في انتظار تشكيل مجلس النواب المقبل، واكتمال المؤسسات الدستورية للدولة، يزدحم المشهد الداخلي بتفاصيل من شأنها تقليل فرص نجاح القوى الثورية في تجسيد الثورة المصرية برلمانياً، علي نحو يؤكد علي مبادئها، ويدعم من وجودها ثقافة مجتمعية حاكمة للمسيرة الوطنية سعياً إلي حياة أفضل لطالما تطلعت إليها الجماهير الثائرة، وبشرت بها القوى الثورية الحقيقية، وفي مقدمتها الوفد. في هذا السياق تأتي «الضائقة الانتخابية»، وقد باتت قاسماً مشتركاً في أجندة الأحزاب الثورية، علي اختلافها، وهي بالقطع معاناة أفرزتها مجموعة من العوامل المسيئة للتجربة المصرية الساعية نحو تحول ديمقراطي حقيقي وجاد. ويأتي قانون انتخابات مجلس النواب علي رأس هذه العوامل، بتفاصيله المواتية لعودة الأنظمة التي أسقطتها الثورة المصرية، سواء في الخامس والعشرين من يناير، أو في الثلاثين من يونيو؛ ففي النظام الفردي يعلو صوت جملة من الأدوات الانتخابية البالية، علي رأسها المال السياسي، من شأنها تمهيد الطريق أمام نوعية من النواب لا يمكن أن تكون علي صلة بقيم ومبادئ وأهداف الثورة. والواقع أن قراءة متأنية وفاحصة لقانون انتخابات مجلس النواب، لا ينبغي أن تتم بمعزل عن متابعة حملات التشويه التي تعرضت لها الأحزاب، طعناً في وجودها، وجدواها، وإنكاراً لما قامت به من دور محوري. فليس بعيداً عن الموقف التاريخي للوفد يمكن التأريخ لثورة يناير المجيدة، فقد كان انسحاب حزب الوفد من آخر انتخابات برلمانية لنظام مبارك عام 2010، تجسيداً واضحاً لسحب ثقة الحزب من نظام مبارك المستبد، فيما عده رموز نظام مبارك «المعول» الأول لهدم شرعية حكم مبارك. من جهة أخرى، ففد احتضن حزب الوفد جبهة الإنقاذ في مواجهة نظام الإخوان الإرهابي، وأصر من خلالها علي رفض انحراف الإخوان بثورة يناير إلي حيث منافعهم الذاتية، القاصرة عن بلوغ طموحات الشعب المصري، وأهداف ثورته الملهمة، فكانت الجبهة نواة صيغة جامعة لأركان الدولة المدنية، استندت إليها المؤسسة العسكرية في انحيازها للإرادة الشعبية الجارفة في الثلاثين من يونيو، في مواجهة قوى الدولة الدينية. وقد حملت تلك الأحداث ملامح وطنية تصب بالقطع في رصيد الأحزاب، لم تكن مناسبة لتتحقق في ظلها أحلام العودة الماثلة في أذهان الأنظمة الفاشية التي أسقطتها الثورة؛ ومن ثم تحركت تلك «القوى الرجعية»، وبدلاً من أن تشهد الساحة الداخلية تكثيفاً للجهود نحو ترسيخ مفهوم العمل المؤسسي في الحياة السياسية، بما يُعدل من الصورة الذهنية للأحزاب، وقد تم تشويهها علي مدى عدة عقود، ابتعد فيها الوطن عن كافة القواعد الديمقراطية، فقد راحت الفعاليات تلو الأخرى تحيط الأحزاب بما يكبل خطواتها، حاجزة التجربة المصرية عن الأخذ بأسباب اللحاق بالمجتمعات الديمقراطية. وإلي جانب حملات تشويه الأحزاب، لم يتوقف الأمر عند حد قانون انتخابات مجلس النواب لإحكام «الضائقة الانتخابية» حول الأحزاب، إلي أن شاع الجدل حول الدوائر الانتخابية، بفعل التباطؤ في إعداد مشروع قانون تقسيمها، انتظاراً لوضع خريطة المحافظات الجديدة؛ ومن ثم نشهد تراخياً في باقي الإجراءات الانتخابية، من فتح باب تلقي طلبات المرشحين، إلي النظر في الطعون المقدمة، إلي تحديد فترة الدعاية الانتخابية، وغيرها من الخطوات الإجرائية المتتابعة. وعلي هذا النحو وغيره، يرتبك المشهد الداخلي، وتزداد ضبابية الصورة كثافة، بينما الأحزاب حبيسة ما تعانيه من «ضائقة انتخابية»، تلتمس في التحالفات الانتخابية مخرجاً، تُنير به الطريق أمام المسيرة الوطنية، وتنهض به بدورها في تلك اللحظة التاريخية من عمر الوطن. وعلي عكس المأمول، فقد بات الظرف مواتياً رحباً أمام تصاعد «الخلافات» فيما بين أطراف «الضائقة الانتخابية»، وتزايدت فرص الانشقاقات في الصف الوطني، وطال انتظار المواطن المشغول بدقائق حياته اليومية الصعبة، بينما باعة الأنظمة المستبدة يهيئون له بضاعتهم الفاسدة، من منتجات مبارك وبديع علي السواء. والحال كذلك، يُحلق سرب العمل الوطني مُفتقداً جناحه التشريعي، وحكومة سياسية تُضيف بُعداً لا يمكن التقليل من شأنه إذا ما أردنا لعملية التحول الديمقراطي قدراً أكبر من مفهومها المتداول في المجتمعات الديمقراطية.