تعودت أن أخبر تلامذتي الكرام بمجموع درجاتهم عقب تصحيح إمتحانات كل شهر، وكنت أنادي إسم التلميذ ، فيقف متشوقاً ليعرف درجة إمتحانه ، وكانت تظهر علامات الفرح علي وجوه المتفوقين ، أما الحزن فكان يفترش عيون المقصرين .. وكنت عندما أمسك بيدي ورقة رامي ، ذلك التلميذ البليذ ذهنياً ، واُنادي إسمه ، يقف قائلاً : " نعم يا مستر " ، فأُبادره بنظره تحمل شيئاً من الغضب ، تجعلني أطلب منه أن يسرع بالجلوس ، دون أن أخبره بدرجته ، وكان خوفه مني ، يمنعه أن يسأل عن سبب إمتناعي عن إخباره بدرجة امتحانه اُسوةً بباقي زملاء فصله . وكان يمر الشهر وراء الشهر ، وأنا كعادتي أُعلن درجات التلاميذ ، عدا الطفل رامي ، الذي لازلت أتعمد في حجب درجته ، رغم إلحاحه في معرفة درجاته عن كل إمتحان شهري ، حتي كان ذات يوم ، وأثناء إلقاء درجات الإمتحان الشهري علي مسامع التلاميذ ، قاطعني التلميذ رامي بسؤال : " لماذا يا مستر ، أنك تخبر زملائي - كل شهر- بدرجات امتحاناتهم ، وعندما تنادي علي إسمي ، تنهرني وتأمرني بالجلوس ، دون أن تذكر درجتي ؟!" ، وحينها جاوبته : " لأنك يا رامي يا تلميذي العزيز ، لا تكون أساساً قد حصلت علي أي درجات في الإمتحان ، ولأنني لم أجد بورقه إجابتك ، ما يشفع لك ، لأن أعطيك ولو نصف درجه واحده من محصلة المجموع النهائي ، فبماذا أخبرك إذن ؟!! " لم أكن أرغب في أن أسبب أي حرج ، لذلك الطفل ابن الحادية عشر عاماً ، أمام زملائه ، فيضحكوا عليه ، أويسخروا من تدني مستواه التعليمي .. وكان الطفل رامي يكتب بطريقة غريبة جداً ، فتارة يكتب حروفاً شبه مفهومه ، وتارة أخري تجد حروف كلماته متبعثرة كحبات العُقد المفروط ، وكان رامي دائما يضعني في حيره وحزن ، عندما تقع كراسته تحت قلمي الأحمر كي أعلمها ، ووقتها يكاد أن يجن عقلي من غرابة ما يكتب الطفل - كسول الفهم - من جُمل للغه الانجليزية ، لا تعي منها ولو شيئاً قليلاً !! تساءلت كثيراً في نفسي ، كيف تنقَل رامي من مرحلة رياض الأطفال إلي المراحل الأعلي حتي وصل إلي الصف الخامس الابتدائي ، وهو يجهل القراءة والكتابه ، ولكن ذهبت حيرتي بمرور الوقت ، بعلمي أن إدارة المدرسة التي أعمل بها ، ويتعلم بها رامي ، تسهل لطلابها النجاح والحصول علي أعلي الدرجات ، من خلال إملاء وكتابة الأجابات للتلاميذ الضعفاء في كراسة الإجابه أثناء الإمتحانات !! بذلك نجح رامي ، مع غيره من عشرات التلاميذ ، وانتقلوا من مرحلة دراسية إلي مرحلة أعلي بغير جِد ولا جهد ولا اجتهاد .. وكم إندهشت عندما وقعت أعيني علي ورقة رامي أثناء تصحيحها في امتحانات أخر العام ، وقد عرفتها علي الفور ، بحكم معاشرتي لخطُه الردئ معه ، طيلة عام دراسي كامل ، واذكر أن رامي وقتها ، كان قد أجاب علي نقطة واحده صحيحه في الإمتحان كله ، جعلته يحصل علي درجه واحده من عشرين ، وكنت علي يقين أكيد أن إدارة المدرسة ، سوف تنتشل رامي إلي بر النجاح ، بعد تعديل درجته داخل كنترول المدرسة ، حتي لا يرسب الطفل ، وتسوء سمعة المدرسة ، التي تخرج فيها كثير من التلاميذ ، ولم يفقهوا شيئاً مما تعلموا .. وهكذا حال التعليم في مصر .. النجاح علي الورق ، أسهل وأضمن من النجاح الفعلي ، وإكتساب المعلومات والمهارات والثقافات المختلفه .. ذلك كان الهدف الأسمي ، والذي ذهب ولم يعد !!