أصدر رئيس هيئة السكك الحديدية قرارا صحيحا بتجميد وحفظ التحقيقات التي تجريها النيابة الإدارية مع 20 من سائقي القطارات الذين قادوا إضراب السائقين يومي الأحد والاثنين 14 و15 أبريل 2013. وكان سائقو قطارات سكك حديد مصر قد أعلنوا إضرابهم عن العمل وإيقاف القطارات علي جميع خطوط السكك الحديدية اعتبارا من العاشرة صباح الأحد 7 أبريل الحالي، بعد أن فشلت المباحثات مع المسئولين في وزارة النقل وهيئة السكك الحديدية وعدم الاستجابة لمطالبهم المشروعة وأهمها: - صرف حافز طبيعة عمل بحد أدني 300 جنيه، وهو الحافز الذي يتقاضاه كل العاملين بالهيئة. - صرف بدل وجبة أسوة بالعاملين بالمترو. - زيادة حافز السائقين من 11 قرشا إلي 25 قرشا علي الكيلو متر الواحد، حيث لم تتم أي زيادة منذ 8 سنوات. - ضرورة عمل صيانة حقيقية للقطارات وتوفير قطع الغيار وتطوير العربات لتصبح صالحة للاستخدام الآدمي، وتحويل المزلقانات المفتوحة إلي آلية إلكترونية.. وجميعها مطالب تستهدف حماية أرواح الركاب والمواطنين عامة والنهوض بمرفق السكك الحديدية. في البداية تعاملت الحكومة والهيئة بالمنطق الأمني السلطوي وحده، فأحالت السائقين إلي النيابة الإدارية بهدف توقيع العقاب عليهم والذي يصل لخصم 15 يوما من المرتب والإيقاف عن العمل ثلاثة شهور وفقا للائحة التشغيل بهيئة السكك الحديدية، باعتبار الإضراب عن العمل جريمة! وفي الوقت نفسه أرسلت الهيئة قائمة بأسماء 100 سائق تقل أعمار كل منهم عن 45 عاما إلي وزارة الدفاع ليتم تجنيدهم وإجبارهم علي قيادة القطارات وإخضاعهم للمحاكمة العسكرية باعتبارهم مجندين خالفوا ورفضوا تنفيذ الأوامر العسكرية أثناء تأديتهم للخدمة العسكرية، وهو إجراء باطل قانونا، حيث إن التعبئة العامة لم يتم إعلانها وبالتالي لا تملك السلطة استدعاء السائقين للخدمة العسكرية. وبسرعة تراجعت السلطات أمام صمود السائقين والتضامن الواسع الذي وفرته أحزاب سياسية وقوي اجتماعية، ومساندة الرأي العام رغم المصاعب التي واجهت الراغبين في السفر في كل مدن مصر، إضافة إلي تنبهها في اللحظة المناسبة إلي مجموعة حقائق. أولها أن سائقي وعمال السكك الحديدية قطاع له خبرة نضالية طويلة وتاريخ في الإضرابات تعود إلي مطلع القرن الماضي، ففي ظل تجريم تأسيس النقابات خلال الاحتلال البريطاني، أسس عمال السكك الحديدية نقابة سرية عام 1908 تحت اسم «الجمعية السرية لبؤساء السكة الحديد»، وفي يناير 1911 وبعد إضراب واسع نظمه عمال السكك الحديدية (أكتوبر 1910) أسس عمال السكك الحديدية أول تنظيم نقابي علني تحت اسم «جمعية عمال عنابر السكة الحديد بالقاهرة»، وخلال ثورة الشعب المصري ضد الاحتلال عام 1919 كان إضراب عمال عنابر السكك الحديدية هو الطلقة الأولي في الثورة، وفي ظل حصار تكوين النقابات العمالية بادر سائقو وعمال السكك الحديد عام 1935 بتشكيل «الرابطة العامة لسائقي ووقاد القطارات وعمال الحركة الميكانيكية والكهربائية»، وهذه الرابطة – التي تغير اسمها بعد ذلك ليصبح «الرابطة العامة لقائدي القطارات ومساعديهم بالهيئة القومية لسكك حديد مصر» – هي التي قادت إضراب 1986 والذي يعد علامة في تاريخ الطبقة العاملة المصرية. الحقيقة الثانية أن حق الإضراب أحد الحقوق الأساسية للعاملين في مصر طبقا للدستور والقانون، لقد نص قانون العمل 12 لسنة 2003 لأول مرة علي حق العمال في الإضراب في