بقلم ضياء حسني [email protected] لا يسعني سوى شكر الجميع ممن تفاعل مع ما حاولت طرحه , و الذي لا أدعي صوابه من عدمه و لكني حاولت به فتح الطريق لتحليل " مصر الجديدة " التي لم نكن نعرفها قبل 25 يناير, و هو ما سيكون أمر شديد الأهمية لاستشراف المستقبل . فقد هالني أن تاريخنا الطويل هو تاريخ سلسة من خيانات الطبقات الوسطى التي كانت شديدة الثورية في فترة من الفترات و لكنها مع أول صدام تنقلب ضد مبادئها التي كانت تنادي بها بثورية . كانت معظم تلك المبادئ بشكل أو أخر هي بحث عن وجودها في مجتمعات تنفي وجودها و أحقيتها مؤسسيا في جزء من الكعكة و التي كانت تتمثل بالنسبة لتلك الطبقات المتوسطة المتعلمة في الوظيفة الثابتة ذات الدخل الثابت التي تضمن لها استقرار اقتصادي في واقع متقلب. و كما يقول الأستاذ عبد العزيز جمال الدين أن الاستعمار كان الحائل الرئيسي أمام ذلك الطموح لوجود الكثيرين من الموظفين الأجانب الذين يشاركوهم الوظائف الحكومية ( القليلة أصلا ), و لكن من جانب أخر كان الوضع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي يحد من التطور و النمو الاقتصادي للبلاد ( الاستعمار - الإقطاعي ) و هو ما أدي لندرة الوظائف في جهاز الدولة, يشير الأستاذ عبد العزيز في رده لقضية الحرية و هذا بالطبع شيء مهم, و لكن الحرية في الفترة الزمنية التي رصد فيها نجيب محفوظ الطبقة الوسطى في العديد من رواياته في فترة ما قبل الثورة كان الغرض منها حرية التعبير عن أوجاع المصرين من امتهان للقومية المصرية أمام كل ما هو أجنبي و في نفس الوقت امتزاج هذا مع الوضع الاجتماعي الاقتصادي لكافة طبقات المجتمع المصري بما فيهم الطبقة الوسطى المتعلمة بالذات و التي كانت و مازالت تلعب دور الطليعة للطبقات الثائرة و المتذمرة. أصبح التعليم في مصر وسيلة من وسائل الصعود الطبقي في المجتمع المصري شديد التخلف, ولكنه كان ذو صبغة دينية منذ الفترة التي سبقت الحملة الفرنسية, حيث كان التعلم في الأزهر و الإلمام بعلوم الدين يتيح لصاحبة مكانة كبيرة في القرية أو المدينة التي يعيش فيها هؤلاء المتعلمين ويتبوأ مكانة شبة مقدسة بين أنظاره, لم تكن العلوم الأخرى ( بما فيها علم الحساب مثلا) تشكل أي أهمية في المجتمع, حيث أن المجتمع كان على قدر من الانحطاط الاقتصادي و عدم التطور للدرجة التي جعلته لا يحتاج إلي العلم لتسير أموره , وكان الوحيدين الذين ينالون قدر من العلوم المدنية من حساب و لغات هم الأقباط الذين يعهد للأديرة و الكنائس بتعليمهم , و كانوا في الأغلب و الأعم يعملون بعد ذلك في خدمة أسياد تلك الفترة من مماليك و تجار أجانب لتعرفهم على قدر من اللغات الأجنبية و علوم الحساب , حتى أن أشعار الفلاحين في القرن التاسع عشر كانت تذخر بالتحذير من اليوم الأسود الذي ( يأتيك فيه النصراني ) , لأن قدوم النصراني ( ماسك دفاتر الحساب ) هو يعني قدوم المملوك الملتزم من أجل جباية الضرائب و ما يصاحب ذلك من ويلات يعرفها الجميع. مع قدوم محمد على و محاولته لإنشاء دولة حديثة و جيش وطني كانت زيادة أعداد المتعلمين و المنضمين للجيش ( أصحاب الوظائف ) , لكن من بعد انهيار دولة محمد على أنقلب الوضع و دخل أصحاب الوظائف في نفق مظلم, و من هنا لا نجد غرابة في أن أول ثورة تغيير مع عرابي كانت قيادتها من الجنود الذين ثاروا لأوضاعهم في الجيش و لكنهم تحولوا بعد ذلك ليكونوا طليعة الأمة كلها , من كبار ملاك سمح لهم لأول مرة بتملك الأراضي الزراعية ( سلطان و باشا و شريف باشا ) , و مثقفين متعلمين بكل توجهتم ( محمد عبده , علي مبارك , عبد ألله النديم ) , و باقي جموع الشعب من فلاحين و تجار . فر كبار ملاك الأراضي من تحالف الثورة لأنهم أدركوا أن نار المستعمر الأجنبي و استبداد الخديوي أهون لهم من جموع الجماهير الشعبية الداعمة لجيش عرابي بالدعم و العتاد و التطوع , و التي في حالة انتصار جيوش عرابي ستهدد مصالحها . تلى ذلك تنكر متعلمي الطبقة الوسطى الصاعدة عن الثورة أمثال محمد عبده و على مبارك و سعد زغلول نفسه