا من عشاق الشعر حتي الآن، وكتبت كثيرا وفي فترة من الفترات أحسست بأنني أعزف ضمن فرقة موسيقية بلا تميز يذكر، إضافة إلي وجود الحكاء داخلي ومن ثم اتجهت لكتابة الرواية، وأعتقد أنني حققت تميزا فيها، بكتابة رواية مختلفة عن روايات الآخرين، وبالنسبة للشعر أكتب به لغة الرواية، وأيضا أكتب أشعاراً وأغاني داخل النصوص الروائية، لقد خدمني الشعر جدا. ما مدي تأثرك بخالك الروائي "الطيب صالح"؟ - لا يوجد تأثر من قريب أو بعيد في كتابتي بكتابة الطيب بالرغم من أن بعض الذين لم يقرأوني يحاولون باستمرار الربط بين تجربتي وتجربته، لقد قيل الكثير في هذا الشأن، وأعتبره استسهالا من البعض أن يكتبوا مجرد كلام .. أي كلام من دون دراسة حقيقية. في روايتك "توترات القبطي" ناقشت الشخصية المسيحية من جانب إنساني بحت دون التعمق بالجانب العقائدي، لماذا؟ - لم أكن مهتما بهذا الجانب، والقصة ساقت نفسها في اتجاه بعيد تماما عنه، لقد أردت أن أكتب رواية عن الإنسان ودائما ما أفعل ذلك، وتوترات القبطي ملحمة مستوحاة من الماضي، وتصلح لهذا الزمان أيضا، مسألة قهر الإنسان التي تسعي الشعوب الآن للتحرر منها. السرد عندك دوما يهتم بالتاريخ والتدفق المعلوماتي، هل هذا احتجاج منك علي الحاضر؟ - ليس دائما، أعتقد أن الرواية بما أنها واحدة من أهم الشهادات، يجب أن تكون شهادة حقيقية، أكتب عن الماضي والحاضر أيضا، ولدي أعمال في كلا الحالتين، الماضي قد يشبه الحاضر في بعض الحالات، والحاضر قد يكون ماضيا يرتدي ثوب هذا الزمان، بالنسبة للمعلومات، هذا شيء ضروري لإدخال القارئ في جو الكتابة، بمعني أنك ترصف له الطريق ليسير بلا تعثر، مهر الصياح من أهم أعمالي وكانت ستكون صعبة المراس لولا هذا الرصف الذي ذكرته، كذلك توترات القبطي، ورعشات الجنوب، إنها سير مجتمعية، كانت تحتاج إلي إضاءات شتي. القارئ لأعمالك يلمح تأثرك بالفلسفة الإغريقية في وصف المأساة وأسطورية البطل، ما تعليقك؟ - قرأت الملحمة الإغريقية بالطبع، ولكن لم أكن أظن أنني متأثر بها، ولو أن ما ذكرته حقيقة.. أكون سعيدا. أبطالي يحملون مآسيهم الخاصة، هناك رابحون وخاسرون، ولكن تغلب الخسارة علي الربح، في مهر الصياح ربح آدم نظر وهو خاسر، وفي زحف النمل، كانت ثمة خسارات حتي بالنسبة لأبوزيد زيتون الذي استولي علي حياة المغني أحمد ذهب، وفي رعشات الجنوب، لم يربح أحد. كانت روايتك "صائد اليرقات" هي أول رواية سودانية يتم ترشيحها ضمن القائمة القصيرة ب"البوكر" 2010، كيف تفسر قلة الاهتمام العربي بالرواية السودانية؟ - إن السودان لم يكن ضمن البلاد التي يسعي إليها أحد ثقافيا، بالرغم من السعي الاستثماري في تربتها الخصبة، والسعي الترفيهي في رحلات الصيد، وكون أن "صائد اليرقات" عبرت حتي القائمة القصيرة ورشحها جميع القراء لجائزة "البوكر"، يعد كسرا لقاعدة الهامش التي لازمتنا كل تلك السنوات، وأيضا ظل الطيب صالح الكثيف الذي غطي ما تحته، لقد بدأ الاهتمام بالأدب السوداني بلا شك. هل أثر نجاح الطيب صالح علي الأجيال اللاحقة له من الروائيين السودانيين؟ - الأمر كان في الماضي، الآن وبفضل تعدد الأصوات الهامة واكتساب الروائيين السودانيين لثقتهم، وأيضا بداية النشر عند دور عربية كبري، ثمة تمرد علي سلطة الطيب التي لم تكن من صنعه بكل تأكيد، ولكن من صنع آخرين أرادوا للأدب السوداني أن يكون بعيدا وهامشيا. في تقديرك هل هناك ملامح متماثلة بين الأدب المصري والسوداني؟ - بما أن مصر والسودان دولتان متجاورتان وتملكان تاريخا مشتركا، وهوية متقاربة، أستطيع أن أقول أن ثمة ملامح، خاصة بالنسبة للأعمال التي تقصت الريف وتلك التي كتبت عن القبائل المشتركة أو عن منطقة بين السودان ومصر، مثل "الزويل" لجمال الغيطاني ،"فساد الأمكنة" لصبري موسي، وما يكتبه أدباء الصعيد مثل "إدريس علي" و"يحيي مختار" و"أبو خنيجر"، يشبه إلي حد كبير كتابة السودانيين. كيف تري حضور الروائيين السودانيين في الحركة الأدبية المصرية؟ - الحركة المصرية كانت وما زالت واسعة الصدر لتضم أدباء من جميع الوطن العربي، وبالنسبة للسودانيين، كانوا داخلها من أيام التجاني يوسف بشير وتاج السر الحسن والفيتوري وجيلي عبد الرحمن وغيرهم وأنا شخصيا بدأت من مصر ولي في مصر من أصدقاء الكتابة أكثر مما في بلدي. ما شكل الحضور الأدبي المصري في السودان؟ - أنا بعيد عن السودان منذ زمن ولا أعرف الإجابة تحديدا، إن كنت تقصدين تعاطي الثقافة المصرية في السودان، فهذا أمر لا جدال فيه، الكل يعزف ثقافة مصر ويعشقها. هل الرواية والشعر قادرة علي تخطي الحدود السياسية وتوطيد العلاقات المصرية السودانية أكثر؟ - ليس بين مصر والسودان فقط، ولكن بين جميع دول العالم.