منظر البنات الباكيات من صعوبة الامتحانات يذكرني بتجارب خمسين سنة في وضع أسئلة الامتحانات وتصحيحها.. تعلمت في بدايتها معاني الرحمة من أساتذتنا الكبار.. إذ كان قانون الجامعات يشترط اشتراك اثنين على الأقل من أعضاء هيئة التدريس في وضع أسئلة الامتحانات وتصحيحها، كما حدث معنا في العام الجامعى 1963-1964 إذ اشترك معي أستاذنا الكبير الدكتور محمد حافظ غانم رحمه الله، ولاحظ أن عندي قسوة في محاسبة الطلاب عن أخطائهم في الإجابة وسألني: لماذا أنت قاس عليهم؟ وأجبت لأنني شرحت لهم القانون بما يرضى الله ولكن بعضهم لم يعطنى الإجابة المرضية.. فقال: سوف يتغير أسلوبك في التصحيح عندما يذهب أولادك إلى المدرسة وتوصلهم لأداء الامتحانات ويكاد قلبك أن ينخلع وأنت تنتظر خروجهم من اللجنة.. وقد صحت فعلاً مقولة الأستاذ عندما كبر الأولاد وذهبوا للامتحانات وصدق علينا أنا وأمهم قول ربنا سبحانه وتعالى عن أم موسى عندما ألقت بابنها في اليَّم (وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا) «القصص 8». لقد علمني أولادى أن أكون أبًا رحيمًا عند وضع الأسئلة وعند تصحيحها وأصبحت أكرر هذا الدرس لكل المدرسين الجدد في الجامعة.. إذ عاد من البعثة الحاصلون علي درجة الدكتوراه في القانون وشاركونا في تصحيح أوراق الامتحان، وكنا نلاحظ قسوتهم في تقدير الدرجة التي يستحقها الطالب فندعوهم للتشاور ونقرأ معهم إجابة الطالب ونجده قد قدَّر له درجة أقل مما يستحق، فنراجعه ونناقشه ونعيد له مقولة أساتذتنا الكبار منذ خمسين سنة وننصحه بإعادة تقييم ورقة الإجابة أو نعرضها علي لجنة الرأفة بالكلية رحمة بالطالب.. وتدور الأيام ويصبح عند المدرس أولاد في المدارس والامتحانات ونراه قد تبدَّل وتغير ليكون أكثر رحمة وإنصافاً لصاحب ورقة الإجابة. غير أن أساتذة كباراً كانوا معتادين علي الشدة في التصحيح ويرفضون تدخل زملائهم الأساتذة المشرفين علي الكنترول مثل أحدهم الذي رفض نصيحة أستاذ أقدم منه ويختص بإعداد كشوف الطلاب الناجحين والراسبين، ولاحظ أن طالباً سوف يتعدَّل موقفه من الرسوب إلي النجاح في المادة لو رفع له المصحح تقديره بدرجة واحدة فقط، ولكن أخونا المصحح رفض بشدة نصيحة الأستاذ الفاضل رئيس الكنترول.. وإذا بالأيام تدور ويجلس الأستاذ المصحح معنا في حجرة الأساتذة حزينًا، ولما سألناه عن السبب قال إن ابنه في المدرسة الثانوية كانت تنقصه درجة واحدة لرفع تقديره.. فقفز رئيس الكنترول من مقعده وقال له بأعلى صوته: تلك هي الدرجة التي رفضت أن تعطيها للطالب وقد رجوناك فأبيت.. هكذا كما تدين تدان. وكانت كليات الحقوق في الخمسينيات وقتما كنا طلاباً تجري امتحانات شفهية إلي جانب التحريرية.. وكان الطلاب يعرفون اللجنة القاسية فلا ينتظرون أمام بابها ويذهبون للجنة الأخرى.. حتي أن لجنة القسوة لا تجد طلاباً تمنحهم ويخرج الأستاذ من اللجنة لكي يدعو طلاباً لدخولها كارهين. وتدور الأيام وأعقد لجنة الامتحان الشفهى ويشترك معي فيها أستاذنا الكبير الدكتور علي صادق أبو هيف رحمه الله.. وكان مشهورًا في السودان إذ علم نقيب المحامين والعديد من المحامين والقضاة بحضور الأستاذ إلي الخرطوم فاستقبله في المطار الكثير من المحامين والقضاء واحتفلوا به في الجراند أوتيل علي نهر النيل، وتُقام له الحفلات في البيوت في الأيام التالية لإقامته في العاصمة السودانية، وتعلمنا منه في الامتحانات الشفهية أن المسألة ليست تعجيز الطالب وإنما كان يستقبله بوجه باش وابتسامة حانية ويسأله عن الموضوع الذي يختاره للحديث فينطلق الطالب عارضًا أفكاره ويناقشه فيها الأستاذ ويشرح له الصواب من الخطأ.. وقد ورثنا ذلك عنه وكنا ننصح شبابنا من أعضاء هيئة التدريس بأن يراعوا تهدئة أعصاب الطالب والطالبة وأن يأخذوهم بهوادة وسعة صدر. ولا ننسى واقعة تاريخية تستحق ذكرها عندما افتتحنا الدراسة في كلية الحقوق بجامعة المنصورة بعد حرب أكتوبر 1973.. وكنا نحتفل بمناسبة قومية بحضور عدد من الأساتذة من جامعات أخرى، وإذا بعدد من الطلاب يقدمون لنا بوكيه ورد عليه بطاقة باسم الطلاب المحولين من الجامعة الفلانية، وقالوا تفسيراً لذلك إنهم هاربون من أستاذ شديد القسوة ومشهور برسوب الكثير من الطلاب في مادته.. ودارت الأيام وذهبت إلي محكمة الإسكندرية الابتدائية وصادفني رئيس الدائرة الذي عرفني بنفسه بأنه كان من ضمن جماعة الطلاب المحولين إلي المنصورة ثم رجع إلي كليته بعد أن اجتاز محنة الأستاذ الذي يخاف منه الطلاب. ذكريات كثيرة أثارتها في الوجدان حفيدتى التي تمتحن الثانوية العامة وصدور الطالبات الباكيات من امتحان اللغة الإنجليزية.. فهل تنفع هذه الذكريات عند مصححي الامتحانات؟