للثورة, و أن كان هذا لا يعني عدم إسهامهم بجهود مهمة في خلق مصر الحديثة. فترة مصطفي كامل و محمد فريد و الحزب الوطني لا يمكن أن نرى فيها دور بارز للطبقة الوسطى المتعلمة حيث أنحصر التعليم على أبناء الطبقات العليا, لكن مع ثورة 1919 عادت تلك الطبقة لتمثل قوة دافعة لحركة التغير في المجتمع المصري و ظلت حتى وقتنا هذا و بالتحديد فئة الطلبة ( موظفون المستقبل ). فقد أتت شرار ثورة 1919 من طلبة مدرسة الحقوق , مظاهرات 1930 ضد دستور صدقي باشا , ثم حركة الطلبة و العمال 1946 , و مظاهرات الطيارين في عام 1968 في فترة حكم عبد الناصر , المظاهرات ضد الرئيس السادات في 1972 – 1973 , ليتراجع دور الطلبة نوعا في انتفاضة يناير 1977 أو على الأقل ليتساوى مع دور الطبقة العاملة التي خلقتها مصانع الثورة و عبد الناصر. لا يعني ذلك غياب الطبقات الأخرى من الهبات الشعبية التي شهدتها مصر و لكن الطبقات الوسطى و بالذات المتعلمة منها كانت دائما في طليعة تلك الهبات, بعد رحيل عبد الناصر زاد دور الطبقات المتوسطة في الحركة السياسية في مصر و أنحصر دور الطبقات الأخرى على مطالب فئوية, و لكن الطبقات المتوسطة نفسها وقعت تحت تلك القطبية التي حاولنا الإشارة لها متمثلين شخصيات نجيب محفوظ ( محجوب عبد الدايم – و علي طه ) حيث كان الفاعلين الأساسيين في الواقع هما من أصحاب الأيدلوجيات و المنظومين سياسيا سواء كانوا يساريين أو من التيار الديني بكافة روافده ( نموذج على طه ) و كانوا يتحركون وفقا لتوجيهات سياسية لقيادات حزبية ( سرية أو علنية ) . أما فصيل كبير من أبناء الطبقات المتوسطة المتعلمة و التي هي نتاج العهد الناصري في مجملها تخلت عن المشاركة السياسية و انساقت وراء الدعاية السياسية للعصر الساداتي من أمكانية شيوع الحياة الاستهلاكية و أمكانية الحياة مثل أغنياء العالم المتقدم ( دون دفع التضحيات التي دفعوها ولا أن يعملوا نفس القدر من العمل الذي يقومون به ) , ساعد على ذلك الثراء النفطي الحادث نتيجة حرب أكتوبر و بداية الهجرة لدول الخليج و زيادة التحويلات النقدية من العاملين بالخارج, بجانب أعادة توزيع الدخل الحادث نتيجة التضخم النقدي و الذي سمح بإعادة تشكيل البناء الاجتماعي وظهور الأثرياء الجدد , و بداية تأكل الطبقة الوسطي ( من المتعلمين ) , و بالتالي ظهر الكثيرين من أمثال محجوب عبد الدايم سعوا لبيع كل ما هو شريف من أجل قبولهم للفساد رافعين شعار طظ الشهيرة, أو الهروب خارج مصر سعيا للنفط و أمواله و حلت الأنا محل الأمة. من بعد 25 يناير عادت الطبقة الوسطى المتعلمة للحياة السياسية و لكن في طليعتها نوع جديد من عناصر تلك الطبقة لم تعرفها مصر من قبل طبقة لا تعاني من الحاجة الاقتصادية و لا العوز و لا تسعى لمطلب سوى الكرامة و الحرية, ليلتف حولها جموع الشعب المصري ( في أغلبيتها ). تلك الطبقة التي قدمت شهداء من طلاب الجامعة الأمريكية و أبناء الطبقات الميسورة تكون وعيها من الممارسة في الواقع العملي و تسعى للحرية و الكرامة لكل مصري و أن السبيل لعودة مصر متقدمة حديثة , و في تلك الحالة , و عند الوصول أليها فقط , يمكن لمصر أن تحل مشاكلها الاجتماعية و الاقتصادية و تعيد توزيع الدخل و تحل قضية استقلالها الوطني . هذا الشباب لا تقوده إيديولوجية جامدة ( بالرغم من وجود خلفيات إيديولوجية بين بعض أبناء الثورة ) , فبعد هذا الثورة ستتعرض جميع الأيدلوجيات للتعديل و التطوير و الاندماج لتظهر لنا رؤى جديدة لمجتمع مصري مستقل نامي حر. سقطت نظريات المستبد العادل من بعد فشل تجربتي محمد على و عبد الناصر , أنتهي المرض الذي عاني منه الشعب المصري لمدة قرنين من الزمن , و المتمثل في العيش في خصام مستمر مع التاريخ و الذاكرة , و العيش في حالة من حالات فقدان الذاكرة المتواصلة لكي يبدأ دائما من جديد , بلا تراكم بلا ذاكرة جماعية أو وعي جمعي, فلقد بلغ الشعب المصري سن الرشد و خرج من مرحلة الوصايا و أمتلك زمام أموره بيده و الفضل لشباب التحرير الذين مازال أمامهم الكثير لتحقيقه و لكنهم لن يتوقفوا.