أهمية إقامة المهرجانات في مصر خلال هذه الفترة، وخاصة الغنائية منها تساوي أهمية توفير الخبز، والكهرباء، والأمن للمواطن. وتكمن تلك الأهمية في أنها تعكس حالة الاستقرار التي يعيشها المواطن المصري داخل وطنه بالدرجة التي جعلته يخرج وينطلق ويغني مع كل أفراد أسرته بعد سنوات عاشها متقوقعا داخل منزله بسبب غمة الإخوان، وحالة الانفلات، وعدم الاستقرار التي عشناها معهم. لذلك جاء مهرجان القلعة للموسيقي والغناء في دورته ال 23 والتي تختتم فعالياتها الليلة ليعطي انطباعا للعالم كله ان مصر مازالت بكل خير، رغم بعض التجاوزات التي يقوم بها أعضاء الجماعة الإرهابية بين الحين والآخر. وأهمية مهرجان القلعة والذي يعتبر هو أهم المهرجانات في مصر، ويزاحم في أهميته مهرجانات أخري في العالم العربي، ان فلسفته تقوم علي إشباع رغبة المواطن الغلبان، لذلك اطلقنا عليه في «الوفد» منذ إنشائه مهرجان «الناس الغلابة»، وهو الاسم الذي أصبح ملتصقا به منذ هذه الفترة. ففي محكي القلعة كانت البداية مع الأسر الفقيرة التي كانت تصطحب معها المياه المثلجة وبعض السندوتشات، ثم بداية رحلتهم اليومية مع الانماط والأشكال الموسيقية المختلفة «التخت الشرقي»، و«البند الغربي»، والأوركسترا، ونجوم الطرب العربي مثل علي الحجار ومحمد الحلو وإيمان البحر درويش، ومدحت صالح، ودخل معهم حكيم وإيهاب وتوفيق وأخيراً جيل آخر تمثل في محمد محسن، ودينا الوديدي. مهرجان المحكي الذي بدأ مع الناس الغلابة، وظل لهم وبهم يعمل استقطب شرائح أخري من الجماهير من طبقات أخري وبالتالي أصبح مهرجان كل الناس. وبالمناسبة المهرجان اكتسب شهرته بين المجتمعات الفقيرة لسببين الأول هو ان حفلاته كانت مجانية حتي ثلاث أو أربع سنوات ماضية، والثاني أن أغلب الفنانين التحموا سريعا مع الجماهير الطيبة. هذه الدورة التي تختتم مساء اليوم تكتسب أهمية خاصة تساوي ملايين الجنيهات، لاننا كشعب أو كدولة لو أردت ان تملأ صحافة والقنوات التليفزيونية العالمية إعلانات لن تأتي بمردود حفل غنائي يبث علي الهواء وفي حضور الآلاف من الجماهير، لذلك عندما تجد هذا المكان العريق يقدم يوميا طوال 10 أيام ليالي من الغناء فهذا يعني أننا نقول للعالم ان مصر عادت من جديد إلي شعبها بدليل تلك الصورة المنقولة علي الهواء وهناك عتاب علي تليفزيون الدولة أنها عرض الحفلات علي نايل لايف فقط رغم ان هناك أكثر من فضائية لدينا ذات مشاهدة أعلي، وأكثر أهمية بث مثل هذا المهرجان علي الهواء من قلعة صلاح الدين، والتي تقع في قلب القاهرة أننا نرد به علي أكاذيب قنوات الجزيرة وبعض القنوات العميلة التي تبث سمومها من تركيا. كان يجب علينا ان نقول لهم الصورة لا تكذب. هذه هي القلعة، وهذه هي الجماهير، وهذه هي مصر عاصمة العرب والطرب. كثير ممن حضروا حفلات هذا المهرجان كانوا يرون ان حشود الجماهير القادمة من كل أحياء القاهرة والجيزة، جاءت دون خوف من ان يتسرب خائن بينها، ويضع قنبلة أو خنجرا في ظهر أحد لتوجه رسالة للعالم ان مصر بخير. وان الخائن والعميل ليس له مكان. ويحسب لدار الأوبرا أنها أخذت علي عاتقها تنظيم هذا المهرجان في هذا التوقيت الصعب. والجميل ان برنامج المهرجان تضمن أكثر من جيل غنائي بما يعطي انطباعا للعالم العربي ان مصر تعيش عصر تواصل الأجيال، ولم يعد هناك جيل يسيطر علي الآخر. أو يحصل علي فرصة الآخرين. ومع زيادة أهمية المهرجان، والذي يحتفل بالعيد الفضي له في الصيف بعد القادم أصبح هناك طموح أكبر لدي الجماهير التي تتابعه وهو مشاهدة كبار نجوم الغناء العربي إلي جانب كبار المطربين المصريين حتي يخرج المهرجان من دائرة المحلية إلي بقعة أوسع وأرحب، خاصة ان وجوده في أحضان القلعة يعطيه فرصة أكبر للانتشار، لان مهرجان قرطاج في تونس أكتسب شعبيته من وجوده في هذا المسرح الذي يعود للعصر الروماني، وبالمناسبة مسرح المحكي أكثر أهمية من قرطاج، ونفس الأمر بالنسبة لجرش بالأردن. لذلك وجود مطربين عرب ممن لهم شعبية كبيرة ضرورة. هذا العام قدم المهرجان فعالياته علي مسرح المحكي فقط لظروف أمنية بعد ان كان يقدم علي أربعة مسارح في أماكن أخري من القلعة وعودته خلال السنوات القادمة إلي طبيعته الأولي يزيده أيضا أهمية. واختلافاً عن باقي مهرجانات الكرة الأرضية. ونجاح السيطرة الأمنية هذا العام عليه يجعلنا نطالبهم بأن يعود المهرجان كما كان في السنوات الماضية. حتي نجعل من هذه القلعة، مركزاً مشعاً للموسيقي والغناء. وهذا ليس بالغريب علي مصر وطن أهم القامات الموسيقية والغنائية في العالم العربي من سيد درويش، مروراً بعبدالوهاب والقصبجي والسنباطي وأم كلثوم وحليم ونجاة وليلي مراد والطويل والموجي ومحمود الشريف وبليغ حمدي ومحمد سلطان وحلمي بكر ومحمد علي سليمان، وعمر خيرت وياسر عبدالرحمن، والحجار والحلو، أجيال وأجيال. سطروا هذا التاريخ، وعلينا ألا نترك ما صنعه الرواد، والحفاظ عليه لن يأتي إلا بمثل هذه المهرجانات، والاعتماد علي ما تركه الرواد. الغناء والقلعة وجهان لعملة واحدة يؤكدان أهمية وريادة مصر علي الصعيدين الفني والحضاري.