لا أظن أن تاريخ العالم عرف «مفكراً» يمكنه أن يتحمل الأوزار التى يتحملها «المفكر» و«الفيلسوف» برنارد هنرى ليفى الذى ادعى لنفسه مسئولة عن هجمات الناتو على ليبيا. العالم كله يئن وينزف دما منذ انتهى الزمن الجميل أو La Belle Epoque الممتد من 1871 حتى 1914، لكن نصيب ليبيا من هذه العذابات يفوق الاحتمال، خاصة الفصل الأخير من تاريخها. فى البداية، يوم سمعت بانقلاب ليبيا فى 1969 تصورت أن التاريخ يتحرك للأمام. طرت فرحا. نزلت إلى الشارع مبتسما، نشوانا. كنت أعتبر ليبيا الملكية مزرعة اسرائيلية أمريكية - بريطانية. تصورت أن نظامها الجديد سيكون سندا للقومية العربية. ثم تساقط الوهم، قطعة قطعة، بمرور الأيام. صرت اعتبر القذافى مهرجاً يقلد عمر الجيزاوى وهو يظن نفسه يقلد عبدالناصر (بعد أن أوهمه بذلك عبدالناصر). ثم تبين لى أنه ديكتاتور مرعب، بعد أن حكى لى أقاربى من البسطاء العائدين من ليبيا ما صنعه نظامه بهم وبالليبيين. لكنى بكيت من أجله وهو يقتل فى الصحراء الليبية. وبكيت من أجل ليبيا التى لا تزال أحشاؤها تتقطع بنصال الفوضويين الذين حشدهم الناتو ووزع عليهم النصال المسمومة. من يقول لى: هذه نظرية المؤامرة أقول له «إخرس يا أهبل»!!. اقرأ ما يقوله برنارد هنرى ليفى عن كل ما يجرى. يتحدث ليفى عن ثلاث شموليات هددت عالمنا: الشمولية النازية، والشمولية السوفيتية، والشمولية الإسلامية. الأولى والثانية حقيقتان تاريخيتان رسختهما أوروبا الغربية وحليفها القوى وراء المحيط (الولاياتالمتحدة) لكسر إرادات أوروبا الوسطى والشرقية وطردها من السباق على المستعمرات والأسواق. وبهذا الإقصاء أصيبت الرأسمالية الألمانية الجبارة والوطنية الروسية الجبارة بجنون يصيب العمالقة التى تحبس فى أقفاص فولاذية. وتضخمت نوازع ظلم المواطن فى الداخل ومخاصمة العالم الخارجى فى كل من ألمانيا النازية وروسيا السوفيتية. الحصار والإقصاء حوّلا التجربتين الأمانية والسوفيتية إلى وحشين لا يمكن التعايش معهما. موقفى من النازية هو موقف مصطفى النحاس منها. أرفضها لصالح الديمقراطية الغربية، وبشروط وطنية. وأزيد على ذلك إدانة محرقة اليهود. وموقفى من النظام السوفيتى تغير من الانبهار العميق والشعور بالعرفان عندما رأيت السلاح والخبراء السوفيت يتدفقون علينا بعد هزيمة 1967 إلى المرارة والحسرة لأن تجربة عظمى صارت كابوساً بشعاً. فماذا عن الشمولية الثالثة التى يتحدث عنها برنارد هنرى ليفى، الشمولية الإسلامية؟ هذه حركات فوضوية (أناركية خضراء) طبخها الغرب (خاصة الغرب البروتستانتى) وهى تتصاعد اليوم باتجاه التبخر النهائى. قد تبقى داعش لمدة أطول من غيرها، لأن دورها أخطر من الدور الذى أنيط بحماس فى فلسطين. كل ما كان مطلوبا من حماس هو تأسيس «نواة» لدويلة اسلامية على منطقة هى أقل من خمس لندن الكبرى من حيث المساحة. أما داعش فهى مسيطرة، حتى الآن، على مساحات شاسعة فى سوريا والعراق (لاحظ التواصل الإقليمى بين المناطق