في 16 أبريل 1987 أصدرت محكمة أمن الدولة العليا طوارئ حكمها في القضية الشهيرة المعروفة بقضية إضراب سائقي وعمال السكك الحديدية إذ حكمت المحكمة ببراءتهم من التهم المنسوبة إليهم وورد في حيثيات حكمها ما يلي: وحيث إنه طبقاً لنص المادة 151 من الدستور سالفة الذكر، ولما استقر عليه الفقه والقضاء فإن المعاهدات الدولية التي صدرت وفقاً للأصول الدستورية المقررة ونشرت في الجريدة الرسمية حسب الأوضاع المقررة تعد قانوناً من قوانين الدولة يتعين علي القضاء الوطني تطبيقها باعتبارها كذلك.. وحيث إنه متي كان ذلك فإن الاتفاقية المذكورة ويقصد بها العهد الاقتصاد الدولي لعام 1966، وقد نشرت في الجريدة الرسمية في الثامن من أبريل 1982، بعد أن وافق عليها مجلس الشعب تعتبر قانونا من قوانين الدولة، ومادامت لاحقة لقانون العقوبات، فإنه يتعين اعتبار المادة 124 قد ألغيت ضمنياً بالمادة 8 «فقرة د» من الاتفاقية المشار إليها عملاً بنص المادة الثانية من القانون المدني، والقضية الصادر فيها حكم المحكمة هي قضية النيابة العامة 4190 لسنة 1986 الأزبكية «121 كلي شمال» المشكلة برئاسة المستشار محمد أمين الرفاعي والمستشارين أحمد عبدالوهاب ومحمد منصور. وترجع أصول القضية إلي أن سائقي وعمال السكك الحديدية كانت لهم مطالب بتصحيح أوضاعهم المالية علي ضوء خطورة أعمالهم في قيادة القطارات التي تحمل آلاف الركاب وتقتضي من السائقين والعمال يقظة تامة وتقديراً عالي المستوي للخدمة التي يقومون بها. وقد طالب السائقون والعمال بالاجتماع بوزير النقل والمواصلات لشرح مشاكلهم فوعدهم باللقاء في الرابطة الخاصة بهم في القاهرة.. وانتظره أعضاء الرابطة ولكنه لم يف بوعده بالذهاب إليهم.. فيتوسط بعض أعضاء مجلس الشعب لدي الوزير للاستماع الي مطالبهم فوعد للمرة الثانية بأن يذهب إليهم في الرابطة وحدد الوعد الملائم له ولكنه لم يلتزم به ولم يعتذر. وخاب أملهم في لقاء الوزير المختص فاعتصموا بالرابطة لحين حضوره اليهم والاستماع الي مطالبهم في جو سلمي مقدرين حساسية مواقعهم في خدمة الدولة.. وبدلاً عن أن يذهب اليهم الوزير للتفاهم في جو ديمقراطي داهمهم وزير الداخلية واعتقل العديد منهم وقدمهم إلي نيابة أمن الدولة بمحكمة أمن الدولة العليا طوارئ في القضية المذكورة لمحاكمتهم بالمادة 124 من قانون العقوبات، فدفع المحامون بأن هذه المادة قد نسخت بالمادة 8 «فقرة د» من اتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/12/1966، ووقعت وصدقت عليها جمهورية مصر العربية ونشرتها في الجريدة الرسمية العدد 14 في 8 أبريل 1982، ليعمل بها كقانون من القوانين المصرية اعتباراً من 14 أبريل 1982. ولم يفت المحكمة أن تشير في حيثيات حكمها الي عدالة مطالب السائقين والعمال ونكوص وزير النقل المسئول عن القيام بمسئولياته للاطلاع علي مطالبهم العادلة مما دفعهم للاعتصام في الرابطة ولو كان الوزير المسئول أوفي بعهديه ووعديه لهم لما اعتصموا في الرابطة. هذا الحكم العظيم الذي اعتبرناه مفخرة للقضاء المصري سارت علي نهجه المحكمة التأديبية بالمنصورة في حكمها بجلسة 18 فبراير 2006، في