بقلم د. رفيق حاج ماذا نفعل بهذا الكم الهائل من خروقات العدل التي تحصل كل يوم؟ هل نحاول محاربتها؟ ام نتجاهلها ونتابع مسيرتنا؟ علينا ان نتبنى مفهوما واقعيا جديدا للعدل يأخذ بالحسبان ميزان القوى القائم بين الاطراف ونحاول تحقيق اكبر قسط من العدالة في ظل الغاب الذي نعيش به. ازهاق العدل هو عملية لا يمكن منعها لانها كائنة في غرائزنا وطبيعتنا ولا يمكن استئصالها لو قامت قوة إلهية بفحص ميازين العدل على هذه الارض لوجدت ان اغلبها معطوبة ومنحازة وتخدم مصالح القيّمين عليها, ولحرّرت لاصحابها المخالفات الباهظة واودعتهم في غياهب السجون او على الاقل ادرجت اسمائهم في قائمة الوافدين المستقبليين على "جهنم". ان ازهاق العدل اصبح جزء من كينونتنا ووجودنا ورحنا نمارسه دون ان ينتابنا أي شعور بالذنب اوبتأنيب الضمير مع ان كل الديانات السماوية قد "اقرّت" بوجوب العدل وباهميته وحذرت ممن لا يتبعه ببئس المصير. فلقد قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (سورة النحل) "ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لكي تذكرون", وفي الانجيل المقدس يقول الله "لا ترتكبوا جورا في القضاء, لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل.." وفي التوراه قيل "العدل..العدل..اركض وراءه". مع ان الديانات السماوية والتعاليم الدينية حتى البوذية تحثُّ الناس على مراعاة موازين العدل وتحذّرهم من خرقها, ومع ان كل القيم الانسانية لدى كل الشعوب على مر السنين قد دعت الى ذلك, وبالرغم من ان كل دساتير الانظمة والحكومات في العالم تشمل هذا البند الاّ ان العدل ما زال يلهث انفاسه ويصارع على بقائه دون مُجير. وفي هذا يقول جبران خليل جبران " والعدل في الأرض يُبكي الجن لو سمعوا به ويستضحك الأموات لو نظروا, فالسجن والموت للجانين أن صغروا, والمجد والفخر والإثراء إن كبروا.." وهذا يقودنا الى نتيجة واحدة بان ازهاق العدل هو حالة لا يمكن منعها لانها كائنة في غرائزنا وطبيعتنا ولا يمكن استئصالها. اين العدل يا ناس؟ ففي العراق زُهقت ارواح نصف مليون عراقي تحت انظار العالم بأسره بحجة تواجد سلاح كيماوي لدى صدام حسين ولما تبين من بعدها بأن لا وجود له لم يُحاكم احد ولم يُطلب من الجانين حتى الاعتذار او التفسير. اين العدل يا بشر؟ فالشعب الفسلطيني أُخليَ من ارضه وبيته ويُطارد في موقع لجوئه ويُمنع منه حق العودة الى دياره مع ان مفاتيح البيوت ما زالت في جيوب شيوخه, إلا ان العالم وبضمنها اسرائيل ترفض حتى ان تقوم بتعويضه على الخسارة التي مُني بها. لا تغرنكم المدنيّة والتحضّر والتطور التكنولوجي الذي حصل في العالم فما زلنا نعيش في واقع يسود به قانون الغاب – القوي يأكل الضعيف والضعيف يأكل الاضعف, تماما كما الانسان يأكل الطيور والطيور تأكل الديدان, والكل يأكل بعضه ان لم يجد له رادع. اذا تطرقنا الى واقعنا كأقلية عربية في هذه البلاد نجد اننا تستفيق كل صباح على ممارسات التمييز والاجحاف ضدنا على مستوى السياسة الرسمية وعلى مستوى الروتين اليومي الذي نعيشه. راجعوا ملفات جمعية "سيكوي" لتجدوا الاجحاف في توزيع المصادر والميزانيات, وراجعوا ملفات جمعية "عدالة" لتجدوا آلاف الشهادات على جور المحاكم الاسرائيلية ضد المواطنين العرب وكأن هنالك نُظُمٌ قانونية خاصة بالعرب وأخرى باليهود. وراجعوا ملفات جمعيات حقوق الانسان "بتسيلم" وغيرها لتتأكدوا من الخرق الفاضح للعرف الدولية الذي يمارسه الجنود والضباط الاسرائيليين في الضفة والقطاع أبان الحروب وأبان السلم, وعنما يقادون الى المحاكم, يُحكم عليهم بالعقوبات السخيفة التي تشجّع الآخرين على استباحة ارواح العرب. لم اقصد في هذا المقالة ان اذكركم بوحشية الانسان ولا بظلمه واجحافه ولا بنفاقه للقوي واحتقاره للضعيف, وانما لاحذركم من مغبة الجري المُضني وراء تحقيق العدل لأن هذا شبه مستحيل. علينا ان نتبنى مفهوما واقعيا جديدا للعدل يأخذ بالحسبان ميزان القوى القائم بين الافراد والطبقات والدول والشعوب وان نحاول ان نحقق اكبر قسط من العدالة في ظل ذلك الغاب الذي نعيش به. المطلوب تبني مفهوما واقعيا وليس الاستسلام لازهاقات العدل في العالم. ان النضال من اجل احقاق العدل والعدالة هو قيمة سامية وعلينا ان نناصر الضعفاء ومسلوبي الحقوق اينما كانوا. ماذا نفعل بهذا الكم الهائل من خروقات العدل التي تحصل كل يوم؟ هل نقاومها ونحاول الانتصار عليها؟ ام نتجاهلها ونتابع مسيرتنا؟ هنالك الكثير من الشعوب والجماعات والافراد التي لحقها ضيم, بل وابتلت بكوارث دون ان يكون لها ذنب بذلك وكان عليها ان تقرر ان تختار بين البكاء والعويل على ظلم العالم لها او ان تنتفض وتأخذ زمام الامور بأيديها وتبدأ استعادة بنائها من جديد. ان من يختار الركض وراء العدل كمن يختار الركض وراء شبح لن يطوله حتى لو قضى عمره كله في ذلك. الدنيا مبنية على سلسلة اختراقات للعدل لها اول وليس لها آخر. واذا تحدثنا في المجال الشخصي نجد هنالك بعض الافراد الذين لم ينالوا من عائلاتهم او مجتمعاتهم قسطا وافرًا من العدل والمساواة مقارنة باقرانهم, ان كان ذلك في مجال توزيع الارث او الوظائف او الغلة وتراهم محبطين وقد تقلّدوا شخصية "الضحية" ولا ينفكون عن التذمر والشكوى ويحوّلون حياتهم وحياة المحيطين بهم الى جحيم لا يُطاق مع انهم يدركون تماما بأن لا مجال لاسترجاع ما فقدوا. ان تقمّص شخصية الضحية يعفيهم من واجباتهم تجاه انفسهم وتجاه الآخرين من حولهم. هنالك مقولة عبرية تُستعمل بالتوجه الى السائقين لتفادي حوادث الطرق التي تقول "لا تكن عادلا..بل كن حكيما!" أي ان انتظارنا لماكنة العدل لأن تُنصف معنا او ان تحكم لصالحنا قد يوقعنا في مخاطر تودي بحياتنا ومن الافضل ان نستعمل عقولنا لتفاديها. البريد الإلكتروني : [email protected]