مادته 192، ولكن القيود التي وضعها القانون لممارسة حق الإضراب أدي إلي إلغائه عمليا. ومن الناحية الفعلية فقد مارس العاملون – قطاع عام وخاص – حق الإضراب بعيدا عن نصوص هذا القانون، وجاء إضراب سائقي السكك الحديدية عام 1986 ليسقط كل النصوص المقيدة لحق الإضراب ويؤكد هذا الحق قانونا. في عام 1982 قادت الرابطة إضراب تباطؤ لمدة ساعتين للضغط علي الهيئة والحكومة للاستجابة لمطالبهم المشروعة، وظل الصراع مستمرا حتي عقد اجتماع في 19 ديسمبر 1985 حضره وزير النقل والمواصلات ورئيس هيئة السكك الحديدية وممثلون عن السائقين، ووافق الوزير علي كل مطالب السائقين، ومرت الشهور دون أي تقدم، وفي الاجتماع الشهري للرابطة في 2 يوليو 1986، احتشد حوالي 300 سائق في مقر الرابطة، وأعلنوا الاعتصام بالمقر حتي يحضر المسئولون لمناقشة مطالبهم، وحضر نائب وزير المواصلات وكبار ضباط الداخلية واتفقوا مع المعتصمين علي حضور الوزير يوم 7 يوليو علي أن يفض العمال اعتصامهم، وهو ما حدث بالفعل، وقبل الموعد المحدد بأربعة وعشرين ساعة استدعي مساعد وزير الداخلية قادة الرابطة ليبلغهم بتأجيل الموعد لانشغال الوزير، وفي صباح 7 يوليو توافد مئات السائقين والمساعدين علي مقر الرابطة (حوالي 1000 منهم)، وقرروا تحديد موعد الإضراب في السادسة مساء 7 يوليو 1980، ومع بدء الإضراب توالت المحاولات لحل المشكلة، وحضر أحمد طه النائب اليساري واتصل بوزير النقل واصطحب وفدا من السائقين للاجتماع بالوزير الذي اشترط وقف الإضراب لاستمرار الحوار، واستمر الحوار حتي الواحدة والنصف صباح اليوم التالي (8 يوليو) وتم الاتفاق علي استئناف الاجتماع ظهر نفس اليوم (8 يوليو 1986) علي أن يتم فض الإضراب قبل ذلك، وكعادة حكام ذلك الزمان قامت قوات الأمن المركزي وعند فجر يوم 8 يوليو ومعها فرق الكاراتيه باقتحام مقر الرابطة وفض الاعتصام بالقوة ووحشية والقبض علي الموجودين واعتقالهم وتقديم 37 متهما للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة العليا طوارئ وفي 16 أبريل 1987 أصدرت المحكمة برئاسة المستشار «محمد أمين الرافعي» وعضوية المستشارين «أحمد عبدالوهاب» و«محمد منصور عبدالله» حكمها ببراءة المتهمين جميعا وأكدت في حيثياتها حقيقتين هامتين: الأولي: «أن المحكمة وقد استقر في وجدانها أن ذلك الإضراب ما كان يحدث من تلك الفئة من العمال – وقد كانت مثالا للالتزام والتضحية – إلا عندما أحست بالتفرقة في المعاملة والمعاناة الحقيقية للحصول علي ضروريات الحياة، لتهيب بالدولة العمل علي سرعة رفع المعاناة عن كاهل فئات الشعب المختلفة حتي لا يستفحل الداء ويعز الدواء». الثانية: إن الإضراب عن العمل أصبح مشروعا في مصر.. «فالنصوص الواردة في قانون العقوبات الخاصة بتجريم الإضراب (124، 124 «أ»، 124 «ب»، 124 «ج»، و374 و375) قد تم نسخها بالاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي نشر في الجريدة الرسمية بقرار رئيس الجمهورية رقم 537 لسنة 1981 وأصبحت الاتفاقية جزءا ملزما من القانون المصري لأنه نال من حيث الزمن لنصوص قانون العقوبات وقد أخذ القضاء المصري بهذا الرأي في حكمين: - حكم صادر من محكمة أمن الدولة العليا طوارئ القاهرة في قضية النيابة العامة رقم 4190 سنة 86 الأزبكية. - حكم صدر في 10/3/1991 من المحكمة التأديبية بطنطا. باختصار أصبح الإضراب في مصر مشروعا مشروعا.