التى تسيطر عليها داعش وبين تركيا). لكن داعش تنكمش وأنا أكتب هذه الكلمات، وحتى إن بقيت كما بقيت طالبان فهى لن تكون نموذجاً يحتذى بقدر ما ستكون ضوءاً كاشفاً لبشاعة النموذج البروتستنانتى للإسلام، ذلك الذى «استشهد» من أجله فى 1915 الكابتن وليم هنرى شيكسبير الذى ضحكت عندما تبرأ منه الإسلاميون فى اسطنبول قبل أيام، وهو ملهمهم ومؤسس حركتهم. وقبل أن تسقط داعش نهائياً ستكون الأصولية المسعورة على فراش الاحتضار وقد ندفن إلى الأبد الكونت دراكولا المعروف باسم الشيخ حسن البنا. قد تتعجب من أن يهوديا فرنسيا مثل ليفى يدخل على خط الكابتن شيكسبير البريطانى. لكن يجب أن تتذكر أن المتصوف والفيلسوف الفرنسى الكبير لوى ماسينيون زامل توماس لورانس كضابطين برتبة كولونيل يخدم كل منهما مخابرات بلاده ويساند السيدين مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو وهما يضعان طبعة 1914 من خرائط المنطقة التى يعيد الغرب اليوم رسم خريطتها. التصدى للصعود الألمانى، الذى بدأ فى 1870، هو أساس خريطة 1914 التى بقيت أكثر من سبعين عاماً بقوة التصدى للصعود السوفيتى، وبمجرد سقوط المنظومة السوفيتية فى 1990 بدأ الإعداد للخريطة الجديدة للمنطقة بالغزو العراقى للكويت، لكن مبادرات حسنى مبارك ساهمت فى تعطيل رسم الخريطة الجديدة. أما وقد ذهب مبارك بحسناته وسيئاته فالرسم شغّال. وقد ضمن ساركوزى، سليل النبلاء الهنغاريين اليهود، مكانا لفرنسا فى عملية الهندسة الإقليمية الراهنة، ليس بأهمية المكان الذى كان لفرانسوا جورج بيكو فى 1914 لكنه أفضل من البقاء فى برد التجاهل والإقصاء. وهكذا أصبح لبرنارد ليفى دور. والهدف النهائى هو خلق الفيدرالية الأوروبية. فهل يعنى هذا إلغاء الوضع الاستثنائى الذى رتبته خرائط 1914 للولايات المتحدة فى منطقتنا التى تلعب فيها أوروبا من أيام الإسكندر الأكبر؟ جائز جداً. بدليل أن أوباما يخشى اليوم أن تضع أمريكا قدميها مرة أخرى على تراب المنطقة وتكتفى بالغارات الجوية. فما هى أوروبا الجديدة التى سنلقاها فى الجيل القادم؟ الأرجح أنها ستكون أوروبا البطالمة والحضارة الهلينية التى امتزجت بالشرق وارتكزت إلى الاسكندرية بنفس الدرجة التى ارتكزت بها إلى أثينا. وهذه غاية لن نبلغها إلا بعد عذاب وبتكاليف مرعبة. لهذه الغاية خططوا للربيع العربى كما خططوا للثورات الملونة فى شرق أوروبا من قبل. يعتبر إيمانويل وولرستاين، وهو أشهر منظرى النظام الدولى، أنه بعد قيام الثورة الفرنسية لم يعد ممكناً لأى بلد فى العالم أن يرسم خريطة طريقه إلا برضا النظام الدولى. أقول النظام الدولى مسكون بهاجس نشر الفوضى المسلحة. ولنا نصيب معتبر من هذا السيناريو البشع الذى كتبه مؤلفون يسمى الواحد منهم بالروسية «الكاردينال الرمادى» لكن أحدهم وهو برنارد ليفى يخرج للعلن، بكل ألوانه البراقة ويعلن مسئوليته عن كل ما يرتكب من جرائم. وتقول لى هذه نظرية المؤامرة؟ مرة أخرى أقول لك: إخرس يا أهبل!!