الدعوي رقم 173 لسنة 33 ق واستجابت المحكمتان لكبار المشرعين الدوليين الذين سوغوا الحق في الإضراب في جميع الاتفاقيات التي تنظم العلاقات بين العمال وأرباب العمل لإقامة التوازن العادل بين سلطة رجال الأعمال وقوتهم وجبروتهم وحقوق العمال في الجانب الضعيف فكان الإقرار لهم بتكوين النقابات للتفاوض باسمهم في حقهم في الإضراب عن العمل إزاء تعسف أصحاب الأعمال والحكومات في مواجهة موظفيها وعمالها وهو ما حدث في قضية سائقي وعمال السكك الحديدية المصرية، إذ تعسفت السلطة المصرية ممثلة في وزير النقل والمواصلات رغم تدخل أعضاء مجلس الشعب لديه، فاضطر السائقون والعمال اضطراراً للاعتصام في نقابتهم بدلاً عن الانصراف الي أعمالهم مقهورين مغلوبين علي أمرهم، والتسبب في الحوادث الجسيمة للقطارات. ولم تحرم الدساتير المصرية استخدام الحق في الإضراب فنصت المادة 15 من الدستور الأخير لعام 2014 علي أن «الإضراب السلمي حق ينظمه القانون».. ينظمه ولا يمنعه أو تقضي المحاكم بتجريمه أو مصادرة اللجوء إليه بحجة عدم مطابقته لأحكام الشريعة الإسلامية، وهذا اجتهاد يقابله في الجانب الآخر اجتهادات وحجج كثيرة ضد ذلك المذهب، ونرجو الرجوع الي فضيلة الشيخ محمد الغزالي في كتابه القيم عن حقوق الإنسان «بين تعاليم الإسلام وإعلان الأممالمتحدة» الطبعة الخامسة إصدار دار الدعوة لعام 2002، والبيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام في صفحة 169 من ذلك الكتاب. ولا ننتقص من قدر سائقي القطارات المصرية الذين اتهموا ظلما بجناية الإضراب إذا ما قلنا إن صفوة العلم والفكر في البلاد قد أعلنوا الإضراب في الجامعات المصرية يوم الأحد 8 ابريل 1984 ونفذوه فعلا بعد أن شعروا بالظلم في كادر الجامعات واجتمعوا في نواديهم وطلبوا من رئيس الجمهورية الاستماع الي مطالبهم وأرسلوا إليه وفدا من أساتذة الجامعات لمقابلته بالقصر الجمهوري فلم يقابلهم الرئيس مما تسبب في إهانتهم رغم أنه قابل لاعب كرة قدم مشهور وصدرت الصحف بصورة معه في اليوم التالي.. وإزاء تلك الإهانة بعد طول المطالبات بالطرق الشرعية دون فائدة.. فقد قرر المؤتمر العام للنوادي الذي ضم ثلاث عشرة جامعة التوقف عن العمل في الجامعات يوم 8 أبريل 1984، وهنالك فقط سارع وزير التعليم العالي للاجتماع بالرئيس واستجاب لمطالب أعضاء هيئة التدريس بالجامعات. إن الإضراب من الحقوق الإنسانية اللازمة لحسن سير الأعمال في الدولة أو مؤسسات الأعمال بدلاً عن التخريب والتمرد والثورة كما قال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أما القول إن الرئيس السادات قد تحفظ علي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الاقتصادي بعبارة مع الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معها.. فكان المقصود بها النصوص الخاصة بحرية الارتداد عن دين الإسلام وما شابه ذلك من الأساسيات القطعية التي لا جدال فيها ولا يدخل فيها موضوع الإضراب.. وفضلا عن ذلك فإن وزارة الخارجية المصرية لم تبلع الأممالمتحدة بذلك التحفظ في الاتفاقية التعاقدية، وأنا مسئول عن هذه المعلومة.. ولا أزيد والله أعلم.