بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي القدس تستحق منا أكثر من يوم، وأكثر من سنة، إنها تستحق مناالعمر كله، نبذله من أجلها، ونفنيه لنستعيدها، لا نحتفي بها بل نقاتل من أجلها،ولا نحتفل بيومها بل نخطط لاستعادتها، ولا نبكي على ماضيها بل نجدد العهد لنستبقيها،ولا نستسلم أمام محتليها بل نعمل لتحريرها، ولا نقبل بصلاتهم فيها بل نطهرهم منها،ولا نسمح لهم بالسكن فيها بل نحرمهم الأمن فيها، ولا نغيب عنها ليستوطنوا فيها بلنزرع أقدامنا فيها، ونرفع في سماءها هاماتنا، ونصدح فوق مآذنها بالآذان، ونصلي فيمحرابها ما بقي الزمان، نرسم فوق ثراها صوراً ذات ألوان، ونكتب على جبينها آياتالرحمن، أن هذه الأرض لنا ما عمرها الإنسان، ولن تكون لغيرنا بنص القرآن، وسيعيدهاإلينا يوماً رجالها الشجعان، فهذا وعدٌ خالدٌ، ويقينٌ ثابتٌ، نؤمن به ونتوارثه،نحفظه ونتواصى به. ينبغي على المسلمين جميعاً في يوم القدس أن يدركوا أن القدسأضحت في خطرٍ شديد، فقد تاهت ملامحها، واختلطت معالمها، وزيفت هويتها، وزورتوثائقها، وسرقت مستنداتها، واعتدي على مقابرها، وأخرج منها رفات أمواتها، وتبدلسكانها، وتغيرت لغتها، وسميت شوارعها بغير أسمائها، واستبدلت أسماء بلداتهاوحارتها بأخرى غريبة، وتناقصت أرض سكانها العرب، واتسعت حدودها لغيرهم من اليهود، وقدأصبح مسجدها الأقصى على شفا جرفٍ هارٍ قد ينهار في أي لحظة، فقد تصدعت جدرانه،ونقبت أساساته، ونهبت آثاره، واعتدي على مقدساته، وانتهكت حرماته، والإسرائيليونفي المدينة أعدادهم تزداد، وأحلامهم تتعاظم، وجهودهم تتضاعف، واستيطانهم يتوسع،وأطماعهم في باحات الأقصى لا تتوقف، واقتحامهم لساحاته تتواصل، وجيشهم يحرسمستوطنيهم، وحكومتهم ترعى متشدديهم، وأحزابهم الدينية المتطرفة تخطط وتنظم وتنفذ. القدس في يومها العالمي تتطلع إلى العرب والمسلمين أنيقوموا بواجبهم تجاهها، وأن تتحد جهودهم لتخليصها، وأن تتضافر مساعيهم لتطهيرها، وأنتتقدم أولوياتها لتكون القدس هي الغاية والهدف، فهي ترنو أن تعود إلى عمقها العربيوالإسلامي، وأن تعود لتلبس ثوبها المقدسي القديم، فقد طال غيابها، وطغى فيها المحتلون،وعبثوا بها، وتآمروا عليها، ويطمحون أن يستخلصوها لليهود وحدهم، عاصمةً أبديةًموحدة. القدس في يومها العالمي تؤكد بأنها ضاعت يوم أن ضاعتفلسطين، وسقطت في براثن الاحتلال الصهيوني البغيض يوم أن سقطت الأرض العربيةالفلسطينية تحت الاحتلال، فهي جزءٌ غالٍ وعزيز من الأرض الفلسطينية، بل هي القلبمن فلسطين والأمة العربية والإسلامية، وهي لن تنعم بالحرية والطهر إلا يوم أنتتحرر فلسطين كلها، وتعود إلى أهلها وأصحابها الشرعيين، ولكن تحريرها لا يكونبالأماني والدعوات، ولا بالخطب والابتهالات، ولن تجدي الأمنياتُ بصلاةٍ في مسجدهاالأقصى قبل الممات في تخليصها من نير وبطش الاحتلال، فتحريرها الذي هو مسؤوليةعربية وإسلامية مشتركة، يتطلب إرادةً حقيقية تقف في مواجهة الأحلام الإسرائيلية،تضع حداً لها، وتصدها بكل قوة، وتواجهها بكل حزم. في يوم القدس على العرب والمسلمين ألا يتركوا الفلسطينيينوحدهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وألا يتخلوا عنهم في محنتهم، وألا يألواجهداً معهم في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للقدس، فهذا أقل الواجبتجاهها، وحتى يبارك الله في جهودهم، وتثمر مساعيهم، فإن عليهم إسناد المقاومة،ودعم إرادة القتال والمواجهة، فالقدس التي هي حلم الإسرائيليين، ومبكى اليهود،وقلب المشروع الصهيوني، لن يتخلوا عنها بغير القوة، ولن يرحلوا عنها بغيرالمواجهة، فلا سلامٌ يرحلهم، ولا مفاوضاتٌ تقنعهم بأنهم ليسوا أصحاب حق، ولاوساطاتٍ ومساعٍ دولية، وحلولٍ أممية ترضيهم، فهم عنها لا يرحلون إلا إذا فقدواأمنهم فيها، وتعرضوا للموت بين أسوارها، وتأكدوا بأن أهلها وأمتها جادين في استنقاذها،وعلى استعدادٍ للتضحية من أجلها. القدس في يومها الذي أراده المسلمون يوماً عالمياً يجددونفيه العهد مع الله ألا يتخلوا عنها، وألا يتركوها وحدها تواجه الأطماع الصهيونية،تجدد عهدها مع فلسطين، وانتماءها إليها، وارتباطها بها، ورفضها الانسلاخ عن الوطنالأم لتكون عاصمةً للدولة اللقيطة، فهي قلب هذا الجسد، وروح هذا الوطن، وعين هذهالأمة، فلن تقبل بكل مساعي التغريب، وجهود التهويد، ولن تخضع لقرارات الضم ومشاريعالاحتواء، ولن تطفئ جذوتها أدوات الاحتلال وسلطات القمع والتنكيل، ولن تخيفهاسياسات نتنياهو ومساعي عمدتها، ولن تقبل إلا أن تكون جزءاً من هذا الوطن العزيز، وماعلى العرب والمسلمين إلا أن يؤكدوا على عروبة القدس وأصالة انتمائها، وأن يرفضواالاعتراف بمحاولات فرض الأمر الواقع الإسرائيلي، كقرارات الضم وبسط السيادة،وتوسيع الحدود ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، فلا اعتراف بأنها عاصمةًلكيانهم، ولا سكوت عن محاولة تهويدها، ولا قبول بمساعي عزلها وفصلها عن الوطن. في يوم القدس العالمي نجدد العهد لفلسطين كلها أنها أرضناووطننا، وأن يوم عودتها مهما طال فهو قريب، وأن غربتها لن تدوم، واحتلالها لنيبقى، وأهلها إليها سيعودون فاتحين محررين، وستعود إليها حاميتها العربيةوالإسلامية، لتبقى القدس في قلب فلسطين الشامة الغراء، ولن تبقى أمانينا أضغاثأحلامٍ أو تنبؤات عارف، بل ستصدقها المقاومة، وتؤكدها إرادة الصمود والثبات، وقوةالتحدي والمواجهة، وصدق الأهل وإخلاص رجالها المدافعين، ولن يكون بإذن الله إلاوعده الخالد للأمة "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُالْآَخِرَةِ لِيَسُئُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُأَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا". [email protected]دمشق في 27/8/2011