لا أتحمل رؤية دموع حفيدتي في امتحانات الثانوية العامة رياضة، وقد زادت عليها دموع أمها وصدقت عليها صور دموع آلاف البنات وأمهاتهن المنشورة في الصحف كما لو كانت هناك محزنة عامة في مصر التي لم تعد تحتمل المزيد من الأحزان. فلماذا؟.. لماذا يا أستاذ يا من وضعت الأسئلة التعجيزية لكي تزيد من توتر أعصاب الناس في ختام عام دراسي ذقنا فيه كماً هائلاً من القلق والبنت تذهب للدروس الخصوصية صباحاً وظهراً وعصراً ومساء لأن المدارس لم تعد تقنع التلاميذ وأهاليهم بأنها جديرة برسالة التعليم في الثانوية العامة المؤهلة للحصول علي المجاميع الكبيرة التي تفتح الطريق أمام كليات الطب والهندسة وغيرهما من الكليات التي يطمع الأبناء في الالتحاق بها كحلم من أحلامهم. وهكذا يبدأ طريق الآلام في الثانوية العامة حتي قبل أن يبدأ العام الدراسي إذ يحجز التلاميذ الدروس الخصوصية منذ أول يوم في الإجازة الصيفية حتي لو كانوا ملتحقين بمدارس اللغات عالية المصروفات مثل مدرسة حفيدتي التي تدفع فيها آلاف الجنيهات دون أي مقابل تدريس في السنة الثالثة التي يغيب فيها التلاميذ غياباً جماعياً وتسمح لهم المدارس بذلك كعرف من الأعراف التي استقرت عليها الدراسة وشهادة مسجلة بفشل أسلوب التدريس في مدارسنا التي تحتاج لثورة خاصة لإصلاح حالها. ولا يوجد هذا العيب في جامعاتنا والحمد لله، فالقانون لا يسمح لعضو هيئة التدريس بإعطاء دروس خصوصية وإلا حولته كليته لمجلس التأديب.. هذا فضلاً عن أن علو شأن الدكاترة أعضاء هيئة التدريس وحرصهم علي التفوق كمحاضرين ومؤلفين وأصحاب أفكار ومدارس علمية يشتهرون بها مما جعل الطلاب يقبلون عليهم سواء في الكليات النظرية أو العملية. ونادراً ما تحدث الأزمات في الامتحانات مثلما تحدث في المدارس، فقد كنا نحرص دائماً علي أن يشترك في وضع أسئلة الامتحانات اثنان أو أكثر من أعضاء هيئة التدريس، وكذلك عند تصحيحها حتي لا يشتط أحدهم إذا ما انفرد بوضع الأسئلة أو تصحيح ورقة الإجابة منفرداً.. وحتي إذا ما حدث ذلك لسبب من الأسباب فإن الأعراف السائدة في الجامعة تسمح بمعالجة الموقف. فقد تعودنا علي أن تكون الأسئلة وتصحيحها في مستوي الذكاء والتحصيل للإنسان المصري، فإذا كانت نتيجة امتحان المادة تشير إلي أن الناجحين أقل من 50٪ من عدد الطلاب.. فإن الخلل هنا لا يكون في مستوي الذكاء المصري وإلا رتبنا علي أنفسنا إهانة للشخصية المصرية.. وقد كنت أحرص دائماً علي مراجعة نسبة النجاح في المادة قبل أن تفتح الأرقام السرية.. فإذا وجدناها أقل من 50٪ فإننا نتداول مع الأستاذ المصحح للنظر في الأمر بعدالة مجردة وشفافية كاملة ودون معرفة من هو صاحب ورقة الإجابة.. وكثيراً ما كنت أجلس مع عضو هيئة التدريس لإقناعه بهذه المعاني.. فإن لم يقتنع نعرض الأمر علي لجنة الامتحان والرأفة المشكلة بالكلية طبقاً للقانون واللائحة لتحقيق العدالة التي يراها كبار الأساتذة. ومن تجاربنا الشخصية خلال الخمسين سنة الماضية عدم ترددنا في الاتصال بالأستاذ المصحح لعرض بعض الحالات العامة الحرجة كما في حالة اشتراك أكثر من أستاذ في تصحيح ورقة الامتحان ويضع كل منهم الدرجة التي تصل في المجموع إلي 9 من 20 وتتكرر هذه الحالة في عشرات أو مئات كراسات الإجابة، فنعرض علي الأستاذ إجراء عملية جبر خاصة للمادة بأن نرصد التسعة عشرة من عشرين، فإذا وافق الأستاذ سجلنا محضراً في كشوف الرصد نقول فيه إننا اتصلنا بالأستاذ الموجود بالقاهرة أو الإسكندرية وأذن لنا برصد التسعة عشرة، وفي ذلك إصلاح لحالات كثيرة.. وقد تطور الأمر إلي ثبوت قاعدة عرفية برصد التسعة عشرة من عشرين إيماناً منا بأنه عندما يتعدد المصححون فإنه من المحتمل أن تنقص نصف درجة أو درجة واحدة كاملة، فالمسألة لا توزن بميزان الذهب عند الجميع. وقد صادفتنا في سنوات مبكرة حالات في مادة التربية القومية التي كانت تُدرس في الستينيات والسبعينيت ويقوم بتدريسها عضو هيئة تدريس من كلية التربية.. وقد سلمنا المدرس كراسات الإجابة وكانت نسبة النجاح فيها 30٪ فدعوناه لمقابلتنا وشرحنا له أن كليات الحقوق تقوم بتدريس القانون المدني والقانون الجنائي وغيرهما لكي يتخرج مشروع قاض أو محام أو مشتغل بالقانون وليس مشتغلاً بمعلومات عامة عن الصهيونية والقومية العربية، وما شابه ذلك في مادة التربية القومية، وأعدنا إليه الأوراق لإعادة تصحيحها بهذه الروح العلمية الواقعية وليس بروح المقصلة. وشكت حفيدتي الصغيرة الجميلة من صعوبة إحدي أوراق أسئلة الرياضة التي كانت كلها إجبارية.. ولا أظن أنني وضعت ورقة أسئلة كلها إجبارية في مرحلة الليسانس بخلاف الأمر في دبلومات الدراسات العليا في القانون إذ تختلف نوعية الطلاب المفروض فيهم توافر الدرجة العالية من النضج والتحصيل، ولهذا كنا نطالبهم بالإجابة علي السؤال الإجباري، وهو ما اتبعناه عند وضع أسئلة المادة في امتحان شهر يونية الحالي، ولكننا تذكرنا أن لدينا عدداً كبيراً من الطلاب العرب وهم أصحاب مراكز قانونية في بلادهم ورأيت من الأوفق والأصلح أن أضع ثلاثة أسئلة يجيب علي اثنين منها فقط، وكان المردود طيباً في مستوي إجابات هذه الدفعة من طلاب الدراسات العليا. وقد نشرنا خلال هذا الشهر مقالاً بعنوان «رحم الله مصححاً أباً رحيماً» ونضيف إليه في هذا المقال دعاء بالرحمة لمن يضع أسئلة رحيمة ولا يكتفي بأن يردد لسانه في الخمس صلوات أسماء الله الحسني.. الرحمن الرحيم.. حتي يرحمه الله ويرحم أولاده وأحفاده الحاليين أو المقبلين.