الجريمة نتاجٌ طبيعي للحياة الإنسانية على سطح الأرض منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام, وإلى أن تقوم الساعة, فلقد قال عز وجل في محكم كتابه «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة, قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك, قال إني أعلم ما لا تعلمون». وغنيٌ عن الشرح أن التعبير بالإفساد وسفك الدماء يشمل كل الجرائم المقننة التي نعرفها وغيرها مما قد يُستجد, كما أن التعبير القرآني بالفعل المضارع «يفسد ويسفك» يفيد الاستمرارية, وبالتالي فقد كانت الجريمة مع بدء الخليقة بما اقترفه قابيل حينما طوعت له نفسه قتل أخيه هابيل, وستستمر مادام الله سبحانه وتعالى – ولحكمته الإلهية– قد خلق الخير والشر والنور والظلمات.ولكن ذلك الذي سبق في علم الله, لا يتعارض إطلاقاً مع ما أمرنا به عز وجل من تعقبٍ للشر واقتلاع جذوره ومحاربةٍ للجريمة وإنزال العقاب على فاعلها, فلقد ورد الكثير من الآيات القرآنية التي تفرض القصاص من الجناة وتنزل العقوبة بالعُصاة وتوجب درء المفاسد ومحاربة الفتن وتطهير الأرض من المفسدين. والجريمة في القانون الوضعي تتكون من ثلاثة عناصر: الفعل والضرر وعلاقة السببية, فمثلاً إذا ألقى شخصٌ بحجرٍ فذلك هو الفعل, فإذا أصيب آخر بجرح فذلك هو الضرر, فإذا ثبت أن جرحه كان نتيجة اصطدام الحجر به فتلك هي علاقة السببية بين فعل الأول وما ترتب عليه من ضرر للثاني. ومرتكب الجريمة يُطلق عليه وصف الجاني, ومن وقعت عليه يوصف بالمجني عليه, والتشريع العقابي لا يعنيه في الجريمة إلا الجاني, سواءٌ كان واحداً أو أكثر, فاعلا أصلياً أو شريكاً, فيقرر العقوبة المناسبة للجريمة وظروفها, بهدف تحقيق أمرين, الأول هو الردع الخاص أي القصاص من الجاني ذاته, والثاني هو الردع العام بترهيب الغير حتى لا يرتكب مثلها. ولكن المنظور الاجتماعي للجريمة دائماً ما يكون أشمل وأوسع, فهو لا يقتصر على الجاني فقط ولكنه يتطرق إلى المسئول عنها سواء كان شخصاً أو ظرفاً, بُغية الوصول إلى أسبابها والقضاء عليها أو الحد منها, وهنا تتضافر لدراستها علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة وغيرها. وللتفرقة بين المنظورين نسوق مثلاً بسيطاً بجريمة السرقة من داخل سيارة, فالجاني بالمنظور العقابي هو من ارتكب فعل السرقة, وعليه وحده توقع العقوبة المقررة قانوناً, أما بالمنظور الاجتماعي فإن المسئولية عن الجريمة تتخطى الجاني لتشمل الظروف المحيطة التي هيأت أو سهلت لحدوثها, مثل ضعف التواجد الأمني أو إظلام المنطقة أو إهمال المجني عليه بترك السيارة مفتوحةً أو بها متعلقاتٌ مغريةٌ بشكلٍ ظاهر. من هذه المقدمة وبها أنتقل إلى الحديث عن جريمة التحرش البشعة التي تعرضت لها إحدى المواطنات المصريات أثناء تواجدها بداخل الحشود الجماهيرية بميدان التحرير يوم8/6/2014 وهي الواقعة التي هزت مشاعر الجميع, وكانت محلاً لاهتمام كل المسئولين وأجهزة الإعلام والمهتمين بالشأن العام. وإذا كانت هذه الجريمة ليست جديدة على المجتمع المصري, إلا أن تكرارها خلال فترات وجيزة, وتعدد الجناة في كثير من وقائعها, ثم ارتفاع درجة الفجور إلى حد ارتكابها في الأماكن العامة, ينذر بأن تصبح ظاهرة عامة تهدد كيان المجتمع كله. لذلك يجب وبمنتهى السرعة والموضوعية والحسم تناول كل الظروف المحيطة المسئولة عن نشوء وتنامي تلك الجريمة, حتى نصل إلى الإطار العام الذي يقضي عليها تماماً, لا مجرد الحد منها فقط. ومن هذا المنظور الاجتماعي, فقد تحدث الكثيرون عن مسئولية الدولة وكل مؤسسات المجتمع المدني, في مجالات التعليم والثقافة والأمن والرعاية الصحية والاقتصادية والدينية، إضافةً إلى التشريعات العقابية المطلوبة والعدالة الناجزة المأمولة, وكلها آراءٌ جيدة ويتعين على الدولة وضع خطة واضحة يمكن تنفيذها على تلك المحاور , وألا تكون المواجهة بمجرد قراراتٍ شكلية ترضى فقط المزاج العام دون مردودٍ إيجابىٍ مؤثر, مثلما قررته وزارة الداخلية بإنشاء أقسامٍ خاصة لجريمة التحرش. تبقى كلمةُ حقٍ أنصح بها كل نساء مصر الفضليات, ونحن في زمنٍ يعج بالفتن, أن يتمسكن بكل القيم النبيلة والتقاليد الحميدة التي تميزنا عن سائر شعوب العالم, والتي ساعدت على تماسك شعوبنا العربية والحفاظ على هويتها الذاتية, طوال قرونٍ طويلة مضت, وكانت المرأة هي حجر الأساس فيها, بحيائها ووقارها ووعيها وقوة شخصيتها وصلابة إرادتها, وأناشد المتشدقين بالحرية الكف عن تحريض نسائنا على السفور والابتذال, فتاجُ المرأة حياؤها, وسياجُ أمنها دينها والتزامها فى المظهر والجوهر والسلوك, وهى قيمٌ واجبةٌ على الاطلاق من أجل سمو ورقى المجتمع , بقدر ماهى صمام أمانٍ لصد كل ما يحيق به من إخطار.